مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (16)

(16)

وقفت مترددا أمام مدخل الفيلا التي تسكن بها ندى، كان الوقت قد تأخر كثيرا، ورغم كل المحاذير إلا أنني قررت أن أصعد إليها، فتح لي والدها الباب، استأذنته في الدخول، رحب بي، بعد اعتذاري عن الزيارة في هذا الوقت المتأخر خاطبته قائلا:

ـ كنت أريد أن أفاتحك في أمر هام، لكن هل تسمح لي أولا أن أتحدث إلى ندى على انفراد؟

لم يبد عليه أي شعور بالمفاجأة، رد في هدوء:

ـ بالتأكيد لا مانع لديَّ، سأذهب لأخبرها بوصولك.

خرج وتركني وحيدا، كنت متوترا ولا أستطيع التحكم تماما في مشاعري، شغلت نفسي باستعراض صور العائلة المعلقة على الحوائط والأركان، بعد فترة بدت لي طويلة للغاية لكنها لم تتجاوز في الواقع خمس دقائق ... ظهرت ندى، كانت ترتدي زيا عربيا تقليديا مطرزا، أضفى عليها جمالا لا يمكن وصفه، سلمت عليَّ بحرارة ثم سألتني:

ـ أين كنت اليوم؟

كنت لم أخبرها بزيارتي السريعة إلى مصر، أجبتها وأنا أحاول أن يبدو صوتي هادئا وطبيعيا:

ـ كنت عند أمي.

ـ حقا؟!

ـ نعم، وهى تسلم عليك كثيرا، تقول أنها رأتك في منامها.

نظرت إليَّ في استغراب ثم ابتسمت، تابعت حديثي:

ـ وتقول أيضا أنها تعرف أنني أحبك ... وهى تبارك زواجنا.

أحمرت وجنتاها دفعة واحدة وطرحت رأسها خلفا مسندة إياه إلى ظهر المقعد الوثير، قلت وأنا أشعر أنى استعدت كامل ثقتي وتحكمي في أعصابي ومشاعري:

ـ هل تمنحيني شرف أن أكون زوجا لك؟

قالت بعد فترة صمت قصيرة:

ـ وهل عندك شك في ...

لم تكمل جملتها ووقفت فجأة، ثم قالت:

ـ أخبرني أبي أنك تريده في أمر هام، فهل أدعوه الآن؟

ـ هناك شيء أخير قبل أن يأتي ليجلس معنا.

ـ وما هو؟

أخرجت الخاتم الذهبي الصغير الذي كنت قد اشتريته لها منذ عدة شهور ووقفت إلى جوارها ثم قلت:

ـ اشتريت لك هذا الخاتم من مصر بعد عودتي مباشرة من أفغانستان لكنى لم أقدمه لك في حينها، أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب كي أفعل ذلك.

ردت بسرعة:

ـ ليس الآن حالا، بل عندما يأتي أبي وأمي.

خرجت بسرعة وتركتني وأنا في حالة من الارتياح لما جرى بيننا، بعد فترة قصيرة جاء الثلاثة معا، كان يبدو عليهم السعادة والارتياح، خاطبني أبيها قائلا:

ـ اسمع يا بني ليس الأمر في حاجة لأية مقدمات، أخبرتنا ندى بكل شيء ونحن نبارك زواجكما ونتمنى لكما التوفيق والسعادة.

شكرته ووعدته أن أبذل كل ما في وسعي كي أسعد ندى وأحافظ عليها، قدمت إليها الخاتم الذهبي الصغير قائلا:

ـ أرجو أن تقبليه مني كرمز صغير لمحبتي واحترامي لك.

ثم التفت إلى أبيها وأمها قائلا:

ـ سأقدم لها إن شاء الله ما يليق بها بعد عودتي من العراق.

كدت أن أقول "إذا أراد الله لي أن أعود"، تذكرت تامر وما قاله لي، منعت لساني بصعوبة شديدة من قول هذه الجملة.

قامت أمها لتقبلها ثم احتضنتني وهى تقول:

ـ ردك الله سالما يا بني.

تذكرت أمي وأصابني حزن مفاجئ لعدم وجودها معنا، إلا أن علمي بمباركتها لي ولهذه الزيجة خفف عني هذا الحزن، قضيت معهم بعض الوقت ثم استأذنت للإعداد لسفري المرتقب إلى العراق، ودعتني ندى وهى تقول:

ـ لن أتمكن من وداعك غدا ... لن أتحمل ذلك، دعني أودعك الآن ونحن في قمة سعادتنا.


******

وصلنا إلى بغداد بينما الكثيرون يغادرونها، وبرغم الهدوء الظاهري إلا أن أجواء القلق والترقب تسيطر على الناس هنا، التقيت مع عدد لا بأس به من معارضي الحرب من الأجانب الذين قرروا البقاء في العراق رغم كل شيء، أكد بعضهم أنهم على استعداد للتحول إلى دروع بشرية أمام الهجمات الأمريكية - البريطانية المرتقبة، أما عن المسئولين العراقيين فقد بدوا أكثر ارتباكا مما كنت أتوقعه، أكد لي ذلك ما لمسته من ضعف للدفاعات حول العاصمة العراقية، يبدو أن سنوات طويلة من القمع ساهمت في خلق قيادات غير مسئولة وعاجزة عن رصد الواقع وقراءته وتحليله واتخاذ القرارات المناسبة للتعامل معه، قلت لرشيد بعد انتهائي من مقابلة مسئول عراقي كبير ردد التصريحات المعتادة عن دحر العدوان وتلقينه درسا قاسيا:

ـ لقد ابتلينا من الداخل والخارج، ولا أعرف هذه المرة أي الابتلاءين أقسى.

ـ الاثنان معا، لكن الإصلاح لن يصح أبدا إلا من الداخل.

ـ ليس في هذا أي شك، لكن هل هناك أي أمل في أنه يمكن أن يبدأ يوما ما.

ـ لا تكن متشائما ... يحيي العظام وهى رميم.

ـ نعم، لكن الأمر لا يتطلب معجزة من الله، إنه يخصنا نحن، نحن الذين يجب علينا أن نواجه أخطاءنا ونصلح أنفسنا، لقد منحناهم عن طيب خاطر العديد من الحجج للتدخل بوقاحة في شئوننا الخاصة.

ـ هذا صحيح إلى حد بعيد، لكنه لا ينفي أن هذه المنطقة مستهدفة أيا كانت الأوضاع بها.

ـ لا أجادلك في ذلك، لكن هناك فرق كبير أن تواجه العدوان والتآمر وأنت حر الإرادة وبين أن تواجهه وأنت مكبل بالقيود.


******

تركنا بغداد وتوجهنا جنوبا في جولة تفقدية نظمتها وزارة الإعلام العراقية لوفد يضم العديد من الصحفيين والمراسلين الغربيين والعرب رافقنا خلالها أحد مسئولي الوزارة، وبرغم تحذيراته وتعليماته المتكررة لنا ... دبرت مع رشيد خطة للهروب من الوفد الرسمي والتجول بحرية لنقل صـورة صادقة عن الاستعدادات لمواجهة الغزو المحتمل، وللمرة الثانية بعد بغداد ... كان أخف ما توصف به أنها بدائية وتثير القلق، قمت أيضا باستطلاع رأى الأغلبية الشيعية في المنطقة، ورغم أن بعضهم صرح لي سرا عن رغبتهم في التخلص من صدام حسين، إلا أنهم رفضوا بشدة أن تكون أمريكا هي البديل، كان أحدهم أكثر تحديدا وقال:

ـ ستأتي أمريكا ومن ورائها وربما قبلها إسرائيل.

عندما عدت للحاق بالوفد وجدت المسئول العراقي في حالة من الغضب الشديد، كان رشيد استكمالا للخطة التي رسمناها سويا يحمله مسئولية فقدي ويطالبه ببذل أقصى ما في وسعه للعثور علي، فرح الرجل بظهوري وتناسى تماما أي شيء آخر عدا ذلك، عدنا إلى بغداد وبدأت في نهاية يومي الشاق فى إعداد بعض الرسائل لبثها إلى القناة، قمت بتصفح الرسائل الواردة إلى بريدي الإلكتروني، كنت قد أهملته ليومين، وجدت رسالة من ندى وأخرى من حسن، كما كانت هناك رسالة من كاثي، كانت رسالة كاثي أحدثهم وصولا، تم إرسالها منذ ساعة ونصف تقريبا، قمت بفتحها أولا، قرأتها بسرعة ثم بدأت في سرد نصها على رشيد الذي أنصت بانتباه شديد: ”لقد قتلوا اليوم راشيل كوري، دهستها إحدى جرافات الاحتلال منذ ساعات قليلة وهى تشارك مجموعة من ناشطي السلام السكان الفلسطينيين في التصدي للجرافات الإسرائيلية التي تهدم منازلهم، هل يمكن اعتبارها شهيدة كما تقولون عندكم؟"، علق رشيد على الفور:

ـ أنا شخصيا أعتبرها كذلك.

قلت وأنا أتذكر إحدى محاوراتي مع كاثي:

ـ بالطبع ستغطى الإدارة الأمريكية على هذه الجريمة، لو كان الفلسطينيون هم الذين فعلوها لقامت عليهم الدنيا ولم تقعد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى