التقيت بها في ليلة كنت فيها سأمانا والملل يدب في داخلي دبيبا له وخز..
كانت مقبلة نحوي فنظرت إليها ويداي في جيوبي بلا عناية.. فمضت تحدق في وجهي بفضول.
كانت صغيرة.. وجهها مليء بالمساحيق.. وقفت أمامها ولم أقل شيئا.. لكن عيني قالتا لها كل ما يمكن أن يقال..
مهنتها أن تقرأ عيون الناس.. فلم يأخذ الأمر منها وقتا طويلا للتفكير.. علقت ذراعها بذراعي, وسارت إلى جواري وهي تبتسم..
كنا في آخر الليل.. والدنيا برد.. والعربات تمرق على الشارع العريض في فحيح.
وقد ظللت طوال الوقت صامتا.. كان يحتوي مشاعري ذلك الإحساس بالمسؤولية المبهمة, الذي يراودني كلما اصطحبت امرأة إلى البيت..
وخلال الطريق قالت لي اسمها وعمرها.. ورأيها في كل الرجال.
كانت تتكلم في صراحة.. وببساطة.. دون التواء أو خبث, وقد شاعت في ملامحها طيبة غير معهودة..
لما وصلنا فتحت لها الباب وأشرت إليها بالدخول في صمت أيضا. لم تكن لدي قابلية للكلام على الإطلاق.
وفي الحقيقة.. لقد ظللت طوال الوقت أفكر:
- لماذا وقفت في طريقها؟.. لماذا أتيت بها معي؟.. أتراني رغبت أن أدفن في صدرها أحزاني؟..
حين أضأت النور, أخذت نفسا طويلا وهي تتنهد في خلاص.. كأن الشعور بالطريق يعذبها.. وفي البيت ينبسط اطمئنانها..
ارتمت على مقعد بالصالة, وراحت تتأمل الصور المشدودة في الحيطان, صور ملونة رسمتها أيام أن كان القلب صبيا..غمغمت فجأة وهي تلتفت إلي, محاولة أن تخنق الصمت قبل أن يتمدد:
- انت اللي راسم الصور دي؟
- أيوه.. تعجبك؟..
- آه.. حلوين قوي. أصل أنا بحب الرسامين ودايما أروح لهم عشان بيرسموني.. دول طيبين قوي.
وقد أجبتها بابتسامة بلهاء وأنا أهم بخلع ملابسي, فبان على وجهها الضيق, وارتسم في تقاطيعها اكتئاب مؤلم جعلني أشعر بالتعاسة.
وقفت فجأة وهي تسأل:
- فيه هنا أكل .. أنا جعانة..
كان السؤال ينحدر من فمها جائعا.. وهي تقف في حيرة طفلة في الثامنة عشرة..!
اهتز قلبي وغمغمت:
- ما افتكرش فيه.. لكن أنزل أجيبلك..
كنت قد خلعت القميص والحذاء.. وبقيت بالبنطلون. فقالت:
- لأ.. خليك انت وأنا أنزل أجيب..
أعطيتها نقودا وأضأت لها نور السلم وأحسست براحة وأنا أغلق الباب وراءها..
تمددت على فراشي وأنا أشعر بالخلاص. وتمنيت أن تذهب بالنقود ولا تعود.. لكنها عادت..
طرقت الباب ففتحت لها..
كانت تضم إلى صدرها عدة لفافات.. وقد انفرجت شفتاها الرقيقتان عن بسمة سعيدة.
أخذت تمد الطعام على المائدة الصغيرة.. وتملأ أكواب الماء.. وكان من الواضح أنها مبتهجة بما تعمله. وأن الشعور بالبيت يملأ نفسها بالطهر..
فكت حزامها. وفتحت أزرار فستانها الضيق.. فبانت رقبتها وجزء من صدرها .. ثم جلست إلى الطعام..
وجلست أمامها أرقبها..
كانت تأكل في بساطة.. وصدرها يبدو من فتحة الفستان بلا حرج والبسمة الصافية تضيء وجهها.. فبدا لي أن الذي يملأ صدري وهم.. وأن حولي فقاعة كبيرة سوف تنفجر لو لامست هذا الصدر..
***
عدت إلى فراشي..
جاءت وجلست إلى جواري في صمت..
مددت يدي لأمسك بيدها, فسحبتها من يدي في تدلل.. وهي تغمغم:
- يظهر أنا مش عاجباك..!
قالت ذلك وهي تغرس عينيها القلقتين في عيني.
قلت لها وقد أحرجتني ملاحظتها:
- أبدا.. مين قال كده.. أنت قمورة وظريفة.. بس أنا بافكر في حاجات تانية شغلاني.
- لأ.. أنت مش عايزني.. لو كنت عايزني ماكنتش تخليني أنزل أشتري الحاجة.
- يا شيخة ماتبقيش عبيطة.. مش انتي اللي قلتي.
- لأ.. برضه.
كان من الواضح أنه ليس لدينا ما يمكن أن يقال.. فمددت يدي وجذبتها إلى جواري, فتكورت في حضني مثل قطة دافئة.. ولفت ذراعيها حول عنقي.. ودست فمها الرقيق في فمي, وأغمضت عينيها.
***
في تلك الليلة طلبت من الأنثى الصغيرة أن تخلع ملابسها.. كل ملابسها.. لكنها رفضت..
كانت قد تلاشت في صدري بكل حرارتها.
وعندما طلبت منها أن تخلع ملابسها بغتت.
نظرت في عيني بحيرة وتردد وهي تغمغم:
- مش ضروري.. كده كويس.. لكنني عدت ألح.. فأصرت على الرفض..
قالت لي:
- علشان خاطري بلاش..
لكن رفضها زادني تشبثا برغبتي.. وحين بدا لها أن ذلك يضايقني قالت في همس:
- طب أخرج بره وأنا أقلع..
وخرجت وأنا أبتسم في استغراب.. بعد لحظة ستكون كلها حقيقة بين يدي.. ما الفرق في أن أرفع أنا عن الحقيقة أغلفتها. أو ترفعها هي؟
ومن الداخل جاءني نداؤها خافتا كمواء ضغيف.. فدخلت.. كانت ملابسها مطوية بعناية وقد دستها تحت الوسادة.. لكن طرفها كان ظاهرا وقد انسحب الغطاء على صدرها وهي ممددة في الفراش..
قلت لها:
- أطفيلك النور..
- زي ما يعجبك..!
أطفأت النور وأنا لا أزال أفكر. لماذا لم تخلع ملابسها أمامي؟
***
ذبلت الرغبة فتمددت في سكون.. وأخذت أحدق في السقف. عندما أشتري الحب تمتلئ بالكآبة نفسي.
أدرت وجهي وابتسمت للأنثى الصغيرة في ود!.
كانت راقدة إلى جواري صامتة.. عيناها الواسعتان مفتوحتان في امتداد.. وفمها مطبق..
كنت أبحث عن كلمات أقول لها بها.. إنني أعطيتها ليلة كئيبة.. لأنني إنسان مهموم.. وعمل الحب عندي معقد وغير ناجح, لأنثى لم أعرفها من قبل.. وقد لاأعرفها من بعد..
لكنني كت متأكدا من أنها لن تفهم ما أعنيه.
وضعت يدها الصغيرة على رأسي وتخللت شعري بأصابعها وهي تسأل:
- دايما تفكر كده.. بتفكر في إيه؟
ضممتها إلى صدري وأنا أغمغم:
- ولا حاجة.. أنت بتصحي الساعة كام؟
- انت بتصحى كام, أنا مش مهم.. أقدر أقوم في أي وقت.
- لا أنا باصحى متأخر.. حوالي تسعة كده.
- طيب.. حا أبقى أصحيك.. تحب تنام دلوقت.
- يمكن أنام.. تصبحي على خير..
أغمضت عيني.. لكنني ظللت أفكر.. وظل الليل ينسحب وأنا لا أزال مؤرقا.. كنت ممددا بجوارها.. ساكنا.. لكن أفكاري بقيت صاحية..
كان يؤلمني أن الأنثى الصغيرة حاولت أن تمتعني. وكانت مخلصة.. وقد قالت لي في مودة:
- انت طيب قوي!!
ومن خلال كلماتها البسيطة وضح لي كل ما تلاقيه من عذاب..
وقد أحسست بها تقوم من جواري في تسلل حينما خيل لها أنني نمت.. شعرت بها تشعل نور الصالة وهي تتجه إلى الحمام..
أخذتني خواطري فترة طويلة.. وعندما أفقت كان نور الصالة لا يزال مضاء.. ولم تكن هي قد عادت إلى جواري بعد..
وقد تساءلت طويلا عما تفعله في الحمام.. ثم غلبني الإعياء فنمت.
حين أنام.. أترك نافذتي مفتوحة.. النور يدخل في الصباح فيوقظني..
دخل النور في سريري فصحوت.. كانت الأنثى الغريبة تتنفس إلى جواري في هدوء.. تركتها وذهبت إلى الحمام..
قي وسط الحمام وجدت قميصها الداخلي.
كان مغسولا.. ومنشورا على مقعد خشبي تعودت أن أهمله في الحمام.
وكان القميص ممزقا.. سدت خروقه قطع مختلفة من القماش..
وقفت أحدق في وجوم وإجابة أسئلة الأمس تطرق رأسي..
أدركت فجأة لماذا لم تخلع ملابسها أمامي..
ثم استدرت بسرعة.. وعدت إلى الفراش.. وانحنيت على الفتاة وأخذت أغرس عيوني في ملامحها.
رفت أهدابها برهة.. ثم فتحت عينيها وتطلعت في وجهي وهي تبتسم في دهشة..
- ايه اللي صحاك بدري كده..؟
قبلتها وأنا أغمغم:
- أنا زعلان منك.. حانزل دلوقت أجيب حاجة من تحت.. إوعي تنزلي لحد ما آجي.. وبعدين حا أقول لك أنا زعلان من ايه..
ارتديت ملابسي والقطة في فراشي تتأملني بفضول..
لوحت لها بيدي وأنا أهم بمغادرة البيت:
- متنزليش يا قطة لحد ما آجي.. مش هاغيب.
وأغلقت الباب ورائي..
لاحظت أن مشاعري تتفتح وأنا أقول للأنثى الغريبة. يا قطة.
وقد امتلأ قلبي بالراحة وأنا أشرب البساطة من وجهها.
في الطريق أحسست باللهفة لأن أعود سريعا.. وقد دلفت إلى محل يبيع الملابس..
قلت للرجل:
- عاوز هدوم داخلية..
- مقاس كام..؟
أشرت للفتاة التي تجلس على الكيس وأنا أغمغم:
- مقاس القمورة دي تقريبا..
نظر إلي الرجل وهو يبتسم.. ثم وضع أمامي مجموعة من العلب لأختار..
ووجدتني أنتقي بدقة.. وبرغبة.. وقد راودني ذلك الشعور بالسعادة الذي يمارسه الرجل حينما يختار لامرأة يحبها..
حملت لفافة الملابس وعدت إلى البيت..
فتحت الباب فواجهني الصمت..
كانت القطة قد غادرت البيت..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القميص ، مجموعة قصصية - عام 1985


* نقلا عن:
صدى: صبري موسى


=======================
1713969927446.png

صبري موسى
كاتب روائي وصحفي وسيناريست.
ولد في محافظة دمياط عام 1932
من كتاب القصة البارزين في مصر
تخرج من مدارس أسيوط.اشتغل في الصحافة
من مؤلفاته: "خمسون عاما في قطار الصحافة"
و في الرواية:"دموع بلا خطايا"
و"آدم يصرخ و حواء تستغيث"
و"قلوب تتوجع"
عمل مدرساً للرسم لمدة عام واحد ، ثم صحافياً في جريدة الجمهورية، وكاتباً متفرغاً في مؤسسة «روز اليوسف»، وعضواً في مجلس إدارتها، ثم عضواً «في اتحاد الكتاب العرب»، ومقرراً للجنة القصة «في المجلس الأعلى للثقافة» وقد ترجمت أعماله لعدة لغات .

[HEADING=1]أشهر أعماله[/HEADING]

[*]سيناريوهات أفلام * البوسطجي * الشيماء * قنديل أم هاشم * قاهر الظلام * رغبات ممنوعة * أين تخبئون الشمس .
[*]قصص قصيرة * القميص * وجهاً لظهر * حكايات صبري موسي * مشروع قتل جارة .
[*]روايات * حادث نصف المتر * فساد الأمكنة * السيد من حقل السبانخ .
[*]أدب الرحلات * في البحيرات * في الصحراء * رحلتان في باريس و اليونان .||رحلة النسيان||

[HEADING=1]التكريم[/HEADING]
  • جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1974 .
  • وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عن أعماله القصصية والروائية عام 1975 .
  • وسام الجمهورية للعلوم والفنون عام 1992 .
  • جائزة «بيجاسوس» من أميركا، وهي الميدالية الذهبية للأعمال الأدبية المكتوبة بغير اللغة عام 1978 .
  • جائزة الدولة للتفوق عام 1999 .
  • جائزة الدولة التقديرية عام 2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى