أمل الكردفاني- العدالة كوهم

كان قصور النظرية الحتمية والصراع الطبقي الماركسية، في كونهما مثاليين، رغم المزاعم التي وصف عبرها الماركسيون آراءهم فيها بالعلمية. ويهمني هنا هو الصراع الطبقي كنظرية مثالية، وذلك لأنها افترضت وجود وعي عام وفئوي بالصراع، وهذا ما رماها نحو فكرة أكثر مثالية وهي العدالة، رغم أننا سنثبت -كما فعلنا من قبل- أن العدالة كلمة ذات بعد أخلاقي مثالي وبالتالي فهي ذات بُعد ميتافيزيقي، وأن الفكرة الليبرالية أكثر علمية ومادية من الماركسية (رغم ما يشوبها من بعض المثالية هي الأخرى) في هذا الشأن. لقد كتبنا كثيراً عن أن منح الحق لأصحابه ليس عدالة (بهذا الشعور الأخلاقي المريح)، بل هو مسألة يفترض أن تكون طبيعية، إن الموظف الذي تدفع له رسوم استخراج شهادة فيستخرجها لك -وهذا من حقك- ليس موظفاً عادلاً، بل هو في الواقع يمارس وظيفته، ويقوم بنشاط طبيعي جداً، ولا يختلف حال الموظف هذا عن حال القاضي ولا الوزير ولا الرئيس. وهو -أي هذا الموظف- إذا لم يمنحك حقك فلا يكون ظالماً؛ بل لصاً ومجرماً وعدواً لك، ويمكنك أن تعتدي عليه حتى يرد لك حقك. ففكرة العدالة فكرة وهمية، والغريب أنها وصف لبعض الأعمال دون أخرى، فنحن نقول بأن الحاكم أو القاضي عادل لأنه حكم بالحق ولا نصف الموظف أو البائع بذات الوصف إذا أعطانا حقنا. ويبين هذا أن فكرة العدالة عندنا مشوهة لأنها كلمة مختلطة بجانب أخلاقي خفي زرعه تاريخ الصراع البشري الفوقي مع تجاهل الصراع التحتي. رغماً عن أن الصراعين متشابهان جداً، ولكن بأسلحة مختلفة.
ومن هنا سقطت الماركسية في الميتافيزيقا على وجهها، وحصرت الصراع داخل وعي جمعي طبقي متوهم، رغم أن الصراع ليس جمعياً ولا هو محصور بين طبقات اقتصادية مختلفة، بل على العكس تماماً، إن صراع البروليتاريا ظل دائماً صراعاٍ داخلياً بحسب السقف المعرفي والثقافي الفردي والمشترك لأفراد تلك الطبقة، أما في حالات انتفاضة ما من قِبَل البروليتاريا، ففي الغالب تكون تلك الإنتفاضة مدفوعة من الطبقة البرجوازية لاستغلال البروليتاريا في صراعات داخلية تخص فقط تلك الطبقة البرجوازية أو حتى الارستقراطية (البرجوازية الجديدة).
إذا كنت من المشتغلين بمهنة قانونية، فإنك ستلاحظ أن عمليات الاضطهاد التي تتعرض لها الطبقة الفقيرة، دائماً ما تكون بيد أبناء تلك الطبقة الفقيرة نفسها، الذين يمارسون القمع تلذذاً بالسلطات الصغيرة التي منحتها لهم البرجوازية. لن تجد رجل أعمال ينزل من سيارته ويجلد بائعة شاي فقيرة، ولا متسولاً ولا بائعاً متجولاً أو من يفرش بضاعته على الأرض، ولن تجد برجوازياً يجلد بائعات الهوى والخمور بعد القبض عليهن، ولا يمارس التنمر العنيف، بل ستجد أن كل ذلك يحدث من أبناء البروليتاريا ضد البروليتاريا. حتى على مستوى القمع الشعبي والتعذيب، فإن البرجوازية المتسلطة على الحكم لا تفعل ذلك بيدها بل تأتي بأفراد من الطبقات الوضيعة لتمارس ذلك النوع من الأشغال.
أما الطبقات العليا فلديها صراعاتها الخاصة المنشغلة بها والتي لديها أسلحة مختلفة تماماً تستعمل فيها.
ولا تملك البروليتاريا وعي الصراع الطبقي ولا حتى تَفَهُّم تلك الأسلحة التي تمتلكها الطبقة البرجوازية.
لقد كنت أقرأ في تاريخ الصين قصة أحد الفلاحين والذي قاد ثورة ضد الامبراطور وهزمه وأصبح امبراطوراً ليبدأ اصلاحات اقتصادية تضر بالطبقة الارستقراطية، ولقد تساءلت فوراً عن كيفية تركه باقياً في الحكم، ولكن لم يخب ظني طويلاً إذ أن الفلاحين أنفسهم تمردوا عليه وشنقوه. لكن لماذا تساءلت ذلك السؤال؟
الإجابة هي أنني كنت متأكداً من أن الفلاحين ما كانوا ليثوروا من تلقاء أنفسهم، لا ضد الامبراطور الأول ولا ضد الفلاح الذي صدق نفسه. ذلك أنه لا توجد ثورات عفوية في هذا العالم، والأهم؛ لا توجد ثورات عفوية يمكن أن تقوم بها طبقة البروليتاريا. ولا أشك أبداً بأن ثورة الفلاحين الصينيين هذه كانت مدفوعة من طبقة الأرستقراطيين الذين تعارضت مصالحهم مع مصالح الامبراطورات في منعرج نحس ما، ولذلك لا شك عندي أبداً في تواطوء دول وأصحاب مصالح من البرجوازيين في الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية وأي ثورة أخرى تقوم في هذا العالم.
لا يمتلك البروليتاريا الفهم الكافي لخوض صراعات مع الطبقة الأعلى، لذلك فإن تحفيزهم للثورة لا بد أن يتم من أبناء طبقات تمتلك ذلك الوعي وبأدوات الصراع وأسلحته.
لقد كان خطأ ماركس غريباً لأنه هو نفسه أكد بأن الوعي تشكله طبقة الفرد، مع ذلك فهو انحرف عن ذلك انحرافاً غريباً حينما توقع حدوث الثورات من خلال البلوريتاريا. لذلك أوقعه هذا الانحراف في فهمه الخاطئ للبعد الأعمق للصراع الإنساني، ولكن ماركس أراد أن يضع بصمته كمصلح اجتماعي أكثر منه فيلسوفاً، وأفضى ذلك بعودته إلى العدالة ذات الحمولات الأخلاقية الميتافيزيقية، وكان على ماركس أن يسأل نفسه عن مغزى تحيزه لطبقة تسعى إلى تدمير طبقة أخرى، ما دامت نظريته مادية صرفة!!
ولننتقل إلى أكثر مظاهر العدالة توهماً وهو القانون، فالقانون صادق دائماً...ومن ثم فهذا الشرط التداولي غير مطروح فيما يتعلق بالنص القانوني. إن الصدقية هنا إكراهية، حتى عندما يكتشف الفقه أخطاء في أوصاف القانون، فإن على القاضي أن يلتزم بتلك الأخطاء، لأنها صادقة، ولكنه قد يعمل على تبرير تلك الأخطاء أو الصمت عنها ليتحايل عليها، لكنها في كل الاحوال تظل صادقة لأنها تستند إلى السلطة المحتكرة لمشروعية سنه. ولذلك يكون القانون دائماً سلاحاً للمنتصر في معارك الصراع حول السلطة. وهذا ما قاده التيار القانوني الوضعي أو اللا اخلاقي ضد التيار القانوني الأخلاقي دون نتيجة محسومة، سنرى على سبيل المثال أفكارا عديدة ذات بعد أخلاقي طبعت بصمتها في القانون، كضمانات المشتبه بهم والمتهمين بل وحتى معاملة المدانين، وكرس القضاء الألماني -ما بعد النازي- لفكرة الشرعية الأخلاقية للقانون، غير أن هؤلاء أنفسهم لن يستطيعوا تبرير الانحرافات التي سكنت قوانينهم دهراً، ولم تبرر مثلاً نزع الملكية الخاصة من المليارديرات الروس بدون حكم قضائي إبان الحرب الروسية الأوكرانية، كما لم تستطع الأنظمة الأوروبية تجاهل الحيل القانونية التي ابتدعوها عندما بدا لهم ضيق المعايير القانونية ذات البعد الأخلاقي في حماية الملكية الخاصة كما فعلوا بابتداع أوامر الثروة غير المبررة والافتراضات القانونية التي ابتدعتها المحاكم الفرنسية مؤخراً والمحكمة الأوروبية. (أنظر تفصيل ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
Susanti, Lara, criminal liability of public offence, 2015. Meskel, Mesay, the legal framework of illicit enrichment, 2012. Muzila, Lindy. Morales, Michelle, criminalizing illicit enrichment to fight corruption, 2012...)
(سرور، أحمد، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، ط٢، ٢٠٠٠م. سلامة، مأمون، الإجراءات الجنائية في التشريع المصري، ١٩٩٢، كبيش، محمود، شرح قانون الإجراءات الجنائية "المحاكمات والطعن في الأحكام، ٢٠٠٧..). ولذلك فإن المحيط الأخلاقي للقاعدة القانونية يتجه نحو التمزق باستمرار. وفوق هذا، فإن ربط القاعدة القانونية بالعدالة على نحو وثيق سيفضي إلى عجز القاعدة نفسها عن الحركة، إذ ينبغي للمشرع أن يوقف في لحظة ما تأثير فكرة العدالة المحملة بالأخلاق على القاعدة، ليس لأن فكرة الأخلاق نفسها فضفاضة ولكن لأن القانون لن يصل إلى نهايته. فعلى سبيل، تتيح القوانين استئناف الأحكام، لمن حُكم ضد مصلحته، ثم إذا صدر حكم الاستئناف ضده فله أن يطعن أمام النقض، ثم يجوز لمن صدر حكم نقض ضده أن يطعن أمام الدائرة أو المحكمة الدستورية بحسب الأحوال، وكل ذلك لكي يحصل كل طرف على ضمانة مراجعة الحكم الذي صدر ضده، ولكن في كل الأحوال لن يستطيع القانون أن يفتح باب الطعون إلى الأبد (رغم أن العدالة الأخلاقية قد تقتضي منح مزيد من الفرص للخصم الخاسر)، فالعدالة (بمفهومها الأخلاقي تنحسر) ويجب التضحية بها لحسم الموقف القانوني برمته. وكذلك هناك ضوابط للقبض وتفتيش الأفراد كقاعدة ميراندا وغيره، ولكن ليس على المطلق، وفي بعض الأحيان يضطر القضاء لمعالجة تلك الموازنات عبر مبادئ استثنائية، فالدليل رغم استحصاله بإجراء غير مشروع قد يقبل في حالات استثنائية، كما فعلت المحكمة الفدرالية العليا في الكثير من القضايا.. وإذا كان القانون لا يستطيع أن يكون عادلاً بحمولة أخلاقية، فإن عدل القانون مسألة مشكوك فيها فلسفياً. وإذا كانت الأخلاق نفسها مفردة بلا مضمون محسوم سوى المشاعر الشخصية، وفي أفضل الأحوال المشاعر الجماعية التي نحتتها الثقافة الخاصة لمجتمع ما في مكان وزمان معينين، فهنا أيضاً قد نستبعد الأخلاق كأحد معايير صناعة القانون.
(أنظر في مشكلة الأخلاق على سبيل المثال:
Nietzsche,Friedrich , on the genealogy of morals, 2009. Portmore, Doglas W., Consequentializing Moral theories. Setiya, Kieran, does moral theory corrupt youth, 2010,..).
ونلاحظ أن ذات المعضلة واجهت الليبراليين الأوائل أمثال آدم اسميث وستيوارت ميل وغيره حين حاولوا ربط الليبرالية بالأخلاق، فسقطوا في الشرك وتضاءلت حظوظ تناسق أفكارهم.
ومن هنا فعلينا كبشر أن نكون واقعيين، بحيث نجعل الواقع هو الذي يحكم على تصوراتنا عن العالم وليست المثالية، إذ سنتمكن حينها من إدراك حدود اللغة بشكل أكثر وضوحاً بالنسبة لحديثنا مع أنفسنا على الأقل، لا بمثالية أفلاطون ولا المدارس البنيوية، ولا حتى بتهافتات تفكيكية دريدا.
(يتبع بحسب الأحوال)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى