د. عبدالجبار العلمي - الاتِّجاهُ الرُّومانْسي في الشِّعْر المَغْربي الْحَديث - 2 ـ البِنَاءُ الْفَنِّي

2 ـ البِنَاءُ الْفَنِّي
الأشكال الشعرية وبنية الإيقاع:
1 ـالأشكال الشعرية المستخدمة في المتن الشعري المغربي الحديث:
نلاحظ حضور أربعة أشكال شعرية في المتن الشعري المدروس في الجزء الأول من هذا البحث ( المستوى الموضوعاتي )
أ ـ القصيدة العمودية
ب ـ الشكل المقطوعي 😞 بعض أنواعه)
ج ـ شكل الموشح
د ـ الشعر التفعيلي
وغني عن البيان أن معظم الشعراء المغاربة ذوي الاتجاه الرومانسي، انطلقوا في بدايات تجربتهم الشعرية من الشكل العمودي، نذكر منهم هنا على سبيل المثال لا الحصر: محمد نسيم السرغيني ـ عبد الكريم الطبال ـ عبد المجيد بن جلون ـ عبد الكريم بن ثابت ـ إبراهيم السُّولامي ، ثم طفقوا يبحثون عن أشكال شعرية أخرى أكثر تحرراً، وذلك رغبة في استخدام الإمكانيات التي تتيحها هذه الأشكال للتعبير عن همومهم المتنوعة، وتأملاتهم الوجودية وأحلامهم المحبطة.
2 ـ بنية الإيقاع :
يستخدم الشعراء الذين اتخذنا بعضَ نماذجِهم الشِّعرية عينةَ للمتن المدروس، البحورَ الشعرية التالية:
ـ الرمل : قصيدة " طيف" لعبدالكريم بن ثابت ، ديوان الحرية ، ص: 50 ـ قصيدة "حب" لإبراهيم السولامي ، ص :74 وما بعدها ـ قصيدة "أغنية حب" لعبد الكريم الطبال، الأشياء المنكسرة ، ص : 131 ـ قصيدة " اعترف يا قلبي " لابن دفعة ، ديوان أشواك بلا ورد ، ص: 51 .
ـ الوافر : قصيدة "قصيدي" ، لابن دفعة ، الديوان ، ص: 8 وما بعدها.
ـ المتقارب : قصيدة "تُسائلني" لإبراهيم السولامي ، ديوان "حب، ص: 80 ـ قصيدة " الصراع " للسولامي ، ديوان "حب "، ص: 8 .
ومن الجدير بالملاحظة أن البحور الشعرية المستخدمة، هيمنت عليها الأوزان القصيرة أو المجزوءة، أما القافية، فقد توزعت بين الُمُطلقة والمُقيدة، لكن الملاحظ أنَّ الثانية كانت هي المهيمنة على عينة المتن.
واللافت لنظر الباحث، نُدْرةُ استخدام الأوزان الشِّعرية الطويلة المركبة، وهذا مظهر آخر من مظاهر نزوع الشاعر المغربي الحديث إلى التجديد والتحرر من قيود القصيدة الكلاسيكية.
2 ـ الصورة الشعرية:
كانت الصورة الشعرية في الشعر القديم تقومُ على التشبيه والاستعارة ، وتعتمد على عالم الحس ، تمتحُ منه عناصرَ تكوينها ، وكان الشاعر القديم يرى أن الجمالَ فيما ترضى عنه الحواسُّ، كما يقول الدكتور عز الدين إسماعيل ( )، لذلك كان الشاعر ينزع في تصويره نزعةً حسِّية. يقولُ ابن المعتز يصور القمر :
وَانْظرْ إِلَيْهِ كَزَوْرَقٍ مِنْ فِضَّةٍ = قَدْ أَثْقَلَتْهُ حُمُولَةٌ مِنْ عَنْبَرِ
وورد في كتاب " أَسْرارُ البَلاغة " ( ) لعبد القاهر الجرجاني إنك تقول: إن تشبيه ابنِ المعتز "تشبيهٌ حسن" ، "وكذلكَ تقول: " ابن المعتز حسنُ التشبيهات، بَديعُها "، لأنّكَ تَعْنِي تشبيه المبصراتِ بعضها ببعض ، وكلَّ ما يجدُ الشَّبهُ فيه عن طريقِ التأوّل كقوله :
قَدِ انْقَضَتْ دَوْلَةُ الصِّيامِ وَقَدْ = بَشَّرَ سُقْمُ الْهِلالِ بِالْعِيــدِ
يَتْلُو الثُّرَيَّـــــا كفـاغِرٍ شَرِهٍ = يَفْتَحُ فـــاهُ لأكل عُنْقُـــودِ
أما الصورة الشعرية في الشعر العربي الحديث والمعاصر، فقد أصبحت أساس التعبير الشعري ، فبناء القصيدة يقوم على عدد من الصور الشعرية الآخذة بعضها برقاب بعض ، قائمة على ألوان من المجازات والتشبيهات والاستعارات, ووظيفة هذه الصور هي نقلُ أحاسيس الشاعر وتجربته ورؤيته المعينة إلى الوجود والحياة والناس، أي تقدم لنا رؤياه إلى العالم بشكل عام ، ويهدف الشاعر من خلالها إلى الإيحاء بدِلالات شتى ، ويتيح للمتلقي عدة قراءات للنص. ومن نماذج الصورة الشعرية ، نسوق هذه الصورة الشعرية التي عبرت بوساطتها الشاعرة العراقية نازك الملائكة عن فيضان نهر دجلة، () تقول :
أينَ نعدو وهو قَدْ لَفَّ يَديْهِ
حَوْلَ أَكْتــافِ الْمَدينَـــــه
إِنَّهُ يَعْمَلُ في بُطْءٍ وَحَزْمٍ وَسَكينَه
سَاكِباً مِنْ شَفَتَيْهِ
قُبَلاً طِينِيَّةً غَطَّتْ مَراعينا الْحَزينَه
وقد عُني الشعراء المغاربة المعاصرون بالصورة الشعرية، وبنوا بها قصائدهم ، ووظفوها في شعرهم الحديث باعتبارها " أداة تعبيرية، ولا يلتفت إليها في ذاتها، فالقارئ لا يقف عند مجرد معناها، بل إن هذا المعنى يثير فيه معنى آخر هو ما سمي "معنى المعنى ". لقد أصبح الشاعر يعبر بالصُّور الكاملة عن المعنى، كما كان يعبر باللفظة, وكما كانت اللفظة أداة تعبيرية فقد أصبحت الصورة ذاتها هي الأداة, وكذلك ارتبطت الصورة دائمًا بموقف من الحياة،" ( ) وإذا قرأنا ديوان " الحرية " لعبد الكريم بن ثابت ، سنجد أن جل المتن الشعري الطويل مُتْرعاً بالصور الشعرية الموحية ، رسمتها أنامل فنان بارع التصوير أخذ أصباغها من نفسه ومن حياته وتفاعله مع الحياة والناس والطبيعة" ( عبد الكريم غلاب ، مع الأدباء ، ص: 198)
يقول في قصيدة " عزاء " ( ديوان الحرية، ص : 20 ) التي يمزج فيها تصوير البدر بتجربته الوجودية التي تتمثل في البحث عن الحقيقة :
ذَلِكَ الْبَدْرُ الَّذي يَخْتالُ في عُرْضِ السَّماءْ
ضاحكاً يَبْعَثُ في النَّفْسِ سَلاَماً وهَنَــــاءْ
عَبَثاً يَجْري وَلا يَسْألُ عنْ سرِّ الفَضـــاءْ
سَلْــوَتي إِنْ أَقْبَــلَ اللَّيْـلُ كَئيبـاً وعـــزاءْ
غَيْرَ أنِّي أَسْأَلُ النَّفْسَ
وَمَـــا نَفْعُ الْــعزَاءْ ؟
وفي قصيدة "ماتت الحسناء " لمحمد عنِّيبة الحَمْري، نلاحظ أن ريشة الشاعرَ أدتْ ما تؤديه ريشة الرسام ، فنقلتْ إلينا الصورة بكلِّ تفاصيلها الدقيقة. إنها صورة حية بديعة لغروب الشمس، لونها الشاعر بإحساسه الحزين، ما جعلها تعكس حالته النفسية الكئيبة ورؤيته للأشياء وهي متسربلة بغلالة من الحزن والأسى. يقول :
لاحَتْ هُناكَ جَريحَةً تَتْلُو خُطَاهــا أَحْرُفي
للأفقِ مدَّتْ جفْنهــا في دَمْعَـــةٍ لَمْ تُذْرَفِ
وَتَرَدَّدَتْ آهَاتُـهَا أُغْـرُودَةً بِالْمِعْـــــزَفِ
نَثَرَتْ عَلى الْبحْرِ الْحَزينِ دِمَاءَها بِتَأَسُّفِ
مَاتَتْ ومِجْدافُ السِّنِيـن يَحُفُهـــا بِتَلَهُّـفِ! ( )
وقد اهتم الشعراء الرومانسيون العرب بتصوير الشمس وغروبها فأبدعوا التصوير وثمة قصائد ذائعة الصيت في شعرنا الحديث تحدث أصحابها عن " المساء "وغروب الشمس بما تحمله من دلالات توحي بالنهاية: نهايةِ النهار و نهايةِ حياةِ الإنسان وفنائِه، نذكر منها على سبيل المثال : قصيدة "المساء" لخليل مطران (الديوان، ج 1 ، ص: 17) / قصيدة"المساء" لإيليا أبي ماضي ( الديوان الكامل ، دار العودة ، ص : 764 ) / قصيدة "المساء" لإبراهيم ناجي ( الديوان الكامل دار العودة ، 1988 ، 158 )
أما شاعرُنا المغربي عبد المجيد بن جلون، فلا يقصرُ في وصفه للمساء عن أنداده من الشعراء الذين تمت الإشارة إليهم أعلاه، ففي قصيدته "في المساء " ( ديوان "براعم"، ص: 66 )، يقول الشاعر:
يَـعودُ المَسـاءُ فَيُـــغْرِقُ فــي = دُجُنَّتِهِ الْكـوْنَ والْكائِنـــــاتْ
فَتُبْصِرُها حينَ يأتي الْمَســــا = تَفِرُّ منَ اللَّيْـلِ والظلمـــــاتْ
وَيَبْتَلِعُ الليلُ صَوْتَ الْحَيَـــــاةِ = وَتَسْكُنُ في كَهْفِهِ الحَرَكــاتْ
وَتُغْفي الْحَقَائِقُ في الظلمـاتِ = لتَصْحُو الخَيالاتُ وَالذِّكْرَياتْ
يصف ابن جلون هنا المساء وصْفاً مغايراً لوصف سابقيه، فهو يُشخِّصُه ويجعله يقوم بأفعال تتسم بالقسوة والجبروت ويجعل جوه مشحونا بالرعب والخوف والظلمات. نجد ذلك في الألفاظ والعبارات التالية: " ( الإغراق ـ دجنته ـ الفرار ـ الليل ـ الظلمات ـ الليل يبتلع صوت الحياة والحركات ـ السكون ـ الكهف ـ تغفو الحقائق ـ تصحو الذكريات الأليمة ، والآمال المُحبطة )
ومن الشُّعراء المغاربة الذين ينزعون في قصائدهم إلى التعبير بالصورة، الشاعر مصطفى المعداوي باعتباره من أوائل الشعراء الذين تأثروا بالحركة الشعرية الجديدة ، وأوائل " الذين نادوا بتجديد القصيدة المغربية حتى تساير روح العصر. " ( ) ومن قصيدته " عَودةٌ من هِضابِ المستحيل " ( ) نختار هذا المقطع الحزين الذي تصور فيها الذات الشاعرة تجربة الفشل في الحب ، والإحساس بالموت والفناء ، وذلك بصور موحية بكل هذه المعاني:
وَمَاتَ الشَّـــــذا بأهْدابِنا الْحَالمَه
وَجَفَّ الْمَعيـــنُ
وَأَنْكَرَنَا الزَّهْرُ والرَّابِياتْ
وَحَتَّى الشُّعَاعُ شُعَـــاعُ الْقَمَرْ
أطلَّ عَلَيْنا ببعْضِ سَنَاهْ
فَماتَ الحَنينْ وَمَاتَ الشَّذا
بِألْحانِنا الْحالِماتْ
ويبدو أن الشاعر عبد الكريم الطبال كانَ أكثر تمثلاً لطبيعة الصورة الشعرية " بحكمِ اتصاله المستمر بحركة الشعر في المشرق ، وبحكمِ وعيه بالتحول التاريخي للكتابة الشعرية. " ( ) ولذلك نجد أنَّ الصورة الشعرية عندهُ أكثَرُ خصوبةً وجدةً ، وإن جاءت في إطار القصيدة العمودية. يقول في قصيدته " أحزان فارس " ( الأشياء المنكسرة، ص: 47 ) :
الُثَّلْجُ يَنْبِتُ في يَدي يَمْتـَدُّ = أشجاراً بلا ظِلٍ ولا زَهْـــــرِ
يَلْتفُّ كَالأسْوارِ في وَجْهي = ويُغلِقُ كُلَّ أبْوابي على السِّرِّ
فالنار في عيني تموتُ لأنَّ أرْي=احَ الصَّقيعِ تَمُوجُ كَالْبحْـــــرِ
لقدِ استفادت الصورة الشعرية في شعرنا الرومانسي الحديث من تجربة الشعر المعاصر في المشرق، وتميزت بوضوحها وشفافيتها بخلاف الصورة الشعرية التي نجدها لدى بعض شعراء المغرب الشباب الذين يميلون إلى الغموض والإبهام.
ومن الجدير بالملاحظة، أن الشَّاعرَ المَغربي ينطوي على نزعة متأصلة في نفسه، هي نزعة التجديد والابتكار ، وكان برغم تجاوبه مع تجارب التجديد في المشرق ـ كما سلف الذكر ـ أو في الأندلس ، وتأثره بها، إلا أنه لم يكن يقبل هذه التجارب كما هي ، بل كان يتمثلها ويضيفُ إليها من ابتكاره وعبقريته الخاصة ما يجعلها تنطبع بشخصيته، ولا أدل على ذلك من الموشحات التي أخذها المغاربة من المشرق والأندلس، لكنهم لم يتقيدوا فيها بالتقنينات التي وضعها ابن سناء الملك في كتابه "دار الطراز" ( )، بل إن معظم الشعراء الذين كتبوا في هذا الشكل : عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم بن ثابت على سبيل المثال، خرجوا عن كثير من تقنيناتها. وهذه الظاهرة تجعلنا نرى بالملموس أن الشعراء المغاربة لهم شخصيتهم وخصوصيتهم، وأنهم يميلون إلى التحرر من تبعية الغير والتخلص من القيود الشعرية التي وضعها المشارقة للموشح (ابن سناء الملك صاحب الطراز ) أو الشعراء الأندلسيون، بل أنصتوا إلى ما أملته عليهم عبقريتُهم الخاصة وذوقُهم المتميز . وإذا كان شأن الوشاحين المغاربة ـ كما رأينا ـ فإننا نجد شعراء القصيدة المعاصرين ، يؤكدون نفس هذه الظاهرة. يقول عبد الكريم غلاب إن عبد المجيد بن جلون " لم يكن وفياً للشعراء الذين أعجب بهم كاملَ الوفاء في شبابه : ابن الرومي والمتنبي والعقاد ( مع الأدب والأدباء ، ص: 27 )
وهذه الظاهرة، تدل على نزعة الانطلاق والتحرر التي تطبعُ الشاعر المغربي الذي يحاول دائماً استشراف آفاق جديدةٍ باحثاً عن الأصالة والتميز. وإذا تصفحنا دواوين شعرائنا المغاربة الحديثين، نجد أن القصيدة العمودية تجاور المبنية على التفعيلة أو حتى قصيدة النثر أو الشعر المنثور. وكل هذه الأشكال الشعرية تعيش جنباً إلى جنب بين دفتي العديد من الدواوين في سلام. وهذا ما يؤكده محمد الحبيب الفرقاني بقوله "إن هذين الشكلين ( يعني القصيدة العمودية والتفعيلية ) يتعايشان معاً تعايشاً سلمياً فريداً." ( )
بقى أن نقول في الختام : إن الاتجاه الرومانسي في الشعر المغربي الحديث، لم يكن وليد مجرد التأثير الخارجي فقط ، كما سبق التنويه إلى ذلك، بل كان وليدَ ظروف اجتماعية وسياسية كذلك، عرفها الواقع المغربي سواء قبل الاستقلال أو بعده. وأرجو أن يُتاحَ لي الجهدُ والوقتُ لدراسة شعرنا المغربي الحديث والمعاصر، كما أتمنى أن يحظى بما هو جديرٌ به من العناية والاهتمام من لدن دارسينا ونقادنا المغاربة، بعد أن لحقهُ ـ راهناً ـ غَيْرُ قليلٍ من الإهمال والتهميش.

الهوامش:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى