مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (15)

(15)

استدعاني عبد الرحمن على عجل، طرت على الفور من نيويورك إلى دبي، وفى خلال أقل من أربع وعشرين ساعة كنت جالسا بمكتبه، كان معه بعض المسئولين بالقناة، كان يبدو عليه الانفعال والتوتر الشديدين، خاطبني مباشرة دون مقدمات :

ـ لم يعد هناك أي داع لبقائك في نيويورك، يجب أن تكون في العراق الآن.

استفزني أسلوبه في الحديث، صحت دون أي تفكير:

ـ أمرك غريب يا سيد عبد الرحمن! تعاملني دائما كقطعة شطرنج تحركها كيفما تشاء.

رد بعصبية شديدة:

ـ ما هذا؟ ألا تدرك أبدا حجم ثقتي فيك؟!

ـ يجب أن يكون هناك قدرا من الاحترام لإنسانيتي.

ـ أنت صحفي ... أليس كذلك؟ هذا هو قدر الصحفي ... البحث عن الحقيقة في أي مكان من العالم، هذا إذا أراد أن يكون صحفيا متميزا.

بدا لي كلامه منطقيا، ورغم رسمية أسلوبه وجفافه الشديدين إلا أن حجته كانت قوية، أشار إلى أحد الجالسين إلى جواره ثم تابع كلامه وهو في حالة انفعال شديدة:

ـ الذي لا تعلمه أنني كنت لتوى فى جدال حاد مع هؤلاء السادة بسبب تفضيلي الدائم لك، قل لهم الآن أنك لا تريد هذا الأمر وليختاروا هم من يريدون.

تدخل الجالس عن يمينه وقال في هدوء:

ـ اسمعا، حلا خلافكما معا بالخارج، أما هنا فأنتما في عمل.

قال من بجواره مخاطبا عبد الرحمن:

ـ هل لا تزال متمسكا بهذا الرجل يا عبد الرحمن؟

صمت عبد الرحمن لثوان معدودة ثم قال في هدوء مفاجئ:

ـ لن أرشح أحدا غيره ومازلت أرى أنه الأفضل لأداء هذه المهمة، هو أمامكم فاسألوه.

تحولت أنظارهم إليَّ، أما عبد الرحمن فقد استدار بمقعده الدوار معطيا لي ظهره، رغم اغتياظي الشديد من هذه الحركة إلا أنى شعرت بقدر كبير من الخجل من نفسي، كان يتوجب على أن أحسم الأمر، خاطبتهم قائلا:

ـ السيد عبد الرحمن على حق، هذا هو قدري كصحفي يبحث دائما عن الحقيقة، وإذا كان قد ضايقني أسلوبه إلا أنني يجب أن أشكره على ثقته الدائمة في ... وفي إمكانياتي، أنا على استعداد تام للقيام بهذا العمل إذا كنتم ترون ذلك.[/B]

******

تمت الموافقة سريعا على إرسالي إلى العراق، نجحت في إقناع عبد الرحمن وباقي المسئولين في القناة باصطحاب رشيد معي، أبدى البعض اعتراضا مبدئيا على ذلك لكنني أقنعتهم أن وجود رشيد يمثل إضافة حقيقية لصالح العمل، كان كلانا سعيدا بالعودة للعمل سويا مرة أخرى، كان هناك شيء آخر أو اثنان يجب علي أن أحسمهما قبل سفري إلى العراق، توجهت أولا إلى مصر في زيارة قصيرة لمدة أربع وعشرين ساعة، احتضنت أمي التي فوجئت بي أقف أمامها، لم تستطع الحديث من أثر المفاجأة، بعد جلسة قصيرة مليئة بالأشواق والمشاعر الحارة قلت لها مباشرة دون أي مقدمات:

ـ أمي أنا ذاهب إلى العراق لتغطية الأوضاع هناك، لكن ليس لهذا جئت إليك اليوم، لقد تعرفت على فتاة هناك في دبي ... وأحببتها ... وأريد أن أرتبط بها.

زغردت بعفوية ثم قالت وهى تضع يديها على صدرها:

ـ والله لقد كنت أعرف ذلك.

نظرت إليها في دهشة ثم قلت:

ـ وكيف تعرفين يا أماه؟ لم يسبق لي اخبارك بهذا الأمر!

أشارت بإصبعها إلى أعلى ثم قالت:

ـ قلب المؤمن دليله ... لقد رأيتها في منامي.

ـ رأيت من يا أمي؟

ـ رأيتها هي، زميلتك التي تحبها وتريد أن تتزوجها.

ـ لم أقل لك أنها زميلتي فكيف عرفت؟!

ـ ألم أقل لك قلب المؤمن دليله، توكل على الله يا بني أنا مرتاحة الصدر.

يا الله، يوجد في هذا العالم أُناس لو امتلأ بأمثالهم لكان جنة حقيقية، وأنا محظوظ حقا أن أمي من هؤلاء.


******

توجهت فور عودتي إلى تامر، كان الوقت ليلا، وكانت المرة الأولى التي أذهب إليه في مسكنه، فوجئ بوقوفي أمام الباب، يبدو أنه كان نائما، ألقيت عليه السلام، بعد فترة صمت قصيرة رد السلام ودعاني للدخول، اعتذرت عن إيقاظي له، رد بكلمات مبهمة، خاطبته مباشرة:

ـ لقد أتيت من القاهرة فورا إليك.

صمت ولم يعقب، تابعت قائلا:

ـ أعرف أنها زيارة غريبة في وقت غريب لكنك تعلم أنني ربما أتوجه إلى العراق غدا، وكان يجب عليَّ أن ألتقي بك على انفراد.

قال في اقتضاب:

ـ ما الأمر؟

ـ أنا الذي جئت لأسألك ما الأمر؟

ـ ماذا تقصد؟

ـ لماذا أنت دائما متحفظ معي؟ لماذا تتعامل معي دائما بفتور وغير اكتراث؟

ـ ومن قال لك أنني أعاملك هكذا؟

ـ اسمع يا تامر لم آت إلى هنا لكي يخفي كلانا شيئا عن الآخر، أرجو أن تفتح لي قلبك.

تنهد بعمق ثم قال:

ـ ولماذا الآن بالتحديد؟

ـ أنت تعلم أنني ذاهب إلى العراق ... وقد لا أعود.

بدت عليه علامات عدم الفهم، قال متسائلا:

ـ ماذا تعني؟ ولماذا لا تعود؟

نظرت إليه بعمق شديد ثم أجبته:

ـ قد أموت هناك.

تغيرت ملامحه وانتفض جسده ثم قال:

ـ "بعد الشر" ... لا تقل ذلك أبدا مرة أخرى لأي إنسان.

ـ نفترض أن هذا حدث هل تحزن عليَّ؟

قال بغضب شديد:

ـ من تظنني؟ هل تراني سيئا إلى هذا الحد؟

انتقلت إلى جواره حتى بتنا متلاصقين تماما، ثم قلت:

ـ أنا لا أظنك سيئا أبدا بل على العكس أنا متأكد أنك إنسان يمكنني الوثوق به، أرجو أن تريحني وتفتح لي قلبك، أحب أن أرحل من هنا وليس ورائي ذنوبا أتحملها أو ألغازا لا أفهمها.

صمت قليلا وبدا عليه التردد، تنهد بعمق شديد ثم قال دون أن ينظر إليَّ:

ـ ليس الأمر كما تظن، ليس عندي شيء ضدك أنت شخصيا، لكن الغربة تجعل الإنسان مختلفا.

ـ لا أفهم.

تابع كلامه دون أن يبدو عليه أنه يراني:

ـ لقد اغتربت كثيرا، أكثر كثيرا مما اغتربت أنت، انتقلت من بلد إلى آخر، ومن عمل إلى آخر، تكرر ذلك كثيرا، هل تعلم، لم أنزل إلى مصر منذ حوالي تسع سنوات، تكاد صلتي بعائلتي أن تنقطع، لم يعد لي معارف أو أصدقاء، لم أتزوج ولم أفكر في ذلك، ولا أعرف إن كنت سأتزوج في مثل هذه الظروف أو لا، أكره هذه الغربة لكنني لا أستطيع الخلاص منها، ليست لدي الشجاعة لذلك، منذ اثني عشر عاما لم أكن هكذا، كنت شخصا مختلفا، أكثر مرحا ... أكثر دفئا ... أكثر انفتاحا على الآخرين، لا أعرف كيف أصبحت هكذا، مررت بتجارب كثيرة ... ومآزق أكثر، طعنني البعض في ظهري، وطعنني البعض في صدري وهم يبتسمون في وجهي، أمسكت النجوم بيديَّ أحيانا، وأحيانا أخرى كنت سجينا تحت الأرض، عندما استقر بي المطاف هنا منذ سنتين كنت قد وصلت إلى ما أنا عليه الآن.

كان يتكلم دون وعي ومشاعر الألم تعتصر وجهه، هالني الأمر وشعرت بالأسى الشديد لأجله، لم أدر ماذا أقول، نظرت إليه في صمت وأنا عاجز عن الكلام، لاحظت أن ملامح وجهه بدأت في الانفراج التدريجي، بدا عليه أخيرا الارتياح الشديد، نظر إليَّ ثم ابتسم وقال:

ـ هل تعرف؟ لم أقل هذا الكلام لأحد من قبل، ربما لم اقله حتى لنفسي، لقد ارتحت الآن كثيرا.

أجبته مبتهجا:

ـ الحمد لله، وأنا ارتحت أنك قلت لي ذلك، تملكني الشعور بالذنب لما سببته لك من ألم ومعاناة.

ـ لعلي كنت أحتاج إلى هذه الفضفضة.

ـ الحمد لله، هل تأذن لي إذن في الانصراف الآن، لدي مشوار هام آخر يجب أن أقوم به.

برقت عيناه وبدا كأنه يريد أن يقول شيئا، لكنه صمت قليلا ثم قال:

ـ نعم أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت أكثر من ذلك.

كانت نظرته وعبارته الأخيرة غريبة جدا، شعرت كأنه يعلم إلى أين أنوي الذهاب، ودع كلانا الآخر بحرارة شديدة وخرجت من عنده متوجها إلى ندى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى