د. محمد عبدالله القواسمة - القراءات الأولى..

تمحورت قراءاته الأولى، وهو في مرحلة الصبا على الكتب الأدبية، وقليلًا ما قرأ كتابًا في الفكر، أو الفلسفة، أو السياسة، أو الدين، وانصب اهتمامه على قراءة نوع من الأدب، هو الأدب الرومانسي شعره ونثره، وما يتصل به من نقد.

قرأ مؤلفات جبران خليل جبران، وتأثر لما صادفه جبران في حبه العذري من عقبات في قصته "الأجنحة المتكسرة"، وتألم لما جرى لحبيبته سلمى حين أُجبرت على الزواج من ابن المطران، ولما تعرضت له من ظلم على يديه، ثم وفاتها حزنًا على طفلها الذي توفي بعد ولادته مباشرة.

ثم قرأ مقالات المنفلوطي وقصصه القصيرة الموضوعة والمقتبسة في كتابيه: "النظرات" و"العبرات"، وأعجب بما تتميز به من مبالغات وعواطف جياشة. وقرأ رواياته التي نقلها من الفرنسية بوساطة أصدقائه، وهي: "الشاعر"، و"في سبيل التاج"، و"بول وفرجيني"(الفضيلة)، و"تحت ظلال الزيزفون" (ماجدولين). وذرف الدموع بغزارة عندما انتهى من رواية "بول وفرجيني" التي أجاد فيها المنفلوطي وصف الحب العذري بين العاشقين، ووصف العاصفة التي حطمت السفينة التي كانت على ظهرها فرجيني، ولم يكتف ببعث الحزن على غرق فرجيني بل أتبعه باستدرار الحزن على موت كثيرين من أهلها، ثم موت حبيبها بول ووالدته، فضلًا عن الخادميْن في منزلي العاشقين. كل هؤلاء ماتوا من الحزن على فرجيني.

وطاف خياله حول بحيرة بورجيه الفرنسية مع الشاعر الرومانسي الفرنسي لامرتين وحبيبته جوليا التي التقاها في المكان، وكان الاثنان في رحلة علاج ونقاهة، وتعاهدا على أن يكون الحب بينهما حبًا روحيًا منزهًا عن رغبات الجسد، وافترقا ليلتقيا في العام المقبل. ويأتي لامرتين في الموعد لرؤية جوليا، لكنها لم تأت، ويعلم بموتها، فيقول قصيدة عذبة عنوانها "البحيرة" التي ترجمها الشاعر نقولا فياض، حفظها صاحبنا، وكثيرًا ما كان يردد منها هذه الأبيات الحزينة:

أهكـذا أبــداً تمـضـي أمانيـنـا نطوي الحياةَ وليلُ المـوت يطوينـا

تجري بنا سُفُـنُ الأعمـارِ ماخـرة بحرَ الوجـودِ ولا نُلقـي مراسينـا؟

بحيرةَ الحـبِّ حيّـاكِ الحيـا فَلَكَـمْ كانـت مياهُـكِ بالنجـوى تُحيّينـا

قد كنتُ أرجو ختامَ العـامِ يجمعنـا واليـومَ للدهـر لا يُرجـى تلاقينـا

ومن الكتب النقدية التي تناولت الأدب الرومانسي استهواه كتاب في "أدب المهجر" لعيسى الناعوري. تعرف من خلاله إلى كثير من الشعراء المهجريين الذين هجروا بلادهم لأسباب سياسية وظروف اقتصادية، كما يجيئ على لسان أحدهم وهو الشاعر رشيد الخوري الملقب بالقروي.

ولو خيرت لم أهجر بلادي ولكن ليس في العيش اختيار

تشرب أدب الجميع سواء من أعضاء الرابطة القلمية، التي تكونت في أمريكا الشمالية، على رأسها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، أم من أعضاء العصبة الأندلسية، التي تكونت في أمريكا الجنوبية على رأسها أمين الريحاني. لقد ذاب قلبه في أدبهم الرومانسي الذي تشبع بالحنين إلى الوطن، والتغني بجمال الطبيعة، وبالأخوة الإنسانية، والغزل العفيف، والشكوى من فراق الأهل والأوطان.

فضلًا عن الأعمال السابقة اطلع صاحبنا على أشعار العذريين العرب وعشاقهم، من أمثال: قيس بن الملوح، وجميل بثينة، وعروة بن حزام، ثم أتباعهم من الشعراء الرومانسيين المحدثين: أبي القاسم الشابي وإبراهيم ناجي وعلى محمود طه وغيرهم. كما قرأ روايات أجنبية كبؤساء فيكتور هوجو، وغادة الكاميليا، وآلام فيرتر، وتاييس وغيرها من الأعمال الرومانسية.

لقد تركت تلك الأعمال أثرها في عقل صاحبنا ووجدانه، وامتد ذلك إلى حياته الاجتماعية وأسلوب تعامله مع الناس والأهل والأقارب. وهو يضع هذا التأثير في نوعين: إيجابي وسلبي. فمن الناحية الإيجابية أمضى أوقاتًا جميلة في تخيلات عذبة متتبعًا السواقي والطيور، ومتنقلًا بين الأماكن والآثار ممتلئًا بالأحلام الرائعة، ثم صار ينظر إلى الإنسان بأنه أخ في الإنسانية، كما أنه صار يعلي من قيم الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، ويتقبل الإنسان عامة دون اهتمام بثقافته وعرقه وأصوله. لقد هذبته تلك القراءات، وجعلت منه عاشقًا للحياة والطبيعة والأدب، وحمته من الوقوع في المحرمات واقتراف السيئات، لقد أضحى مثاليًا في أخلاقه وسلوكه.

أما من الناحية السلبية فكان لتلك القراءات تأثيرًا سيئًا في الإعلاء من شأن العاطفة على حساب العقل، فكان يحزن حزنًا عميقًا عند رؤية مريض أو متشرد، ويبذل ما يقدر للتخفيف من معاناته، وكان يهب لمساعدة من يحتاج إلى المساعدة، وكان يؤثر الآخرين على نفسه حتى إنه كان يقدم ما في جيبه من نقود لمحتاج دون أن يترك له أجرة سيارة تقله إلى البيت. لقد اعتنق المثالية على حساب الواقع؛ فكل الناس أخيار صادقون أوفياء، وتطرف في الحب وتقدير المرأة، فقد كان يجن إذا ابتسمت امرأة في وجهه، ويظن أنها تستحق حبه وإعجابه؛ فالمرأة عنده مخلوقة نورانية، كل شيء فيها جميل وعذب حتى ريقها فهو ألذ شرابًا وأفضل للعاشق المتيم، كما يرى الأعمى التطيلي:

ألا فاعلمي يا عذبة الريق أنني أظل إذا لم أسق ريقك صاديا

وحتى لغتها بدت صعبة عليه؛ فلم يعتد النطق بها؛ لمحدودية النساء اللائي تعرف إليهن. فكان يطرق حياءً عندما يلتقي امرأة، ويتلعثم عند الحديث إليها. لكنه كان يحس باللذة والطمأنينة حين يستمع إلى امرأة، وكأن تاء التأنيث حرف سماوي منعش للجسد والروح.

عندما يتذكر تلك القراءات الرومانسية، ويراجع آثارها في نفسه وسلوكه يأسى لتلك الأفكار التي تمسك بها في تلك الفترة من حياته، ويسخر من نفسه، ويعجب كم كان ساذجًا وغبيًا، ويرى في تلك المثالية نوعًا من المرض النفسي، الذي ابتلي به بسبب تلك القراءات. فالإنسان عامة ليس كاملًا فقد يكذب ويغش، ويخون ويغدر، وينافق ويتملق، والمرأة مخلوق بشري ينمو ويشيخ، ويخطئ ويصيب.

لعل تلك القراءات كانت مناسبة وضرورية للتعايش مع الحياة في تلك المرحلة من العمر، وربما كانت من الأسس المهمة التي تكونت على ضوئها مبادئ صاحبنا طوال سني عمره. وهو حتى الآن لم يهجر قراءة كتب الأدب الرومانسي؛ لكنه لا يتفاعل معها كما السابق؛ فهي تختلف عما يجري في الواقع، إنه يعيش بتوازن بين العاطفة والعقل، وبين المثالية والواقعية، ويفهم الحياة بأنها مبنية على ثنائيات الخير والشر، والحب والكره، والسعادة والشقاء، وتقوم على التغير، كما رأى الفيلسوف هرقليطس، وعبر عنها أبو البقاء الرندي:

هي الأيام كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان.

والآن يرى صاحبنا بأن الذي يقرأ الأدب الرومانسي، ويسير وفق ما فيه من أفكار وعواطف سيعاني من الغربة والوحدة والقلق والكآبة، ويتلقى الصدمات في حياته، خاصة في هذه العصر الذي يطلق عليه بعض المفكرين "عصر التفاهة"، ويصرخ فيه بعض الفلاسفة بأعلى صوته: "وداعًا للمبادئ"!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى