رسائل الأدباء رسالة من فتحية دبش إلى حسن المصلوحي

مساء الخير يا شقيق الحرف،

إن الكتابة بين أشخاص يقترفون إثم الكتابة، مليئين بذنوبها الكثيرة ليس مسألة إصغاء وحسب. إنها التفكير في حد ذاته كفعل ثوري. والتفكير يا حسن ليس بالأمر الهين ولا بالفعل المجاني. ولذلك هو ممنوع، بل هو الكفر بعينه في كل المجتمعات على السواء! فلا تغرنك الثقافات التي يقال إنها محافظة أو متحررة.
هناك منطقة يحرص سدنة المعابد على تسييجها وجعلها مناطق ممنوعة. والتفكير بما هو انقلاب على ما يتداولونه على أنه الحقيقة فهو منكر وممنوع، بل قد يفضي إلى المحاكمة. ولا داعي هنا للتذكير بكل تلك المحاكمات التي تعرض لها الذين تجرؤوا على الممنوع ففكروا.
الكتابة وهذه الرسائل ليست من الترف في شيء، ولا هي من المتعة الخالصة في شيء ولا حتى هي من قبيل حفظ حبال الود مشدودة بين ضفتي المتوسط. إنها يا صديقي أقرب إلى فعل التثوير إذ تجعلنا نقتحم مناطق التفكير فتنطرح في سطورنا ادأسئلة كبيرة كسؤال الهوية وسؤال الكتابة وسؤال الغربة والاغتراب وغيرها من الأسئلة الحارقة التي حين ندرك حقيقتها نصاب بالهلع.
التفكير يخيف المفكرين أيضا كما تخيف الكتابة الكتّاب.
الكتّاب لا أصفياء لهم ولا أصدقاء غير أقلامهم وغير ذلك القارئ المتربص بالكتاب. الكتاب أيضا لا ادأعداء لهم غير أقلامهم وغير ذلك القارئ المتربص بالكتاب.
ولعل ما يغري في كل هذه الرسائل التي نتبادلها هو كونها تمنحنا متعة لعب الدورين: دور الكاتب مرة ودور القارئ مرة فنكون الصفي والعدو في آن.
قبل أيام طرحت إحدى الكاتبات الصديقات سؤال الكتابة باللغة الفرنسية حين يقترفها كاتب عربي. استحضرت منشورها ذاك وأنت تحدثني عن ايطايا وانتزاعك إياك من أحضانها. في الحقيقة ليس هناك من داع يربط بين ما كتبته أنت وما راودني من أمر استحضار جدارية الصديقة، ولكنني أعتقد أن سبب ذلك هو الإحالة على المكان. تكتب إلي من جنوب المتوسط وقد غادرتَ شماله وقررت الاستقرار هناك في أرض تتكلم لغة روحك. بينما أكتب إليك من شمال المتوسط، حيث قررتُ الاستقرار هنا على أرض لا تتكلم لغة روحي ولكنها أجبرتني على الاستقرار في هذه المنطقة اللغوية الثالثة، إذ يحدث أن أفكر بالعربية وأكتب بالفرنسية ويحدث أن أكتب بالعربية وقد فكرت بالفرنسية. هل أنا حين أفعل ذلك أخون اللغتين؟ وهل ما أكتبه هو كتابة فرنسية وإن بلغة عربية أم هو كتابة عربية وادإن كنت على غير ترابها.
السفر لا يعلمك فقط أن تحدد أولوياتك بل يجعلك أيضا تنظر إلى نفسك، تصفق لها حين تتألق وتقسو عليها حين تفشل. الرحيل والهجرة تجعلك هويتَك، هوية فريدة، على مقاسك، بألوانك ولغتك ومنطقتك الثالثة بين كرسيين. لكنها منطقة غير آمنة بالمرة ولا مريحة، منطقة تجبرك على التفكير الدائم...

(يتبع)

فتحية دبش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى