د. آمنة بلعلى - في ذكرى وفاة مولود معمري ذلك الأموسناو الجزائري العظيم....

لا شك أن أي حديث عن مولود معمري، يجر وراءه بالضرورة الحديث عن إشكالية الثقافة الجزائرية التي لا تزال تعيش توتراتها ووضعية مثقفيها الذين انتقلوا من مرحلة عصيبة في تاريخ الجزائر في بداية خمسينات القرن الماضي من عقل منتج جسّده ذلك الحوار الثقافي الذي دار حول الهضبة المنسية، وكان مولود معمري جزءا فاعلا فيه، إلى عقل تابع هو ما نعيشه اليوم من تحرّك في مناطق الغير واشتغال على نصوصهم، وبمناهجهم، التي لا زلنا نتمرّن عليها، ولم نستطع أن نصل بها إلى حلول لمشكلاتنا الثقافية، ومشكلات البحث العلمي.
ولعل هذا اليوم الذي نتذكر فيه العارف مولود معمري، ليس فقط إعادة الاعتبار للرموز الوطنية التي ظلت هضبات منسية فحسب، ولكن نتذكرها لكي نتعلم منها كيف نطور آليات التفكير التي تجعل من طروحات أصحابها أفكارا منتجة، تسمح لنا بالتعرف على تصورهم النظري للظاهرة الثقافية الجزائرية، والآليات التي أنتجوها للإجابة عن فرضيات تمّت صياغتها من داخل اهتماماتهم بالثقافة الوطنية. على الرغم من معرفتهم وتشرّبهم بالنظريات والمناهج الغربية مثلما هو الحال بالنسبة لمولود معمري اللساني والأنثروبولوجي والعالم الاجتماعي.
لا يمكن فهم النسق المعرفي الذي اشتغل من خلاله مولود معمري، إلا من خلال فهم تصوره للثقافة الشعبية، التي ينطلق في تصوره لها من موقعها من الثقافة العالمة، وهو إن كان لا يضعهما في طرفي نقيض، إلا أن تصوره لهما يسير في شكل ثنائية سماها الثقافة العالمة والثقافة المعيشة.
وإذا ما فككنا المصطلحين سواء باللغة الفرنسية أو العربية، فسوف نلاحظ أن الثقافة العالمة تؤكد على موضوعية العلم وعالميته وهو ما يسمح لها بأن تكتسب شرعية القوة ، وتحتاج إلى قوة المؤسسة والسلطة لكي تشرعنها ليتم فرضها على مجتمع ما من قبل جماعة أو فئة أو نخبة من أجل تحقيق مصالح معينة، وغالبا ما تكون في هذه الثقافة عناصر دخيلة، تتسرّب إليها؛ إما بفعل التثاقف والتعارف بين الشعوب أو تفرضها السلطة التي تشرعنها، فهي بهذا المعنى وبحسب مولود معمري ثقافة ضاغطة مفروضة مشرعنة من سلطة ما.
وأما الثقافة الشعبية فهي ممارسة اجتماعية لها طابع الفوري، تعاش داخل المجتمع وتمارس فيه؛ لأنها تنتج داخله، وتقاوم الإكراهات الخارجية، ولذلك هي تقبل بضغوطاتها الخاصة، فتحاول تنظيم نفسها بنفسها داخل تجمعات وجماعات وقبائل لها قوانيها الخاصة، وهي تشتغل في فضاءات صغيرة غير توسعيه، أحيانا تكون منكفئة على ذاتها، ولذلك بقيت حرة أصيلة ضاربة في القدم أي؛ لديها أصل عكس الثقافة العالمة التي يمكن أن تخضع إلى إكراهات معينة وضغوطات تفرض عليها التكيف في كل مرة وتغيير قوانينها، وقد تدخل في حالة غموض إذا لم تحل إشكالاتها الكبرى مثلما هو حادث في الثقافة الجزائرية العالمة التي لم تستطع حل إشكال اللغة والهوية، وبالتالي فالثقافة العالمة؛ ثقافة نظام قيمي مصطنع لا روح فيه، على الرغم من أن شرعيته المؤسساتية قد تسمح له بأن يكون مركزا في حين أن الثقافة الشعبية هامشية ولكنها نظام كلي يؤدي وظيفته في حياة الإنسان وفيها جوانب وجدانية ومعرفية وجمالية، هو ما عبر عنه مولود معمري بوجود "أموسناو" الحكيم العارف الشاعر الذي يعتبر أساس الثقافة الشعبية لديه. فالمعرفة والحكمة والشعر أساس الثقافة الحية، وهي مجموع القيم التي تنتجها الأمة مقابل الثقافة العالمة التي تنتجها المؤسسة السياسية.
ولذلك فمفهوم الثّقافة الحيّة ليس نسقا متعاليا، بل هو نسق معرفي وقيمي وسلوكي ، يمثّل الشّعر فيه النواة والعصب الذي يشغل عقل الشعوب، ويجعل الثّقافة الحيّة نسقا واقعيا يختلف عن الأنظمة الثّقافية التي تنزل من عل على الأفراد وتحاول أن تُخضعهم لإيديولوجية واحدة، فتدفعهم إلى الصّراع والفرقة. ولذلك فإن هذا النّوع من الثّقافة العالمة يقوم على القابلية للانحلال والاضمحلال السريع بمجرد زوال المؤسّسة السّياسية التي تروّج لها.
يذكر مولود معمّري أنّ الثّقافة العالمة ونماذجها في الجزائر، والتي كانت سائدة قبل الاحتلال الفرنسي، سرعان ما انهارت وزالت بانهيار المؤسّسات، وتراجع دور الأئمّة والعلماء؛ لأنّ مصير الثّقافة العالمة ووظيفتها ارتبطا بالمؤسّسات، في حين بقيت الثّقافة الشّفوية والشّعر خاصّة، على الرّغم من تقلص شروطه الموضوعية، بل وجدناه يتّخذ روحا جديدة من خلال عبقرية شعرائه الذين عبروا عن نمط جديد من الوجود الإنساني في الجزائر.
هذا الوعي الفلسفي الأنطولوجي هو الذي استثمره في قراءة الثقافة والنصوص الشعرية ليصبح المنهج عنده وعيا مبنيا على تصور مرتبط أصلا بفهمه للثقافة الشعبية وللشعر؛ ولذلك لم يسمح له هذا الوعي وهو يقارب نصوص سي محند وأهليل قورارة أن تعترض طريقته في التحليل معلومات ومصطلحات من مناهج ونظريات غربية وهو المتطلع والضليع فيها، لأن وعي صاحب النظرية هو الذي يجعل المدونة تنتج منهجها، وهو ما لا نجده في نقدنا المعاصر الذي نتعامل فيه مع المناهج باعتبارها معلومات دون وعي.
في مقاربة أشعار سي محند انطلق من البعد الأنطولوجي للشعر باكتشافه الكوجيتو الذي يقوم عليه شعره باعتباره قدرا وحتمية ونداء وجّه له ولم يكن قادرا على رفضه ومن هنا تأتي طبيعته الأسطورية، نظرا لطبيعة حياة سي محند التراجيدية من جهة ولطبيعة الشعر من جهة أخرى. وهو إذ يربط بين الشاعر والشعر والأسطورة، فلكي يؤكد على فكرة تم تداولها في نظرية الشعر حين تم الربط بين الشعر والإلهام وظلت استعارة الإلهام الذي يأتي الشاعر، سارية، سواء ذلك الإلهام الذي يأتي من الجان أو من الملاك مثلما هو الحال بالنسبة لسي محند حيث يؤكد معمري أن فكرة الخيال الشعري، لديه، يصعب تحديدها إلا بكونها إلهاما أو كشفا ولا يمكن تفسيرها إلا برفعها إلى مستوى أعلى هي الأسطورة، وهو تفسير مجازي لمظاهر الكون ولسلوك الإنسان ولحياة سي محند ومحند الغرائبية، ولذلك رفعه أيضا إلى مستوى الأسطورة.
ربط بين حياة الشاعر والسياق التاريخي الذي عاش فيه، واستخلص بتحليل أشعاره أن سي محند شخصية عاشت بكل كيانها حيث أعطى كل شيء للجسد حتى أنه لم يجد شيئا يأكله، وتجلى ذلك في شعره الذي يتحدث عن وضعيته المادية الاجتماعية واعترافاته التي فسّرت على أنها اغتراب، كما أعطى أيضا كل شيء للروح وتجلى في ذلك الحيز الكبير من شعره في شكل ابتهالات وشكوى إلى الله ودعاء حد الاستغاثة.
قام مولود معمري بتصنيف أشعاره وتوصيفها وأعاد بناء السياق الذي تم إنتاجها فيه، ثم قام بتفسيرها، ليخرج منها بمقولات فكرية تتجاوز المعرفة الجزئية البسيطة التي يمكن أن يسقط فيها دارس أشعار سي محند، فينظر إليها على أنها تجسيد لحالة الفقر والنفي والاغتراب ، وهذا هو المفهوم الأنطولوجي الذي لا يعني سوى الواقع المأساوي الذي عاشه الشاعر، في حين تعدى لدى معمري مفهوم الوجود المطلق كما استخلصه من شعره.
ولذلك وجدناه يحوّل شعر الرجل إلى مقولات، رفعها من وجودها المادي الذي يعبّر عن واقع شخص عانى من الفقر والاغتراب إلى الوجود باعتباره فكرة. ويؤكد ذلك باكتشافه الكوجيتو الذي يقوم عليه fais les vers et je parlerai سفْرو نك أذ هدرغ ، قل الشعر سأتكلم
وحين يتكلم الإنسان يثبت أنه إنسان وأنه حي أي أنه موجود، وهو ما عبّر عنه معمري بفجائية النداء الشعري التي تجلت في البيت الأول من أول قصيدة لسي محند "هذه المرة أخيرا سأبدأ القصيدة" وشبّه القصيدة التي تنطلق من فم الشاعر بما حدث في الأسطورة التي تقول بأنّ مينيرفا خرجت مدججة أو مسلحة من رأس جوبيتار.
إن التفسير الاستعاري لعملية قول الشعر الذي رفعه إلى مستوى الأسطورة مرتبط بحياة سي محند الذي رفعته معاناته إلى مستوى الأسطورة أيضا.وهو ما جعله يرفع أشعاره وهو يحللها إلى مستوى تجريدي حتى لخصها في مجموعة من المقولات الفلسفية مثل: الحب شكل يائس للاغتراب، أرى الخير وأتبع الشر، البحث عن المتعة تحدّ، وغيرها من هذه المقولات التي هي الاستعارات التي قامت عليها تجربة الشاعر؛ فيكون بذلك قد توصل إلى الوظيفة التي يؤديها الشعر والذي استنتجها من كلمة "أسفرو" أو "إسفرا" ذات الدلالة الرمزية التي يعني جذرها "فرّو": التوضيح والإضاءة. ويكون بذلك قد قدم قراءة أنطولوجية بلاغية انطلاقا من حياة سي محند.
من نفس المنطلق الأنطولوجي يعاين أهليل قورارة التي لا يرى فيه أشعارا فقط وإنما هو فن كاملArt complet وهو الفضاء الذي تشتغل فيه العلامات بقوة وبكثافة إنه امبراطورية العلامات المعبأة بالدلالات وبالحقائق والقيم.
فهو يرى أن كل شيء يدل في هذا الاحتفال الليلي الذي يجمع بين الرقص والموسيقى والألوان والحركة واللباس والآلات. إنه نظام الأهليل نظام للتواصل ليس فقط باللغة الطبيعية، ولكن بالرقص والموسيقى وبالألوان، حتى كأن الأهليل يصبح متحكّما في السّنن، بل نشعر أن أصحابه يمتلكون الكون حين تكون نهاية الاحتفال من الفجر إلى شروق الشمس لحظة التّيرا باللغة التواتية أو الحب. هذه اللحظة الصوفية التي تعطي انطباعا ببداية تجربة في شكل دائرة ونقطة في المركز كالتي تحدّث عنها المتصوفة باعتبارها مركز الكون أو مركز الامتلاء المدهش للحقيقة والذهاب إليها لتنتهي الممارسة تماما كما تبدأ التجربة الصوفية إلى مقام الحب.
إنها كتابة والكتابة تقتضي البحث فيها باعتبارها أثرا وفعلا متعددا هو ما سماه معمري الفن الكامل، وهو في تحليله لهذا الاحتفال يقيم دراسته على ثلاثة محاور كبرى هي طبيعة الأهليل وأصله ووظيفته.
يقاربه سيميائيا فيتحدث عن طبيعة الدائرة التي تكونه والأشخاص والفرقة الموسيقية وكيف أنهم يصطفون دائريا كالبنيان المرصوص ويتحركون دخولا وخروجا من وإلى مركز الدائرة، ويصف المراحل التي يتكون منها الاحتفال وتسمياتها كالمسرح وأوقروب والتّرا أو الحب، وتؤدى فيها من الحادية عشر إلى صباح الغد الموالي، وبعد وصف البنية السطحية ينتقل إلى السياقات الثقافية التي ساهمت في خلق هذا النوع من الطقوس الذي يشكل بذاته امبراطورية من العلامات والأنظمة العلامية التي تتداخل لتؤدي وظيفتها الاجتماعية والدينية، ليصل إلى البنية العميقة لطبيعة الأهليل فيفسّر الأنساق المضمرة، ويغوص عميقا في تاريخ الثقافة الجزائرية المتنوعة والمتعددة .
لم يتحدث لنا مولود معمري عن طبيعة المنهج الذي اتبعه بل طرح تصوره ثم فرضياته ليس باعتباره لسانيا أو أنثروبولوجيا، كما قال، وهذا يعني أن النص لديه واستنادا إلى تصوره هو الذي ينتج منهجه الخاص، ولذلك وجدنا دراسته لأشعار سي محند ومحند تختلف عن دراسته للأهليل وما يجمع بين التحليلين هو التصور النظري الذي انطلق منه في فهمه للثقافة الشعبية وللشفوي وللشعر.
ولنا نحن أن نصنفه بأنه كان بينيا قبل أن نعرف البينيات ولذلك بصرنا به بنيويا و سيميائيا ودارسا ثقافيا ومؤولا ومفككا وهذا هو العقل الثقافي المركب الذي بصرت به يوما عندما قرأت رواياته. وتوصلت إلى أن العقل الثّقافي لمولود معمّري الذي تشكل على مدى خمسين سنة، بحثا وإبداعا، هو عقل استعاري (Métaphorique)، يتشكّل من النّواة المركزية للعقل البشري باعتباره عقلا شعريا، والعقل الاستعاري "عقل نوعي لأنّه معني بالإبداع والابتكار" ، وليس عقلا فلسفيا يسعى إلى بناء المفاهيم خارج انتمائه الحضاري، ولا عقلا علميا صرفا، ولا عقلا دينيا، إنّما تبدو هذه العقول كلّها موجّهات وروافد تحيط بالعقل الاستعاري المركزي، وهو الذي يقوم بتشغيل العقول الأخرى التي تحيط به، ومن هنا نفهم اهتمامه بالشّعر والطابع الشّعري الذي يتميّز به أسلوبه في الكتابة، كما نفهم اهتمامه باللّغة والثّقافة، ولذلك، لا بدّ من قراءته باعتباره عقلا مركّبا يقتضي أيضا عقلا قرائيا مركّبا لهذا المفكّر والكاتب الذي كان محرّضا على الاختلاف، موجّها نحو التحرّر، محافظا على اللغة والثّقافة، ساعيا إلى آفاق الحداثة الرحبة، مؤسّسا لثقافة المقاومة، ومتموقعا في المنطقة الحرجة للمثقّف الملتزم والمناضل في الواقع، ممارسة فعلية وإبداعية؛ ليؤكّد على حقيقة واحدة، وهي أنّ الثّقافة ذاتها قد تكون قناعا تصنعه السّلطة لتبرير هيمنتها، ولذلك ظلّ هاجسه الأساس هو التّمكين للثّقافة التي يحيا بها الجزائريون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى