كتاب كامل مصطفى الحاج حسين - (نوافذ على الجرح).. مجموعة شعريّة

* شاسعةُ الحضورِ..

تعبتُ من دمي
فعلى أيّ وريدٍ أسند قلبي؟
تعبتُ من قامتي
فعلى أيّ رصيفٍ أكملُ سقوطي؟
أعبُّ شواطئَ الطّفولةِ
من وجهِكِ
أرهقني التّأمّلُ
شاسعةَ الحضورِ
وغرورُكِ واسعٌ
تضيقينَ عليّ..
وفيكِ أنا لا أتّسعُ
فأيُّ حنينٍ
تقتلينَ بوصولِـكِ؟!
وهزائمي تغطُّنِي
مِنَ الولادةِ حتّى الأفولِ!!
أنا لا أتّسعُ فيَّ!!
ولقصيدتي لا أتّسعُ
ذكرياتي المهزومةُ تضمّ هروبَكِ
وكلاميَ القليلُ
يطبعُ على شفتَيكِ عمري
بلّلي القلبَ..
فهذا الرّكودُ يُفضي للحريقِ
وهذه الآفاقُ..
هاويةٌ بعيدةٌ
فاْمنحيني وحدتي
ولا تنهاري عليَّ كذكرى
فربّما أتوهُ..
وربّما يهزمني عمري
القليلُ
ولكنّي قبلَ الضّياعِ
بعدَ الجّنونِ
سأتّسعُ لهزيمةٍ أخرى!*
حلب..عام1986م.
* موسيقى..
رقصت..
تلوّتْ كالأنينِ
بكتْ خلجاتها
وانصهرتْ في الحنينِ
ومن شدّةِ انفعالِها
عزمتْ
أن تقبّلَ العازفَ
وحينَ لمحت قيثارتي
هربت منَ الاحتفالِ!*
حلب..عام 1986م.
* انتظار..
أطلّي..
احترق الفؤاد
وتبدّد العمر على بابكِ
شاب دمعي..
وأحداقي بلا جفون
أطلّي..
كم ولّت شمس
وقمر تبدّل
وأنتِ تختبئينَ وراء النّافذة
أطلّي..
مجنون من لا يجن
وأنتِ غافلة عن قلبٍ
اهترأت دقاته
أطلّي..
شيّعي القلب
السّاقط على بابكِ
كعصفورٍ ينقر الحديد
أطلّي..
تقوّض صوتي
وتململت الأرض من وقوفي.*
حلب.. عام 1986 م
* غياب..
تمضينَ..
أبعدَ من مجيءٍ
أعلى من هبوبِ الغبـارِ
وأقصى من مصادفةٍ
تذهبين..
خلفَ الجِهـَاتِ
وراءَ حدودِ الضّوءِ
حيثُ لا يعودُ الهواءُ بأنفاسِكِ
ولا تدلُّ عليكِ الأرضُ
تختبئينَ عنِ المساءِ
والقمرُ ينبشُ غيومَهُ
يسألُ نجوماً نائمةً
وأنـتِ
لم تتركي أثراً
ولم تطلّي
على العشبِ اليابسِ
وبحّةِ الموجِ وحنيني.*
حلب.. عام1986م
* يدُها..
يدُها..
المتهدّلةُ الأصابعِ
المتشنّجةُ الأنفاسِ
استلقتْ في نعاسِها
يدُها..
المترهّلةُ اللمساتِ
هائمةٌ في ذاتِها
تنطقُ بالارتخاءِ
يدُها..
القابعةُ في العراءِ
المهتاجةُ برداً
لا أصدقاءَ لها
يدُها..
بالتثاؤبِ مسكونةٌ
تغرقُ في سباتِها
يدُها..
الشّاحبةُ النّبضِ
هيَ نفسُها
الّتي فقأتْ حلمي!!*
حلب ١٩٩٧
*مرثيّة..
نركضُ...
على بساطِ الموتِ
أقدامُنـا جِيـادٍ
تحاولُ التّملّصَ
تنتفضُ..
في قبضتَيهِ
تَثبُ..
تقـاومُ..
تصرخُ..
وترتمي
من هولِ ضحكتِهِ
الدّاويةِ.*
حلب.. عام1979م
* مهرجان..
الصَّالةُ..
تضجُّ بالحضورِ
امتلأتْ جميعُ المقاعدِ
إلّا مقعداً بجواري
وعندما رأتني
فضّلتْ..
أن تبقى واقفة!!*
حلب ١٩٨٧
* موقف..
كانت تنظرُ
جميعُ مَن مرّوا حيّتهُم
زودتّهم بالابتساماتِ
بعضُهم صافحَتهُ
وأحنت رأسَها للمسرعينَ
وعندما اقتربتُ
بادلت
تحيّتي بظهرِها!*
حلب.. عام1986م
* الجثمان..
عكّازُهُ الأرضُ
فلماذا يلتفِتُ
وهو الأخيرُ؟!
يتنفّسُ
هواءً لزجاً
فأين يتّجهُ؟
والجّهاتُ خلّفَتهُ!
لا شيءَ يرتكزُ عليهِ
أو يسندُهُ
لا شيءَ
يظلّلُ رعبَهُ
كلُّ ما حولَهُ
سقوط ٌ
وفزغٌ ..
كلّ ما فيهِ!*
حلب.. عام 1985م
* مستقبل..
الجدارُ مغلقٌ
مفاتيحي
استعصَت عليهِ!!
أدقّهُ بعنفٍ
أهزّهُ..
أصيحُ..
والبابُ المواربُ لقلبي
يقهقِهُ على مصراعَيهِ!*
حلب.. عام1984م
* شلل..
كلّ صباح..
نَعِيقُ الشّمس يوقظنا
ونحيب أشجارنا الذّابلة
في مفاصلنا
يستيقظ الشّلل
يتثائب..
يتمطّى القلب
تبدأ أعصابنا
تَعِبُّ الدّخان والقهوة
ونُشرعُ..
باستكمال حلم
كنّا بالأمسِ ابتدأناه
سنبحثُ..
عن فتاة تصادقنا
وتصدّقُ فينا الكذب
؟كلّ صباح..
يذكرنا الأهل بالعملِ
نشتمهم..
ونهربُ بالنومِ
نحبُّ النّوم
الحلم..
الكذب
تلكَ.. سمة حرّيتنا
نحن..
شباب اليوم.*
حلب
* سفـر الجـُـرح..
جرحي قافلةٌ أنهكَها السّفرُ
أفلتت أغانيها..
وامتطت صهوةَ المطرِ
تمشّطُ صحارى النّدى
تسألُ عن شطآنِـها
يا طائرَ الشّوقِ خذني لوكرِ البحرِ
أسقيهِ نـاري
وأوزعُ دمي
على النّوافذِ الغائرةِ
دمعتي فتّشت عن مسارِها
والشّعرُ فراشةٌ في دمي
طارَدَها البرقُ وأحرَقَها الغمامُ
فمَن يرفعُ جرحاً لعينيكِ
أيا خريرَ الجِـراحِ سـوايَ؟!
هذى الهوى بإسمِـكِ
تشرّدَ في سحابةٍ جائعةٍ
والجّـرحُ..
مدينةٌ شيّدَها النّبضُ الحثيثُ
غازلَها الموتُ..
فنامت على أوتارِ القصيدةِ
هل أنتِ كبوتي
أيا نزقَ الارتعاشِ؟!
شحذَت من دمي
الشّمسُ ضياءَها
والقلبُ..
يتسوّلُ منكِ جمرةً
ترتّقُ جرحَهُ.. فبخلتِ
إلاّ من رمالِ النّدى
وكان..
جرحي قافلةٌ
أنهكت دروبَ السّفرِ.*
حلب
* عينان..
تكحلي من رمادِ أدمعي
من نزيفِ أحلامي
من دمي المحروقِ
تكحّلي من كآبتي
من آهتي
من نبضيَ المهووسِ
واغرزي رموشَكِ كالحرابِ ببسمتي
وحدّقي بي طويلاً لأسقطَ
محمومَ الفؤادِ
مخدّشَ الصّوتِ
راعفَ العينين
أشاهدُ أقماراً تتمسّحُ بقدميكِ
وشموساً تشحذُ الضّوءَ من عينيكِ
سمراءُ كالبرقِ
تشقّ قلبي وتدخلُ
لتأمرَني بالكتابة.*
حلب.. عام 1985م
* شتاء..
بَكَتْ..
كانوا يتدثّرونَ بالفراءِ
وكانَ الظّلامُ متجمّداً
أبصرتها ترتجف
وحينَ خلعتُ جلدي
داستْ عَلَيهِ!!*
حلب.. عام 1987م
* مَن يفتح البـاب؟!
أكشطُ عن عينيَّ الضّبابَ الدّبقَ
شمسُ الصّباحِ غاربةٌ
في الفجرِ لم يجرؤِ الدّيكُ
أن يحييَّ الضّوءَ
والطّيورُ الغافيةُ بأعشاشِها
خشيَتِ التّغريدَ والتّحليقَ
مغلقةٌ كلُّ الأبوابِ
النّوافذُ موصدةٌ
وورودُ الشّرفاتِ لم تشربِ اليومَ
تصطكُّ المدينةُ
ترتعدُ الطّرقاتُ
والحدائقُ منتحبةٌ
لا تبكِ أيّها الطّفلُ
خذ نهديَّ أمِّكَ رغيفاً
خبئوا المَحافظَ يا أخوتي
المدارس غدت معتقلات
وأنتَ أيّها الأبُ البائسُ
ممنوعٌ منَ العملِ
اختبئوا في الرّكنِ
جهزوا بطاقاتِكم الشّخصيةَ
ودفترَ العائلةِ
وكونوا شجعاناً أثناءَ التّحقيقِ
قد يفتّشونَ سروالَكِ يا أمّي
وأنتِ ياشقيقتي عليكِ أن
تقبّحي شكلَكِ
أخافُ أن تروقي لأحدِهِم
نفاياتُ الأمسِ
وكِسَرُ الخبزِ المجفّفِ
بلّوها بالماءِ..
وسدّوا شدقَ الجُـوعِ
كتبي التي أخفيتُها
إيّاكم أن تنظروا نحوَها
لا ترتعدوا...
هذا الرّصاصُ المنهمرُ
لم يئزّ في صدورِنا بعدُ
اصمتوا..
ها هو البابُ يدقّ
يركلُ..
تطرقُهُ أعقابُ البنادقِ
ماذا انتابَنا؟؟!!
مَن يفتحُ البابَ يا أبي؟؟!!
مَن يجرؤُ يا أمّي؟؟!!
مَن؟! مَن؟! مَن؟!*
حلب.. عام1979م
* بكاء النوارس..
صهيلُ الموجِ بعينيكِ
يعبرُ كلَّ النّوافذِ
وأنا أصطدمُ بكآبتي
ونوافذي محاطةٌ بالنعيقِ
أعيدي تلكَ الأغنيةَ
فصوتُكِ الرّبانُ يقودُني
إلى دروبٍ تلوبُ في دمي
أشيّدُ على يديكِ أحلامي
وأنتِ تصدّقينَ أنّ الأزهارَ
تعبقُ سمّاً
وأنّ للفراشاتِ مخالبُ!!
رتّقي جرحي فلن أعاتبَ
فأنا كبيرُ النّوارسِ
مهما تزاحمت على الشّطِ الضّفادعُ
جرحي داليةٌ
ودمي رغيفٌ
أعيدي تلكَ الأغنيةَ
لأعرفَ كم عاماً تبقّى من عمري
أنتِ الغناءُ الأخيرُ
سيرسو القلبُ في عينيكِ
وأنتِ السّياجُ
الذي يواري نحيبي
وختامُ النّشيد
أحبُّكِ..
والقلبُ لا يماري
فاخرجي من عيوني
شمساً تحرقُ الغيومَ
فأنا حروفُ الاشتعالِ
أخرجي كوكباً من دفاتري
فأنا دروبُ المآلِ
واخرجي من دمعتي
مُهرةً
فأنا حنينُ الليالي
أعيدي تلكَ الأغنيةَ
إنّ أشجارَ القلبِ ظامئةٌ
وشمسَ الرّوحِ عمياءُ
سمراءُ ..
عيناكِ تجذبانِ المطرَ
فوقَ حقولِ الرّوحِ
وأنتِ هديلُ الشّجرِ
غنّي يا من تروينَ البحارَ
فأنا بوابةُ المدى
لعينيكِ أطلُّ ضياءً
في عالمٍ يمتهنُ الغدرَ
غنّي لأكتبَ القصيدةَ
ولن أبالي..
بضرباتِ الزّمنِ.*
حلب.. عام1986م
* الطّـريـق..
هو ذا يسبحُ في بحرِ السّراب
يصطادهُ موجُ اللهب
ويعصفُ بهِ السّكونُ
يشهقُ من الحرّ
تتمسّكُ بهِ الأشواكُ
ويغرقُ..
يغرقُ..
لقاعِ الظّمأِ
يخدشُ جبينَ الشّمسِ
فيرتمي الأفقُ في القهرِ
هو ذا يلهثُ
يجرُّ النّدى نحوَهُ
يشدُّهُ بعزمِ الاحتضارِ
تكلّسَ النّدى..
فوقَ صدرِهِ النّابضِ بالأنينِ
هو ذا يخرجُ مهشّمَ النّظراتِ
يمتطي الصّخـر سفينةً ويمضي
يرسمُ خلفَهُ درباً منَ الدّماءِ
شراعُهُ جرحٌ شبقٌ
يسابقُ الدّمعَ
ويشقّ يبابَ السّرابِ
هوَ ذا يركضُ
يترنّحُ المدى أمامَ ناظريهِ
يجرُّهُ ظلُّهُ نحوَ السّقوطِ
ولا يسألُ عنِ الجِـهاتِ
هوَ يعرفُ الدّربَ كالسّحابِ
يزمجرُ على شفتَيهِ الصّمتُ
ويرتعشُ في أصابعِهِ البوحُ
يرتعدُ الضّبابُ من وضوحِهِ
هو ذا قلبي المقطّرُ بالندى
يعشقُ خطا الغمامِ
ودفءَ الصّحارى
هدَّهُ غبارُ التّجاهلِ
مزّقَهُ عناقُ الحمامِ
هو ذا قلبي المعفّرُ بالندى
حناهُ بدرُ التّغافلِ
وأضناهُ موتُ البوحِ
ندى .. يا جراحَ الضّوءِ
يا فراشةً بينَ فكَّيِ الظّلامِ
آنَ لي أنْ أبكيَ
من فرحةِ الأحزانِ
وآنَ للقلبِ
أن يفجّرَ عبوةَ الشّوقِ
فقد بحّ نبضُهُ الوسنانُ
آنَ للنسمةِ أن تضمّدَ جرحَها
آنَ للضحكةِ أن تفرّغَ بكاءَها
آنَ الأوانُ..
ندى..
يا نشيدَ الدّمعِ
يا نشيجَ الأمانِ
هوَ ذا قلبي
يمخرُ عبابَ السّرابِ
ويأتي إليكِ
هيئي لهُ النّعشَ إن أردتِ
أو مُري الجِـراحَ بالالتـآمِ
ناوشيهِ بالعناقِ
أو برصاصِ النّفورِ
هو ذا..
يزحفُ فوقَ أشواكِ الأملِ
يحملُ فرحةَ القهرِ
وغصّةَ الأماني
فأعطِهِ الأمانَ لينطقَ
ويشحذَ منكِ بسمةً
رآها في المنام.*
حلب.. عام1985م
* قاتلٌ ملثّمٌ بالعشقِ..
ألقـاكَ..
على مروجِ الجَـمرِ
عاشقاً كبّلهُ النّدى بأسرابِ الغمامِ
ألقـاكَ..
وعلى شفتَيكَ تغفو كلُّ المدائنِ
حالمةً بعشقٍ لن ينتهي
ألقـاكَ..
ودمعُ القلبِ يهزجُ أغنيةً
معطّرةً بالـدّمِ
ويدي الرّاعشة..
تصافحُ كلَّ ما فيكَ من شموسٍ
أعانقُ كآبةَ عينَيكَ
اللتينِ..
ضيّعتُ في سمائهما قصائدي
أيّها العاشقُ مهلاً
سأعطيكَ أشجارَ نبضي هديّةً
لتغفوَ على ساعدِ قلبي بأمانٍ
خذ دمي نافذةً
لتعبرَ منها أمانيكَ الخائفةُ
ألقـاكَ..
وجثّتي تنتحبُ على سفحِ الّندى
والفراشاتُ..
تحرسُ جمجمتي من الذُّبولِ
أيّها العاشقُ انتظر
أعطِني بحراً من يديكَ
النّحيلتينِ..
وأعطني بساتينَ الفرحِ
من همسةٍ تُطلِقُها بسمتُكَ النّاحبةُ
هذا المدى بقايا نشيجي
والنّهرُ يرسمُ دربَـكَ
الموغلَ في العروقِ
هاتِها منكَ باقةً منَ العزمِ
أيقظ بي كلَّ ما ماتَ
جرحي مدينةٌ مشنوقةُ الشّرفاتِ
والشّوارعُ..
دروبٌ مِنَ الوجعِ الحميمِ
أيّها العاشقُ انتظر
ألقـاكَ..
وفي مقلتَيكَ تنمو جثتي
هل تعرفَ ملامحَ قاتلي؟؟؟
هل يُشبِـهُـكَ لهذا الحـدِّ؟!؟!*
حلب.. عام1985م
* انتفاضات فاشلة..
هاربٌ من ضجيجِ الصّمتِ
وثرثرةِ النّعاس
أحلامي المجنونةُ تصهلُ
تلملمُ النّدى نهراً
فأسبحُ في ضفّتيهِ
يجرفني التّيار / فأصرخُ
وأطفو جثة فوقَ دموعي.
* * *
آهِ من حنظلِ النّدى
من شوكهِ المدمِيْ
من صلابةِ قطراتهِ
وجفاف راحتيهِ
آهِ من نطقهِ الصّامتِ
وبسمتهِ الحارقةِ
ندى..
زنزانة في ركنها
حجزتِ الأرضَ
ندى..
قبرُ الشّمس
وسلاسلٌ بأعناقِ العصافيرِ
ندى..
نبراسُ الموتِ
وقلعةُ الكآبةِ.
* * *
هاربٌ..
من أعاصيرِ الحلمِ
وهدير الأمنيات
أختبأُ في متاهاتِ التّأمل
أتوسّدُ السّكينة لأغفو
يسّاقط النّدى يشجّ قلبي
ويمطرني لحدِّ الاختناق.
* * *
أيّها النّدى الموزّع في الجهات
أيّها الطّلسم الطّالع في الأغنيات
خذ العمر وارحل
خذ الشّعر والهمسات
ودع قلبي النّازف معي
سيلتئم الجّرح
إن قتلت الذّكريات.
* * *
هاربٌ..
وبي رغبة الرّجوع
النّدى يمخر أنفاسي
وضلوعي
أين أهربُ؟!
ويلتمس النّدى
خضوعي!!
أينَ أذهبُ؟!
والنّدى..
يمسكُ بشراعي!*
حلب.. عام1986م
* طيـف..
منَ السّهلِ أن تكثرَ الأصدقاءَ
منَ السّهلِ أن تهوى
أن تحلمَ
أن تدّعيَ كتابةَ الشّعـرِ
لكن منَ الصّعبِ
أن تبقى في ذاكرةِ الأرضِ .
من السّهلِ أن تصرخَ
أن تبصقَ ..
أن تشتمَ البلابلَ
لكن منَ الصّعبِ
أن تنتشيَ النّجومُ لصوتِكَ.
منَ السّهلِ..
أن تصفّقَ لكَ الأيدي
أن ينحنيَ لكَ الأقزامُ
أن تشتريَ كلَّ العاهراتِ
لكنْ منَ الصّعبِ
ألَّا يصـدأَ إسـمـُـكَ.
في القلـوبِ
منَ السّهلِ..
أن تحرقَ الأشجارَ
أن تهشّمَ كلَّ الأضواءِ
أن تحجبَ الشّمسَ قليلاً
لكنّكَ..
منَ الصّعبِ
أن تسطعَ طوالَ الدّهرِ.*
حلب
* أشراخ..
وحدُكَ تتعبّدُ خطاياكَ
تمضي في أرجاءِ الهروبِ
تسيّجُ خطوتَكَ بالمديحِ
وتلعنُ قامةَ الدّربِ
عنقُكَ تسبلهُ على سكينٍ
تنهمرُ ارتعاشاً
على حافةِ الجـُـرحِ
من دمِـكَ تعرّيتَ
صارَ اسمُـكَ ناصعَ الانحناءِ
والرّيحُ على الجـَـمـرِ
كَوَت انشداهَ الرّوحِ
رمّدتَ لهاثَـكَ
تبرّدتَ بالغبارِ
طوّحتَ بظهرِكَ للهاويةِ
وجئتَ بلا محيّا
سكنت وجهَـكَ السّهوبُ
بمقلتيكَ الجَـحيمُ اختبأت
توزّعتَ على عنقِكَ
شَربتَ الوريدَ
آلامَـكَ مضغتها
ورحتَ تجترُّ الانكسارَ
عبثاً أن تختفيَ في جوفِكَ
والنّبضُ بالرعدِ ينوءُ
وهذا الانكفاءُ نعشُـكَ
ترتدُّ من حيثُ الجِـهاتُ انغلقت
حاصرتكَ النّداءاتُ
الذكريـاتُ مرايـا
فأبصر ملامحَ منكَ تداعت
وهتافاتٍ كوّنها الاختناقُ
ماذا تقولُ؟
وأنتَ مَن حاربَ الرّدةَ
وشرّعَ التّحاورَ
كنتَ تستبقُ النّبعَ لإروائِنا
لاحتضانِنا تنافسُ الدفءَ
وإذ نجوعُ
تصطادُ لنا المستحيلَ
فمن علّمَكَ الانطواءَ
لتلتفّ حولَ انكماشِك؟!
كيفَ اقتحمَكَ الشّرودُ؟
وأنتَ إذ تعتكفُ
تفاجئُنا بالحلولِ
فهل ماتت نيـّاتـُـكَ
أم أفزعَكَ التّرهلُ؟!
ما أنـتَ بالعبثيِّ فتحيدُ
ما بالخائنِ أنـتَ
فكن واضحاً للدّروبِ
انهج مسارَ الشّهيدِ
أمطْ لثامَ المخاوفِ
إنهض من شتاتِكَ
لا يريحُكَ التّفرجُ
فانتفضْ منَ الهواجسِ
جابِهْ وجهَـكَ واْشهر رؤاكَ
صرنا من أيادينا نرتعبُ
نتجسّسُ على خطانا كي لا تنفلتَ
حيارى نحنُ
بين تربّصِنا والجنوحِ
بكاؤنا ماذا نسمّيهِ؟!
والبلادُ التي تلجُ المقابرَ
زوّدتنا بالوقتِ كي نفيقَ
كلُّ هذا الضّياعِ لاختلافِنا
على منصبٍ من فراغٍ
نتهمُ العابرينَ مخبرينَ
وننسى انقسامَنا
جزّأتنا السّياداتُ
باسمِ التّطرفِ التّعقلِ
التّجددِ والثّباتِ
قهقَهَ السّوطُ
الذي علينا يلتفّ أفعى
زغردَ الدّجى
فارتجل ميلادَكَ الأبديَّ
وحّد أصابعَنا في الكفِّ
لنرسمَ خلاصَ البلادِ
لا رفيقٌ إلاّ أنتَ..
لا أنصارٌ إلاّ نحنُ
فانبثق من عنادِنا
متوّجاً بالأفقِ.*
حلب.. عام1986م
* إلى عاملة..
أُسوّرُ حبَّـكِ بالنّهـارِ
وأجعلُ قلبي حارساً
لا يتمطّى.. لا يتثاءبُ
حاملاً صاريةَ هواكِ
أحبُّ شكلَـكِ العاديَّ
ولستِ قمراً..
ولستِ ورداً
أحبّكِ تكدحينَ
تأكلينَ..
تنجبينَ
لا تشبهينَ الملائكةَ الرّخامَ
أحبّكِ باكيةً
ضاحكةً
متكلمةً
وأعشقُ بساطةَ ثيابِـكِ النّظيفةَ
لا أريدُكِ آلهةً "كعشتار"
ولا دميةً كالأميرةِ "ديانا"
أريدُكِ كما أنتِ
تقرئينَ الجّرائدَ
تحفظينَ القصائدَ
تصعدينَ الحافلةَ
كما أنتِ أكتبُ عنكِ
عروسُ البحر وهمٌ
وربّةُ الشّعر أكذوبةُ الشّعراءِ
أريدُكِ..
خاطئةً نصوحةً
طاهرةً..
كرغيفِ خبزٍ
تبتسمُ
برغمِ الألمِ.*
حلب
* الخروجُ المغلق..
أناديهِم..
فأحسبُ أنّي المنادى
أجيءُ من أقصايَ
أبحثُ عمّن ينادِينِي
أتعثّرُ بأنحائي
وألتقي بي
نافراً من سحنتِي الدّامعةِ
أعاينُ مكاني
تحتَ خطوَتي انهيارٌ شاسعٌ
حولَ دهشتِي أدورُ
متمسكاً بشكوكي
أستبقُ خطوتي بخطوتينِ
وأعلو فوقَ انحنائي
يطالعُني أفقٌ قميءٌ
وصباحٌ أجربُ
كلُّ ما انتميتُ إليهِ
توقّدَ وقتُ انكساري
لا شيءَ يُفضي للخروجِ
ونوافذي حاصرَتْنِي
توافدت عليَّ الشكوكُ
حتّى امتلأتُ بالضّياعِ
إلى أينَ؟!
والجِـهاتُ تدورُ!
تُغلَقُ!
عندَ حدودِ صرختي
تهاجمُني رؤايَ
حيثُ ألوبُ في اختناقي
يا أفقاً ينتمي للحضيضِ
كيفَ أعلو؟!
والوساوسُ تتكمّشُ بقصيدتي
أنزعُ عنّي السّقوطَ
فأرى السّحابَ يشربُ مياهَنا
والشّجرةَ واقفةً على جنحِ عصفورٍ
كلّما أهمّ بالبسمةِ
أفاجأُ بالنحيبِ
فمَنِ اْستبدَلَ طفولتي بالهمومِ؟!
ومَن لطّخَ حلميَ بالتّجاعيدِ؟!
أناديهِم...
لا شيءَ إلاّ أنفاسي الرّاعشةُ
وبقايا زمهريرٍ، وليلٌ تغضّنَ
أسرفتُ في الزّحامِ
وبالحشدِ توغّلتُ
ولم يكنِ الجَـمعُ إلاّ شتاتي
يا هذا.. الشّاخصُ في جرحِهِ
يا هذا.. ال.. أنتَ
ماذا تبقّى؟
وأنتَ الشاهدُ على تبعثري!
خذ بعضَكَ من هشيمي
خذ دمعتَكَ من نحيبي
وخذ طفولتَكَ من شحوبي
فأنا خبأتُ جرحي عن دمي
وخبأتُ قامتي في الظّلامِ.*
حلب.. عام1987م
* النّهـر..
ترهّلتْ جهاتُكَ بالدروبِ
والصبحُ يقتنصُ سجاياه
تجاعيـد ُ نَمـَت في نبضِكَ
وخارت بأحلامِكَ الليالي
أكانت أناشيدُكَ زلفى
حينَ تورّمتَ بالهواجسِ
ما كنتَ تعضُّ النّجوى
حينَ شبَّ فيكَ الرّحيلُ
فكيفَ تشعّبتَ بالموانئِ؟!
وصارت صواريكَ تموءُ؟!
هل استبدلتَ شتاتَكَ
وتهتَ بأنحاءِ الحنينِ؟!
فلمَن أفردتَ الجحافلَ
ونشرتَ الرّعودَ
إن هزمتَ بالوعودِ؟!
للنـارِ ما تقولُ؟؟
نَفَضَتَ عن وهجِها الرّمادَ
لوّحتَ بعرفِها للجليدِ
أشعلتَ صمتَنا باليباسِ
وصرنا نجولُ
ماذا تقولُ؟
وقد تفتّقت في عروقِنا الدّماءُ
تجرّعنا انكسارَنا
امتطينا السّهولَ
جئنا من جحورِ المخاوفِ
استللنا آلامَنا..
استبقنا السّيولَ
ماذا تقولُ؟
أتهربُ؟!
ونحنُ نسلُ خطاكَ
توافَدنا من رؤاكَ
حملتنا إليكَ الفصولُ
ماذا تقولُ؟!
مذ كنتَ يافعاً.. شرختَ الرّدى
بترتَ في نفوسِنا العفنَ
فهل تحيدُ؟!
وأنتَ مسارُ نبضِنا!!!
ونحنُ مجراكَ الوحيدُ
فما تقولُ؟
إن كنّا وإياكَ الهطولَ!!!*
حلب.. عام1986م
* شوق..
أدميتُ شوقي بجمراتِ الوجدِ
ورحتُ أشكو من وجعِ الحنينِ
تنوءُ النّظرةُ بأحلامِها
والقلبُ مخبئُ الجُـرحِ
أيّها الوردُ الصّاعدُ من يَدي
أيّها الدّمُ النّافرُ من نشيدي
أيّها التّوقُ المريبُ
زحفت أفاعي السّرابِ نحوَكَ
والنّدى صليبٌ!
أفكُّ عن عنقي موجَ الرّحيلِ
وأسألُ الدّربَ العابرَ من عيني
إلى أينَ الذهابُ؟؟؟
سقطت شموسُ الدّمعِ من عروقي
وأنا أبحثُ عن أفقٍ يتّسعُ لخطايَ
ضاقت أعاصيرُ البحرِ
من مجاذيفي
وأنا أشقّ موجَ القهرِ
أسلمتُ أشرعتي لريحِ الأمنياتِ
وكان النّدى يكفّنُ نبضيَ بالأنينِ
أيّها الوقتُ الذي مرّ بدونِ وقتٍ
تصلّبت دهشتي على وجنتيِّ الحلمِ
وسافرت فيكَ أشجاري الميّتةُ
تحمّل أغصانُها صفّارةَ النّذيرِ
أيّها الرّمسُ أجِرني من الشّوقِ
فالنّدى سعيرُ الصّباحِ
والقلبُ يخبو من غيرِ شمسٍ.*
حلب.. عام1986م
* مأساة..
الأرضُ ابنةُ الشّمسِ
قتلَها انفجارُ السّديمِ
وشيّعها لجبّانةِ الفضاءِ
طمرها بجوفِ الظّلامِ
وهذا القمرُ عشيقُها المفجوعُ
هامَ وضلَّ الطّريقَ..
فانتحر
وكلَّ صباحٍ
تزورُ الأمُّ ابنتَها
تكلّلُ رمسَها بالنّورِ
وتذهبُ
متوجّسةً طريقَها
بصمتِ الثّكالى.*
حلب.. عام1978م
* نوافذُ على الجـُـرح..
لو أرسمُ الجـُـرحَ
كم أحتاجُ من دروبٍ؟!
وإلى مدى لا يضيقُ؟!
وكم محيطاً وبحراً عليّ أن أنسجَ؟
وكيفَ لي..
أن أحفرَ الأعماقَ!!!
وكم نجمةً سأنزفُ؟
كيف لي أن أرسمَ الجرحَ؟!؟!؟!
جرحٌ يتسامقٍ كالأفقِ
يمتدُّ من خطوتي إلى رؤايَ
يحمحمُ باللهيبِ
ويفورُ بالغصّةِ
جرحٌ يشبهُ الأحداقَ
يحدّقُ في انتظاري
يا نجمةَ الصّبحِ أطلّي من نوافذِهِ
يا امرأةً تمرحُ في سهوبهِ
تهلّلي إن يصرخ القلبُ
جرحٌ يغوصُ في الشّوارعِ
يسألُ عن رغيفٍ وتبغٍ
يزاحمُ الطٌابورَ ليشتريَ الضّمادَ
جرحٌ يلعقُهُ السّمسارُ
ينهشُهُ الطّبيبُ
تبتزُّهُ ثعالبُ المؤسساتِ
يتضوّرُ في دمعةِ الأطفالِ
تصطكُّ عظامُهُم من البردِ
والأمُّ تشعلُ ضفائرَها لتدفئَهُم
تحتطبُ صدرَها المنخورَ
وبائعُ المحروقاتِ.. يتاجرُ بالماءِ!!!
جرحٌ بحجمِ المدينةِ
يمتدُّ من لثغةِ الطّفلِ
لرعشةِ الشّيخوخةِ
جرحٌ يزمجرُ كالعصفورِ
سيجتاحُ هذا الليلَ
وينسفُ هذا الصّمتَ.*
حلب.. عام1986م
* غصـون..
لعينيكِ يركعُ الضّوءُ
وينحني السّحابُ
والعشبُ يعربدُ إن افترشتيهِ
تجنُّ الفراشاتُ
والقمرُ ..
وجهُ مراهقٍ يتلصّصُ
يمارسُ الاحتراقَ
موشكٌ على الارتماءِ.
- 2 -
تشتهيكِ المرايا
يشتمُّكِ الوردُ
ويستحمُّ البحرُ بطهرِكِ
فماذا ..
لو لامستكِ الأصابعُ؟!
من هسيسِ عينيكِ
يتكوّنُ الليلُ
من سقسقةِ صوتِكِ
تكتسي الأشجارُ فستانَ الزّفافِ
ويداكِ مهدُ الشّمسِ
المتعبةِ منَ الدّورانِ.
- 3 -
يلهثُ الزّمنُ وراءَ خطواتِكِ
يحاولُ بثَّ الوهنِ
في عروقِكِ
فيستحيلُ لقشٍ هشٍّ
وأنتِ..
نضارةُ الأبدِ.*
حلب.. عام1984م
* لقاء.. مكفّن بالهدوء..
شهيٌّ هذا التّجاهل منكِ
شهيٌّ هذا الدّمع المختبئ
شهيّّ لقأنا المكفّن بالهدوءِ
تختلسُ المآقي عناقها
وعيونُ رصّادنا..
تجابهنا بكلّ شرائعهم
شاردٌ ذاكَ الحديث
مبعثر
فالحاضرونَ..
يتذكّرونَ
يراقبونَ
نغافلهم..
تهرعُ قلوبنا للإحتضانِ
تنفرجُ شفاهنا.. باكية
فنكتشفُ تغافلهم.. مصيدة
آواه حبيبتي..
ناطق صمتنا
والكلمات تنزف فوق الشّفاه
والأرض سفينة حبنا
تمخر عباب الدّم
يجهضون بسمتنا..
بنظرةٍ
ويرغبونَ..
للقائنا أن يكونَ عادياً
ونحنُ صامتينِ
يَكفِنا هذا اللقاء
الشّاسع بالنأي
يَكفِنا.. هذا التّجاهل
ونحنُ سكارى بهذا العناق
المكفّن بالهدوء.*
مصطفى الحاج حسين .
حلب..عام 1979م.
الفهرس:
=======================01 - شاسعة الحضور
02 - موسيقى
03 - انتظار
04 - غياب
05 - يدها
06 - مرثيّة
07 - مهرجان
08 - موقف
09 - الجثمان
10 - مستقبل
11 - شلل
12 - سفر الجرح
13 - عينان
14 - شتاء
15 - من يفتح الباب
16 - بكاء النوارس
17 - الطريق
18 - قاتل ملثّم بالعشق
19 - انتفاضات فاشلة
20 - طيف
21 - أشراخ
22 - إلى عاملة
23 - الخروج المغلق
24 - النهر
25 - شوق
26 - مأساة
27 - نوافذ على الجرح
28 - غصون
29 - تهدَّم
30 - لقاء مكفّن بالهدوء
-------------------------------------------- مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى