حسام المقدم - الصّاخِبون...

الأربعة يخرجون من المدينة: الأب والصّبي، والرَّضيع الملفُوف بإحكام في حضن الأُم. يمشون على تُراب يعرفُهم جيدًا، فمنذ قُرون يشرب من أجسادهم وأجساد أجدادهم.
لا شيء في المدينة العريقة غير الحرب. يكفي مشهد البيوت الواقفة بالكاد: تكَسَّرتْ عظامها وبانت الأحشاء، عبر نوافذ مفقُوءة الأعين. كُلّ الطُّرق مُصابة بالجُذام. بُقَع البَرَص الجليدي على هياكل الأشجار والحوائط المُنهارة؛ لا أمل في انزياحها قريبًا، خُصوصًا والشتاء في عِزّ سَطوته. في كل صباح تتوالى النِّداءات الآمِرة، وهذه المرّة يتوجَّب إجلاء سُكّان الحيّ الشّرقيّ بالكامل؛ تحسُّبًا لغارات شرسة ستدُكُّ كلّ شيء في الغد.
بيت الأربعة استوطَنَته على الفور عائلة كبيرة من عشرين أو ثلاثين، يأخُذون حُريَّتهم في الليل. حيث لا وجود لقَنَّاصِي النّهار الباحثين عن ناجِين ليقتلوهم، أو القَوافِل التي تُمشِّط ذلك الخراب للعُثور على جُثث قد تُفيد في أغراض أخرى. تتَوَقَّف مُؤقتًا المُساعدات التي تُقدَّم للباقين.. تُقدَّم باليد وعبر الخَطف من فوق شاحِنات كبيرة، أو تهبط فوقهم بالإنزال الجويّ.
في الظّلام لا وجود لسِواهم. يصخَبون بعائلاتهم في البيوت التي استوطَنوها. يلعبون بأي شيء. تتخَبَّط الأواني المُبعثرة بين الأنقاض، وتتعارَك قوالب الطُّوب أو حتّى أنصافها. تطوف موسيقى عجيبة، صفير قويّ ومُدوِّخ لأقوَى الرّؤوس. يستمرُّ دَوِيُّهُم وجُنونهم حتى أوّل خيوط الضّوء، وأوّل قدَم تخطو. يهمَدون فجأة، ويحلُّ خرَس شامل.
لكنّ الغد الواعِد بالخراب والشَّلل البشريّ الكامل؛ سيتيح لهم فرصة تُخرِجهم من خلف سِتارة الليل، إلى النّهار واللعب المُضيء. هكذا فَكَّر شيطانٌ صغير من العائلة التي تسكن بيت الأربعة. فرحوا ورقصوا، واقترحوا برنامجًا حافلًا ومختلفًا للغَد المُنتَظَر.
**



1710488140642.png




قصة من.. أبجدية أخرى للماء..
دار النسيم.. 2021.
....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى