كتاب كامل مصطفى الحاج حسين - (أخاديدُ الظّلامِ).. مجموعة شعرية

(أخاديدُ الظّلامِ)..

# تقديم:
- الدكتور المبدع: لحجاب أبو جمال -
(أخاديد الظلام) هو عبارة عن مضاف ومضاف إليه بصيغة مجازية: فالأخاديد تكون محفورة على ماهو مادي صلب وملموس مثل الجبال والهضاب.. بفعل مجرى الماء.. لكن أخاديد الشاعر هنا هي أخاديد ظلام وسواد.
يمكن تقسيم هذا النص إلى أربع حقول دلالية وتركيبية:
@ الحقل الأول حسب تقسيم النص إلى فقرات:
الفقرة الأولى:
(يهاجمني ظلي
ينقض على خطاي
يشعل القش في صوتي
ويأمرني:
لا تكمل الدرب.)
وهنا الشاعر يعيش صراعاً مريراً مع ظله الذي يهجم ويعيق مسيره.. ويخنقه ويمنعه بصيغة الأمر من مواصلة السير على الدرب. وهو صراع مرتبط بحاضر الشاعر .. وذلك لكون الشاعر وظف أفعال المضارع: يهاجمني ..ينقضُ.. يشعلُ .. مع فعل أمر" لا تكمل".
ولعلّ الصّراع هنا صراع مع الذات.. ويبقى" الظّل" رمزاً لما يعانيه الشاعر من هواجس وقناعات فكرية تتضارب أحيانا لسبب أو لآخر وتمنعه عن مواصلة دربه.
والعلاقة بين الذات والظّل هي علاقة فيزيائية.. وهي علاقة جزء (الظّل) من كل (الذّات).. وأوضح من خلال الفقرة الأولى هو أن الجزء أقوى من الكل؟!
وذلك بالنظر إلى السلطة التي يمارسها الظل على ذات الشاعر؟!
@ الحقل الثاني من خلال الفقرة الثانية:
(كانت انفاسي حفرت
أخاديد الظلام
وأصابعي أمسكت نافذة الفجر
تجمّعت في دمي طيور الحنين
وتحرّكت بداخلي مراكب الانعتاق
وكنتُ قد هممتُ باشعال أمواجي
حين داهمني خراب الأجنحة
من كسّر شواطئي هو منّي!
من حطّم عليائي
هو توأم انتصاري!
أيا درب البرق التّائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب).
هنا الشاعر رحل بنا إلى ماضيه المجيد والجميل والغني بالمواقف الفكرية والقوة والعزم والإصرار من أجل التحرر من المعوقات والإنعتاق والإنتصار لغد مشرق وبديل.
ولعل الحنين إلى الماضي جعله يلجأ إلى أسلوب الحكي.. والذي برع فيه بتركيز.. و بشاعرية.. وعبر أفعال الماضي... وعبر توظيف صور بلاغية وتعابير مجازية رائعة.. مثلا:
كانت أنفاسي.. حفرت أخاديد الظلام. (هنا الشاعر جعل للظلام أخاديد)؟!
و:وأصابعي أمسكت نافدة الفجر(هنا الشاعر جعل للفجر نافذة)؟!
و :تجمعت في دمي طيور الحنين.
و :وتحركت بداخلي مراكب الإنعتاق.
و : وكنت قد هممت بإشعال أمواجي.
وكلها صور بلاغية بليغة وتعابير مجازية استطاع الشاعر من خلالها أن يعبر بعمق عما يخالج نفسه من أحاسيس وعزم واستعداد وتحدي لواقع يعيشه ولا يرضاه.
يتابع الشاعر حكيه الشعري والشاعري.. ويعلن لنا عن حقيقة مرة هي سبب معاناته وانكسار عزائمه المتوهجة.. وهي أن سبب الإنكسار والهزيمة هو جزء من الشاعر؟!.. وهذا الجزء الذي خذله في نظري قد يكون متعددا.. فهو الظل.. لكن بتجلياته المتنوعة :فكرية.. اجتماعية.. سياسية ألخ.
لكن ما يبهر هو نوعية التعبير البلاغي ومهارة توظيف المجاز:
مثلا :من كسّر شواطئي هو مني!
و :من حطم عليائي
هو توأم انتصاري!
ولعل خيبة وتدمير الشاعر بسبب جزء منه جعلته ينادي بحسرة ومرارة.. درب برقه (الضوء.. النور.. الحلم.. الأمل.. الغد المشرق.) بجودة عالية في التعبير:
( أيا درب البرق التائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب).
إنها صورة دلالية وشاعرية بليغة جدا.
@ الحقل الدلالي الثالث : من خلال الفقرة الثالثة:
(مهما ابتعدتُ عن النار
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوق أنفاسي).
هنا الشاعر انشطر في التعبيرعن ذاته وتجربته بين الماضي والحاضر.. فلا شيء يسعفه مهما حاول تجنب العراقيل والمعوقات؟!
ودائما يتفوق شاعرنا في التعبير..البلاغة وشاعرية فائقة.
@ بين الحقل الدلالي والأخير... من خلال الفقرة الأخيرة في النص:
( إني أحارب مجاديف الحصار
أعارك جموح رؤايَ
أحطّم أسوار يباسي
وأصعد أعالي شهقاتي
لأعلن عن ميلاد المدى
القادم بلا ريب
من تحت الرماد).
هنا الشاعر يعود بنا للحديث عن ذاته الآن في الحاضر بتوظيف أفعال المضارع كلها دلالة على عودة عزيمة الشاعر.. وانتعاش روح التحدي لديه لاستئناف مقاومته من أجل التحرر والإنعتاق... ومن أجل تحديده لكل العقبات التي تعيق مساره ومصيره نحو درب البرق.. ونافذة الفجر.. حيث استجمع كل قواه الفكرية والمعنوية ليعلن عن ميلاد المدى القادم بلا ريب من تحت الرماد.
في إشارة إلى"طائر الفينق" الذي ينبعث من الرماد.. ربّما.
وبذلك يكون الشاعر قد جدد عزائمه.. و تجاوز صورة الحزن والمعاناة التي طبعت النص في مراحله الأولى.. وعبر عن ذلك بلغة كلها أمل وتحدي.. وشاعرية.. وبلاغة..جمالية. وهذا يجعل من هذا يمتلك مقومات شعرية وإبداعية ورؤى فكرية ذات جودة عالية.
هنيئاً لشاعرنا مصطفى الحاج حسين بهذا النص الرائع.
وأتمنى أن أكون قد وفقت في قراءتي له.
الدكتور: لحجاب أبو جمال.
* أخَاديِدُ الظّلامِ..
يُهَاجمُني ظلّي
يَنقضُّ على خطايَ
يُشعلُ القَشَّ في صوتي
ويأمرُني:
- لا تكملِ الدّربَ..
كانتْ أنفاسي حَفَرتْ
أخَادِيدَ الظّلامِ
وأصابعي أمسَكتْ نافذةَ الفَجرِ
تَجمَّعتْ في دمي طُيورُ الحَنِينِ
وَتَحَرَّكتْ بداخلي مَراكبُ الانعتاقِ
وُكنتُ قَدْ هَمَمْتُ بإشعالِ أمواجي
حِينَ داهمَني خَرابُ الأجنحةِ
مَنْ كسَّرَ شواطئي هُوَ منّي!
مَنْ حطَّمَ عَليائي
هُوَ توأمُ انتصَاري!
أيا دَربَ البَرقِ التَّائهِ
هَطَلَ دمعُ الهزبمةِ
وناحتْ فَوقَ أغصَاني
فَوَاجعُ السّرابِ
مَهما ابتَعَدَتُ عنِ النّارِ
أراها تفيضُ من مَسَاماتي
ومهما ارتَحَلتْ عنّي صَحرائي
أجِدُ رملَ النّدى يهمي فوقَ أنفاسي
إنِّي أحَاربُ مَجَاذيفَ الحِصَارِ
أعَارِكُ جُمُوحَ رُؤايَ
أحَطّمُ أسوَارَ يباسي
وأصعدُ أعالي شَهَقاتي
لأعلنَ عن مِيلادِ المَدى
القادمِ بلا رَيبٍ
من تَحتِ الرَّمَادِ.*
إسطنبول
* أريجُ النّارِ..
وكنتُ ألَملِمُ أورَاقَ خُطايَ
كُلَّما اهتَرَأتْ مِنها الدُّرُوبُ
وكانَ الغيابُ يرتَشِفُ عَطَشِي
وَيُرَتّقُ بُحَّةَ انتظاري
أشرَبُ عَثَراتِ صَوتي
في صَحرَاءِ انكِسَارِي
أتُوْهُ عن أنفَاسِي
وَيَتُوْهُ الفَضَاءُ عَنّي
فأسْكُنُ غُصَّتِي
وأنا شَاردٌ عن سَرَابِها
إلى أينَ يتَّجِهُ السَّدِيمُ بِجَنازَتي؟!
والبَحرُ يَتَصَيَّدُ رَملَ العَدَمِ!!
وأنا أنادي على هُبُوبِ الرّحمَةِ
وأتَطلَّعُ على أفُقٍ نابتٍ
من دمِ النّدى
أهزُّ بِجذعِ السَّكينَةِ
ليتساقَطَ الضُّحى على القُلوبِ
ويَنتَشِرَ أرِيجُ النّارِ
على جُدرَانِ وحشتي
لِيَبوحَ الوَردُ بأثقالِ ظُلمَتِهِ
وأسمَعَ دَندَنَةَ المَطَرِ
في تمطّي السَّنابلِ
إنِّي أحَاولُ إيقاظَ الضّوءِ
من ثباتِ الموجِ الأسودِ
حتّى يَصهَلَ البَرقُ
فَوقَ حُقُولِ آهاتِنا
لِنَزرَعَ شَتَائِلَ النَّدى
في بَيدَاءِ قلوبِنا
وآفاقِ جُرحِنا الهَائِجِ
بالعَوِيلِ.*
إسطنبول
* أدغَالُ السُّكونِ..
يَجتَرُّني المَوتُ
كُلَّما تذكَّرتُ بلدي
وبلدي لا تُفارقُ نَبضِي
وفي نبضِي زرعُوا الهاويةَ
والهاويَةُ تنمو على أطرَافِ
لوعَتِي
ولوعَتِي مَدَاسُ الدُّرُوبِ
والدُّروبُ تَبدَأُ منّي
لتَنتَهِيَ إليَّ
وأنا أخافُ من حَشرَجَةِ
دَمعَتِي
وَيَسكنُ دَمعَتِي حَصَى الكلامِ
حينَ قصيدتي تَحصِدُ يباسي
وتنثرُ أشلاءَ تفتُّحي
على قارِعَاتِ الهَزِيمَةِ
الهَزِيمَةُ التي تفيضُ بالجُحُودِ
وضَغيِنََةِ الأحَبابِ
وَتَضَاريسِ الأوجَاعِ
ضاعَ منّي أفقٌ شَيَّدتُهُ
بأصابعِ لهفَتِي
وتشرَّدَ عنِّي لُهاثُ خُطايَ
أمشِي
وَيَمتَدُّ بِيَ التَّقَهقُرُ
أبكي
وتشتَعِلُ بيَ الأسئِلةُ
أنادي
فيُطبِقُ عليَّ هُلامُ الصّدى
فأرتدُّ
إلى ثقوبِ وحدتي
وحدي أقارِعُ السُّقُوطَ
وحدي أنازعُ غربتي
عن غيابي
والأرضُ تدهسُ أشرعتي
والظّلامُ يسحقُ همسَ شروقي
إنِّي أعلنُ انتصارَ الجَحِيمِ
على سنابلِ دفاتري
وها أنا أطفئُ اشتعالَ النّدى
في أدغالِ السُّكُونِ.*
إسطنبول
* لَيْـلُ الـمُـهَجَّـرِ..
لَـوْ يُبْصِرُنِي قَلبـُكِ
وأنا في كلِّ لَيلٍ أصَمُ
أُضَمِّـدُ دَمعَ قلبي
وَأُطفئُ نِيـرَانَ رُوحِي
وَأُهَدهِدُ مـا تبقّى من أنفـاسي
وَأمسِكُ صَرَخَـاتِ حَنِينِي
وَأُلَمـْلِمُ حَسَراتِ عُمـرِي
وَأُدَاوِي أوجـَاعَ انتِظَارِي
وَأُدَارِي نَـزْفَ صَمتِي
وَأُخمِـدُ بَرَاكِينَ مَوتِي
وَأقْمَعُ جُنُـونَ ذِكرَيـاتِي
وَأُلجِمُ أحصِنَةَ انكِسَارِي
وَأُصَبِّرُ اشتِعـَالَ أشـواقي
وَأُوَاسِي تَنَهُّـدَاتِ بَـوحِي
وَأقبُضُ على هَيَجـَانِ مَشـَاعِرِي
وَأمنَعُ تَهـَدُّمَ عَزِيمَتِي
وَأُسَيطِرُ على انفـِلاتِ ضَعفِي
وَأُخنِقُ لَهِيبَ آهَـاتِي
وَأُغلِقُ أبوابَ جَهَنَّمِي
وَأَبقى صَامِدَاً أمامَ الغِيَابِ
أنتَظِرُ الفِرصَةَ لِأَعـُودَ
كَلِمـَةً وَاحِـدَةً مِنـكِ
أَوْ إيمـاءةً من رأسِـكِ
أَوْ إشـارةً من أصبُعـِكِ
يا بـَلَـدِي.*
إسطنبول
* أجمَلُ الدُّرُوبِ..
أجمَلُ الدُّرُوبِ
هي الَّتِي تُعِيدُنَا إلى الوطنِ
مَهمَا كَانَتْ مُتَزَاحِمَةً بالعَوَائِقِ
أو كَانَتْ مُعَبَّدَةً بالنَّارِ
هي دُرُوبٌ نُسِجَتْ مِنْ دَمِنَا
وَرُسِمَتْ بِصَلِيلِ الظًّمأِ
على جَنَبَاتِهَا لَوعةُ الحَنِينِ
وَمُرتَفَعَاتٌ مِنَ الأوجاعِ
دُرُوبٌ تَبدَأُ مِنَ الظُّلمَةِ البَارِدَةِ
وَتُفضِي إلى أنوَارٍ مُعَطَّرةٍ بالأحلامِ
وَبَوَّابَاتٍ نابضةٍ بالتَّرحَابِ
ونوافذَ مُعَمَّدَةٍ بالنَّدى
والهَدِيلِ.*
إسطنبول
* شُرُفَاتُ الأنينِ..
أنفَرِدُ بِمَوتِي
أنقضُّ على نِيرَانِهِ
لأرمِيها
في قَعرِ الظُّلمَاتِ
سأبقى بلا نِهَايَةٍ
أموَاجِي تَرتَطِمُ بالأبَدِ
وأحرُفِي
تَسكُنُ الأيامَ
تُنَازِعُ الجِبَالَ صَلابََتَهَا
والنَّدى رَهَافَةَ البَوحِ
كَتَبْتُ قَصَائِدِي بِحِبرِ الانتِظَارِ
الحبُّ كانَ عَمِيقَ الهَمسِ
سَاطِعَ اللهفَةِ
وَاسِعَ الاتّسَاعِ
نَهَضَتِ الأرضُ بأجنِحَتِي
وَتًشَبَّعَ السَّحابُ بِخَطَواتِي
المَاءُ تَرقرَقَ مِنْ عَطَشِي
والشَّجَرُ أثمرَ رَحَابِي
الوَجَعُ تَسَاقَطَتْ أنيابُهُ
وَتَرَامَتْ شُرُفَاتُ الأنِينِ
مِنْ عَليَاءِ أنفَاسِي.*
إسطنبول
* أبجَدِيَّةُ الصَّمتِ..
الدَّمعُ حِبرِي
والأحرفُ مَخبَئِي
والظِّلالُ دروبي
والسَّماءُ مَرقَدِي الأبَدِيُّ
هكذا قالَ الصَّمتُ
حينَ نَطَقَ الحَجَرُ
وأفضَى لقلبي بأسرَارِهِ
وقلبي لا يخونُ الأصدقاءَ
حتّى لو أَشْعَلَتْ ألسِنَتُهُم بَيَاضَ
جَدَاوِلِي
وَحَمَائِمَ دَفَاتُرِي
أخَذتُ مٍنَ النّدى
مِعطَفَهُ
وَمِنَ النَّسمَةِ
وُسْعَهَا
وَمِنَ الفَجرِ
خُيُوطَ أمانِيهِ
كَتَبتُ بالوَردِ شَهقَةَ أوجَاعِي
وَرَسَمتُ دربي في صَحرَاءِ السَّعيرِ
لكنَّ أسوَارَ قِوايَ تَهَدَّمَتْ
وَتَنًاثَرَتْ خُطَايَ فَوقَ السَّدِيمِ.*
إسطنبول
* خَرَائِطُ الجَرَادِ..
أتَصَفَّحُ دَمعِي
وأقرأُ تاريخَ النّارِ
الوَجَعُ كانَ حُبْرَ القلبِ
أكتبُهُ على فضاءِ آهتي
والجرحُ بستاني
أزرعُ فيهِ أشرعةً للروحِ
وأنثُرُ في كلِّ الدُّروبِ
مِزَقَ حنيني
وبقايا صوتي
وأهربُ أمامَ خُطايَ
من ذنوبٍ سَتَقْتَرِفُ وجودي
أنا رمادُ قصيدتي
حينَ تهدَّمَتْ تحتَ أسوارِ الانتظارِ
حاربتُ انهزامي
فَأُصِبْتُ
وَوَقَعتُ في الأسرِ
وصارَ العذابُ
يُفَرِّغُ الموتَ في جسدي
كُلَّما تَطَلَّعتُ داخلي
أنظرُ
إلى حيثُ لا أبصِرُ
أنادي
من لا يمكنُ أن يسمعَني
وأمشي فوقَ حُطامي
وتحلمُ أنفاسي بعودتي إليها
ويشتاقُ لي ظلِّي
وأنا خارجَ دمي
أبحثُ عن مأوىً لأحرفي
فلا أجدُ إلَّا لهاثي
حيثُ يطاردُني البرزخُ
وفَحِيحُ السَّدِيمِ
أريدُ الصّعودَ فأهبطُ
أحاولُ النزولَ فأَسْقُطُ
أتدحرجُ فوقَ بقعَةٍ من العَدَمِ
وأتهاوَى
مِنْ وَطَنٍ أَكَلَتْهُ خَرًائِطُ الجَرَادِ.*
إسطنبول
* مدفَنُ العروبةِ..
تَدَثَّرْ بعباءةِ الانتظارِ
أغمضْ جفنَيَّ جراحِكَ
عُضَّ على أوجاعِ الشَّوقِ
وأغلقْ فَمَ الصَّرخةِ
لا تفتح بابَ الذُّكرياتِ
افترضْ أنَّكَ جُثَّةُ أكلها الدُّودُ
أو طائرٌ اصطادَهُ البرقُ
أو كوكبٌ دمَّرَهُ الإنسانُ
اجعلْ من قلبِكَ جداراً أصمَّاً
ومن نَبضٍكَ حَبلَ مِشنَقَةٍ
ومن دمعِكَ مصيدةً للرملِ
لا تَطلُبْ ضوءاً لجُوعِكَ
ولا ماءً لهواجِسِكَ
ولا تسلْ كم سيمرُّ من الوقتِ
لتكتشفَ أنَّ ساعتَكَ مُتَوقِّفَةٌ
وأنَّ وطنَكَ صارَ ليسَ لَكَ
تَبَدَّلَتِ الشَّمسُ بالظّلمةِ الدَّامسةِ
والبحرُ صارَ مغسلةً للرمادِ
تناثرتْ حبّاتُ الزَّيتونِ
تحتَ عجلاتِ التَّشَتُّتِ
هناكَ من أدمى تَنَهّداتِ الياسمينِ
وهناكَ من باعَ وشوشاتِ الندى
لفكّيِّ الخرابِ
الموتُ ينظِّمُ الطُّرقاتِ
الجُثَثُ تصطفُّ بلا أسماءٍ
ومن دونِ ملامحَ
وطوابيرُ الأسرى تتقدَّمُ بنظامٍ
بلا تدافُعٍ أو فوضى
دمارُ المدائنِ يتمُّ بكلِّ تحصُّرٍ
تشرفُ عليهِ دولٌ عظمى
برعايةِ الأمَمِ المُتَّحِدَةِ
مُتَّحِدَةٌ على قتلنا بعُجالةٍ
وعلى تهجِيرِنا في كلِّ الأصقاعِ
وعلى طردِنا ومنعِنا
من الاقترابِ من أسوارِها الشَّائكةِ
وعلى صَلبِنا فوقَ موجةٍ
وسطَ البحرِ الهائجِ
فلا تصرُخْ
لئلَّا يتعكَّرَ الهدوءُ الرَّتيبُ
في مجلسِ الأمنِ الغاشمِ
فهناكَ يبحثونَ
عن مدفَنٍ سحيقٍ للعروبةِ والإسلام!*
إسطنبول
* حُرَّاسُ الظّلمةِ..
خارتْ قوى الأرضِ
مَا عَادَتْ تَحمِلُ الذّنوبَ
جِبَالُهَا وَ هِضَابُهَا
تَشَبَّعتْ بالمَعَاصِي
ضَاقَتْ دُرُوبُهَا بالأسى
وَتَشَتَّـتَتْ فيها الجِهاتُ
صَارتْ أشجـارُهَا تُثمـِرُ الجُوعَ
صَارتْ ينابِيعُها تَتَدَفَّقُ بالتَّصَحُّرِ
وصارَ لِفَرَاشَاتِهَا مَخَالِبُ
حُقُولُهَا أعشَبَتْ بالأنينِ
الهواءُ فيها تَيَبَّسَتْ أصَابِعُهُ
والسَّحَابُ تَرَمَّدَتْ جَنَاحاهُ
لا عُصفُورَ فيها يُحِسُّ الأمانَ
لا سنبلةَ فيها لَمْ تُهَدَّدْ بالاغتِصَابِ
تَعَرَّت بيوتُهَا مِنَ السَّكِينَةِ
نوافِذُها مَخلُوعَةُ النَّبضِ
على أرصِفَتِهَا يَنتَشِرُ الخُنُوعُ
والضَّواري تنهشُ الأحلامَ
في كلِّ قلبٍ زرعوا عَسَاكِرَ
تَرعَى بِسُيُوفِها مَحَبَّةَ السُّلطَانِ.*
إسطنبول
* توأمُ الانكسارِ..
ركضتْ دمعتي في الشّوارعِ
كانتِ الأرصفةُ عطشى
والنوافذُ مغلَقةً أجفانُها
الهواءُ وحدَهُ يتمشّى بتثاقلٍ
ويحكُّ جفافَهُ بأظافرِهِ
السّماءُ تُدَلِّي قدمَيها فوقَ المارةِ
والجدرانُ ملَّتْ من أمكنتِها
والشّرفاتُ تستلقي على الأوجاعِ
ألقي التّحيّةَ على حرسِ الوردِ
فيخمشُ النّدى وجهَ انتظاري
أمشي في سراديبِ صمتي
أفتّشُ عن مقعدٍ لناري
لغتي تنظفُ أوردتي منَ السّمومِ
وقصيدتي عاريةُ السَّحابِ
تسترُ أحرفَها بالشَّفقِ
والأفقُ يتعكَّزُ على وحدتي
وبجرجِرُ أنفاسَهُ على الغبارِ
لتسقُطَ أمامَهُ جثّتي
فوقَ حممِ دمعتي
وتَتَعالى صرختي
من بئرِ غربتي
فأحدّقُ في صحراءِ نبضي
وأمُدُّ يديَ المبتورةَ
إلى كثبانِ قامتي
وأسألُ بحارَ أوجاعي
عن أقمارِ أشرعتي
كانتِ المسافاتُ تغوصُ في دمي
كانَ السّرابُ يموجُ في غصّتي
وأنا توأم الانكسارِ
ألوذُ بالهزائمِ
وأتسرَّبُ من هشيمِ البرقِ
إلى عثراتِ خطايِ
وأنادي وطناً يسكنُ مهجتي
مُذْ تنفّستُ بريقَهُ
وهتفتْ أغصانُ مَجدِهِ
باسمي..
أنا السوري.*
إسطنبول
* قَتْلُ العَاشِقُ..
أَستَجمِعُ ما فَاتَنِي مِنْ سَعَادَةٍ
لَمْ أعِشْهَا
وَلَمْ تَلمُسْ رُوحِيَ في أيِّ يَومٍ
أَتَأَمَّلُهَا بِحَسرَةٍ
وَعَتَبٍ شَدِيدِ الدَّمعِ
أبحَثُ عَمَّا يَفصِلُهَا عَنِّي
هَل كانتْ تُفَضِّلُنِي أنْ أكُونَ خَبِيثَاً؟!
مَا الذي حَالَ بَينِي وَبَينَهَا؟!
صِدقُ المَشَاعِرِ لا يَكفِي!
دِفءُ الرُّوحِ لا يُهِمُّ!
أَكَانَ عَلَيَّ أنْ أمتَهِنَ الغَدرَ والخِيَانَةَ؟!
أَمْ أَسرُقَ مَا لَيسَ لِي؟!
السَّعَادَةُ تَنحَازُ لِلرَذِيلَةِ!
وَتَكُونُ مِنْ نَصِيبِ مَنْ لا يَستَحِقُّهَا!
إنَّهَا بِيَدِ الشَّيطَانِ
تَتَلَبَّسُ مَنْ يَتَفَوَّقُ بالكَذِبِ!
وَيَملُكُ القَلبَ المُخَادِعَ!
كانَ بإمكَانِي أَنْ أُلَوِّثَ النَّدَى
أنْ أغتَصِبَ الخُصُوبَةَ
أنْ أجرَحَ المَطَرَ
وَكَانَ بِمَقدُورِي أنْ أنتَهِكَ الأسرَارَ
وَأنْ أُصَفِّقَ لِلسُلطَانِ الجَائِرِ
وَأنْ أعتَلِيَ ظَهرَ الحَقيِقَةِ
السَّعَادَةُ لا تُبَادِلُ الأبرِيَاءَ المَحَبَّةَ!
تَهرُبُ مِنْ بَوحِ القَصِيدَةِ
تَمتَنِعُ عَمَّنْ يُضَحِّي بِحَيَاتِهِ!
وَتَذهَبُ للشِرِّيرِ المُشَعوِذِ
لِتَلقَى مِنهُ الإهَانَةَ إِثرَ الإهانَةِ!
لِمَاذَا أنتَ يا حُبُّ لا تَعرِفُ الحُبَّ؟!
تُنكِرُ على العَاشِقِ صِدقَهُ!
وَتَتَكَبَّرُ على وَردِ لَهفَتِهِ!
وَتَخنُقُ لَيَالِيَهُ النَّاهِدَةَ!
ذَنبِي كَتَبتُ الشِّعرَ عَنهَا!
وَاعتَرَفتُ بِحُبِّهَا أمامَ الكَونِ!
لَكِنَّهَا أَوصَدَتْ عَنِّي السَّمَاءَ!
وَ أَغلَقَتِ القَبرَ على قلبي!!*
إسطنبول
* أسرابُ العتمةِ..
أتحَيّنُ الفُرصَةَ لأبتعدَ عن نفسي
فأنا منذُ زمنٍ لم أبرح ذاتي
وأعاني من ثقلِ عذاباتي
وآلامِ أحلامي
وأوجاعِ وقتي
عالقٌ بروحي
مكبلٌ بأنفاسي
محبوسٌ بدمي
وأنا تعبتُ من وجودي
داخلَ عُمري
تداخلتْ عليَّ حدودي
أرى قلبي فوقَ آهتي
أرى خطواتي خارجَ إقامتي
وأرى جرحي داخلَ ضحكتي
أبتسمُ
فَتُعَتِّمُ أوردتي
أتكلمُ
فتخرسُ قصيدتي
أنادي
فيرتدُّ عليَّ أنيني
على ضفافِ لوعتي
أجدُ جثَّتي
وبينَ بقايا عزيمتي
أصطَدِمُ بأجنحتي
أمشي في سهوبِ صمتي
أركضُ في متاهاتِ حرقتي
أحلِّقُ في عَلقَمِ وحدتي
أحدِّقُ في المرآةِ
فألمحُ هزيمتي
أتطلَّّعُ من نافذتي
فأبصرُ خيبتي تذرُوها الرِّياحُ
وأجدُ دمعتي
تُكَفْكِفُ نِهايَتِي.*
إسطنبول
* فَتِيلُ الظَّلامِ..
كانَ بإمكانِكِ أيَّتُهَا النَّسمَةُ
أْلَّا تَقتَرِبي مِنْ فَضَاءِ يَبَاسِي
فَأنا أشعَلتُ حَسرَتِي
وَبَنَيتُ السُّدُودَ لِدَمعَتِي
وَقَيَّدتُ آهَتِي في أقبِيَةِ ناري
وَدَعَوتُ النِّسيَانَ أنْ يَغمُرَ نَبضِي
وَأوصَيتُ الزَّمانَ ألَّا يَتبَعَ أثَرِي
هَرَبَتْ مِنْ رُوحِي الشَّواطِئُ
وَخَلَّفَتنِي الذِّكرَياتُ وَحِيدَاً
أَقتـَاتُ على فَتِيلِ الظَّلامِ
فلماذا وَجهُكِ لاحَ لِي في الوَمِيضِ؟!
وَلِماذَا صَوتُكِ تَهـَاوَى مِنَ الأقـَاصِي؟!
بَينِي وَبَينَكِ ألفُ سَرَابٍ وَسَرَابِ،
وَهِضـَابٌ، وَبَـوَادِي
وَأنا كَي ألمُسَ أطرَافَ ظِلِّكِ
عَلَيَّ أنْ أجتـَازَ بُحُورَ الجَحِيمِ
وَأنْ أطوِيَ الكَونَ بأجنِحَةٍ مُتَهَالِكَةٍ!
وَأنْ أعبُرَ أنفـَاقَ المُستَحِيلِ!
لَسْتُ مِنْ نُورٍ لأقُولَ أُحِبُّكِ
لَسْتُ مِنْ عِطرٍ لأطرُقَ رِحَـابَكِ
أنا شَـاعِرٌ رَجَمَـتْـهُ الكَلِمَـاتُ
وَتَخَلـَّتْ عَنهُ القَصيِدَةُ
تُطَارِدُنِي الهَزِيمَةُ كُلَّمَا نَادَيتُكِ!
وَيُهَاجِمُنِي صدى الانكسارِ
حُلـُمٌ أنـتِ ..
لا مَشَارِفَ لِلدُّرُوبِ إلَيهِ!
نَجمَـةٌ لا تَطالُهَاالجِهَاتُ!
مِنْ دُونِ أمَلٍ وما زلتُ أحُبـُّكِ
مِنْ غَيرِ رَجـَاءٍ سَأبقَى أنـادِيكِ
رُبَّمَا الوَهـمُ يَجمَعُنَا
أو قَد تَبزُغُ للحُلُـمِ أجنِحـَةٌ.*
إسطنبول
* أَسوَارُ العَدَمِ..
في رِحـَابِ الصَّمتِ
يتلعثمُ نَبضِي
وأخجَلُ من جَفـَافِ الضَّوءِ
في أورِدَتِي
تَحَطَّمَ تَوَهُّجُ الدَّربِ
وَمَـاتَتْ على ضِفـَافِ خُطَايَ
لَوعَـةُ الحُلُمِ
ما بيني وَبَينَ النَّسمَةِ
جِبالٌ منَ الاختنـاقِ
وأشجـارُ مَوتٍ سـَامِقَةٍ
وَيَنابِيعُ سَعيرٍ
ترنُـو إليَّ المَسَافـاتُ
وهي مُشبَعَةٌ بالحَسرَةِ
وتلوِّحُ لي أبوابُ النّهايةِ
وأُبصِرُ أسوارَ العَدمِ
تُحَاصِرُ لَهفتي الحَائِرََةَ
أينَ يتَّجِهُ العُمرُ بِي؟!
وفضاءُ الغربةِ يَتَّسِعُ
على بحارِ اليأسِ المائِجَةِ!
سَلَّمتُ أشرِعَتِي إلى عَوَاصِفِ الأيـّامِ
عَلَّها تَرسُو على شواطئِ السَّدِيمِ
ويمرُّ بالقُربِ منِّي طَائِرُ المُستَحِيلِ
يَحمِلُ رُفـَاةَ أشواقي
إلى بلدي المُتَحَارِبِ
والطَّامحِ إلى الفَنـاءِ.*
إسطنبول
* أينَمَـا أكـُونُ..
أينَمَـا أكـُونُ
وَأينَمَـا أذهَـبُ
وَأينَمـَا سَأكُـونُ
أحمِلُ حُبَّـكِ بقلبي
لا أشكُو
وَلا أتعَبُ
أتَنَفَّسُ ذِكـرَاكِ
وَمِنْ طَيفـِكِ
دائِمـَاً أنا أتَقَـرَّبُ
يَا لَجَمَالَ سِحرِكِ!
حِينَمَا بِنـَارِكِ
أنكَوِي وأتَعَذَّبُ
حَبِيبَتِي أنتِ
مَهمَا جَرَحَنِي الغِيَابُ
وَكُنتُ على أشواكِ
هِجرَانِكِ أتَقَلَّبُ
تَسكُنِينَ ذَاتِي
بَلْ أنتِ أقرَبُ إليَّ مِنِّي
أراكِ ضَوءَ حياتي
لا تَرحَلِينَ عنِّي
مِنْ غَيرِكِ لا كَونَ يَكُونُ
ولا أرضَ تُزهِرُ
ولا سمـاءَ تُومِضُ بالنُّجُومِ
ولا مراكِبَ بِيـضَ تُبحـِرُ
سَأقُولُ الحَقِيقـَة ْ
أنتِ الخَلِيقَـة ْ
مِنْ دُونِ حُبـِّكِ
أنا لَنْ أعِيشَ دَقِيقَـة.*
إسطنبول
* أشرِعَةُ الارتِحَالِ..
أرى سَلالِمَ الصَّمتِ
تَتَسَلَّقُ نَحوي
وأنا في أعالي الحَيرَةِ
أحمِلُ صَرَخَاتِ أوجاعي
وفضَاءَ حَنِينِي
وأسألُ ظُلمَةَ الصَّدى
عن موعدٍ للكلامِ
سَتَنطُقُ نارُ غربتي
وَتُعلِنُ العُصيانَ على المَسَافَاتِ
وَتَرمِي في الدُّرُوبِ
أمواجَ عودتي إلى فَجرِ النَّدَى
وهَمسِ الظِّلالِ
في تَنَهُدَاتِ الوَردِ
وَشَهقَةِ القُبلَةِ
مِنْ شِفَاهِ الكَرَزِ الحَالِمِ بالوَمِيضِ
وَأَعُضُّ خَلَجَاتِ السَّكِينَةِ
أُمسِكُ بِرَهَافَةِ العُنقِ
وَأَمضِي في ارتِشَافِ الأنِينِ
أنا المَجنُونُ من ابتِسَامَةِ النَّشوَةِ
ونَسمَةِ الهَدِيلِ
سَأُعلِنُ عَنِ انتِصَارِ شَهوَةِ العَطَشِ
وَعَنْ بَدءِ طُقُوسِ الرُّوى
أهذِي باسمِ أشرِعَةِ الارتِحَالِ
سَتَغفُو دَمعَتِي على أورَاقِكِ
سَتَبرَأُ جِرَاحِي بِلَمسَةٍ مِنكِ
وَسَتَنهَضُ قَصِيدَتِي في حَضرَةِ دِفئِكِ
وَسَيُورِقُ نَبضِي بالأمنِيَاتِ
أنا الهَائِمُ في بَرَارِي الهُيَامِ
سَأَقطُفُ مِنْ عِطرِكِ الآفَاقَ
سَأُعَمِّرُ مِنْ فِتنَتِكِ الشَّفَقَ
وَسَتَنحَنِي لَكِ سَنَابِلُ انتِظَارِي
يا عِشقِيَ الأوحَدَ
يا مَنَارَةَ مَوتِي
المُؤَجَجُ بالخُلُودِ والازدِهَارِ.*
إسطنبول
* رَمَادُ الرُّؤى..
وجعٌ في خاصرةِ الضُّحكَةِ
ودمعٌ في عيونِ الرُّوحِ
والنّارُ تعتلي قامةَ الكلماتِ
وسكاكينُ تتلبّسُ الحنينَ
إنّي أذرفُ أوراقَ نبضي
وأرسمُ على شُبـَّاكِ موتي
مصابيحَ الشّكوى
ألتهمُ مرارةَ الذّكرياتِ
من صحنِ الجرحِ العالقِ بدمي
وأنا أصرخُ ملءَ اختناقي
أنقذوني من نيرانِ صمتي
الذي يداهمُ شرايينَ وقتي
ويملأُ فضاءَ اتِّساعي
وأنا أطِلُّ على انحدارِ جنوني
حَدَّقتُ بوجهِ الهاويَةِ
وكانتْ تعتليني المسافاتُ
ما بينَ سُقُوطي وانكساري
وَسَمِعتُ قهقهةَ الضَّغينةِ
من كلِّ صوبٍ قربَ شهقتي
أكانَ الأفقُ غائباً عن نجوايَ؟!
أكانَ الليلُ يرتدي سترةَ العدمِ؟!
ومن كانَ ذاكَ الذي
يقفُ لي في منتصفِ صُعُودي؟!
إنِّي أهبطُ فوقَ التَّمزُّقِ
أتدارى بظلِّ عاصفةٍ
أستَتِرُ برمادِ الرؤى
لأحتميَ بالبريقِ.*
إسطنبول
* الأوَاصِرَ..
ضَعُفَتْ قِوَايَ
عَنْ عِرَاكِ التَّهَدُّمِ
وانتَابَ قلبي التَّصَحُّرُ
رُوحِي على مَشَارِفِ البَرزَخِ
يَدَايَ مَعطُوبَتَا الثَّمرِ
وَخُطَايَ في مَهَبِّ الانحِدِارِ
تَلُوكُنِي الرِّيحُ
تَمضَغُنِي الوِحدَةُ
يَجتَرُّنِي الصَّمتُ
وتُرثِينِي القَصِيدَةُ
أبكي في حَضرَةِ الذِّكرَيَاتِ
وأشكُو من قَسوَةِ الأحبَةِ
مَا مِنْ شَتلَةٍ إلَّا وأرضَعتُهَا نَبضِي
مَا مِنْ نَسمَةٍ إلَّا وَأسرَجتُ لها أسطُرِي
عَلَّقتُ أيَّامِي فَوَانِيسَ لِفَرحَتِهِم
أشعَلتُ مَطَرِي دَفَاتِرَ لِأمنِيَاتِهِم
أوقَدتُ هَمَسَاتِ حَنَانِي
لِتَمسَحَ عَنهُمُ رَعشَةَ الهَوَاجِسِ
كُنتُ أُزِيلُ مِنْ دَربِهِمُ
ظُلمَةَ التَّعَثُّرِ
وَعُتمَةَ المُنعَطَفَاتِ
وَكُنتُ أَكنُسُ مِنْ أمَامِهِمُ
رَهبَةَ المَسِيرِ والتَّقَدُّمِ
وَأُعطِي لِجِيَادِهِمُ حَمحَمَةَ انتِصَارِي
فلماذا مَرَاكِبِهُمُ أنكَرَتْ شَوَاطِئي
وَلَمْ تَرسُو على رِمَالِ لَهفَتِي؟!
لماذا سِهَامُهِمُ غُرِزَتْ بأشوَاقِي
وَصَوَّبُوا نَحوِي الجَفَاءَ؟!
إنِّي أسقُطُ مِنْ عَليَاءِ خَيبَتِي!
أتَهَاوَى مِنْ جِبَالِ السَّدِيمِ!
ولا أحَدَ يَسمَعُ استِغَاثَاتِي!
ولا يُشفِقُ على آهَاتِي!
قَتَلُوا الأوَاصِرَ
وَ رَمَونِي في بِئرِ دَمعَتِي!!*
إسطنبول
*أناشيد القتلى..
يندلقُ الجَحيمُ
يتفجَّـرُ النَّـدى
يتناثرُ السَّـرابُ
ويتفحَّمُ الضَّـوءُ
الأفقُ يتهـاوى
ويتحطَّمُ الضَّبـابُ
وتسحقُ الطّرقات
الظّلامُ يتمترسُ خلفَ الرُّكامِ
وصدى الانهيارِ ثقيلٌ
المقابرُ تستنكرُ أناشيدَ القتلى
والموتُ يهجسُ بالقلقِ
المتعدّدِ الألوانِ
دمٌ يصعدُ الجدرانَ
وأدراجٌ تنحدرُ إلى أوديةِ الجرحِ
يحاصرُنـا التّجزّؤُ
وتجمعُنـا الهزائمُ
ويوحِّـدنـا التّشـتُّتُ
ونرتمي على أقدامِ العراءِ
ننقشُ سـور الوطنِ.*
إسطنبول
* مواطن بسيط من غزّة..
إيَّـاكَ والموتُ يدركُكَ
تشبَّـثْ بضوءِ قلبِـكَ
وبأفقِ روحِـكَ
بأقمارِ أحلامِكَ
عَلِقَتْ بأقدامِكَ الدّروبُ
وَتَعَلَّقَتِ الجِبالُ بجناحَيكَ
النّدى نقشَ اسْمَـكَ فوقَ الرّفيف
الحقولُ تمجدُ ينابيعَكَ
والأرضُ رحابَ أعاليكَ
تَمَسَّكْ بأمواجِ الحنينِ
وبقلاعِ قامتِكَ السّامقةِ
أنتَ عشبُ النّقاءِ
ترابُ العُطرِ
بوابةُ العطاءِ
وشعاعُ المستحيلِ
حاذرْ أن تموتَ
لا تّتركِ السّمـاءَ تتهاوى
ولا تجعلِ النّجومَ تعمى
ولا الكواكبَ تشردُ عن مسارِها
لولاكَ ما غرّدتْ زهـرةٌ
ولا نهضتْ بسمةٌ
أنتَ نبضُ الأشرعةِ
وسحابُ اليقينِ
فمنكَ يستمدُّ الماءُ جذورَهُ
ويستقي النّـورُ من خُصالِكَ
بشاشتَهُ
نناديكَ عندما يجوعُ البرقُ
وينكسرُ الصّهيلُ
وتستعِرُ الأيامُ
أنتَ سيِّدُ بصيرتِنا
عَمودُ رفعتِنا
شموخُ الدّيـارِ
تمتدُّ بنـا أقاصيكَ
تنتشرُ بسهوبِنا طموحاتُكَ
فلا تشفقْ على مَن يزرعُ
حبّـةَ ظلامٍ
ولا عمّن يسلبُ عِفَّـةَ النّدى.*
إسطنبول
* وجـع النّدى..
الوجـعُ يحتلُّ جسدي
يتناثرُ في أزقّـةِ الرّوحِ
ويتراكمُ عندَ منعطفاتِ النّبضِ
مكدّساً في ساحاتِ الأملِ
يهتاجُ بقوّةٍ
ويتنفّسُ الظّلماتِ
تذرفُ عيناهُ الضّوءَ
فما مِنْ أحدٍ يسمعُ دويَّ نزيفِهِ
وليسَ هناك مَنْ يتحسّسُ برقَـهُ
وجعي تُغتالُ دروبَـهُ
وتزوّدُ أغصانَـهُ بالحرائقِ
تسدلُ على نوافذِهِ الأكفانُ
والمقابرُ تغطي آفاقَـهُ
وجعي يجرفُهُ التّخاذلُ العربيُّ
وتنقضُّ عليه حِممُ السّياسةِ العالميّةِ
وإسرائيلُ تناشدُ جميعَ ما في الأرضِ
مِن قتَـلَةٍ
ومصّاصِي دمٍ
وأعضاءِ المجالسِ والمنظماتِ
ليدحروا هذا الأعزلَ
الطّافحَ بالبقاءِ والتّحدِّي.*
إسطنبول
* سرابُ اليقينِ..
يهاجمُني طيفُكِ
ينقضُّ على حنيني
يسلبُني أنفاسي
ويحتجزُ نبضي
ويُشعِلُ مساماتي
وأنا أحترقُ من عطرِكِ
يذوبُ دمي في بسمتِكِ
تنصهرُ لهفتي ببريقِ عينَيكِ
وتنفصلُ عنّي روحي
فيسقطُ منّي قلبي
مغمّساً بأشواقي
أحبُّ هجرانَكِ
فلولا ابتعادُكِ ما كنتِ تُطلّينَ
على دمعتي كلَّ يومٍ
وما كنتِ تطرقينَ بابَ انكساري
لتحمل إليَّ أصابعُكِ بوحَ الآفاقِ
ويسكبَ البحرُ أمواجَهُ عند شواطئي
فلا تحرُميني من غيابِكِ الفتَّانِ
ولا تبعدي الهواجسَ عن جنوني
أنتِ سرابُ يقيني
شراعُ وحدتي
مخبأُ موتي العميقِ.*
إسطنبول
* رقصةُ العدمِ..
يتهدَّمُ الأفقُ
ويموتُ الهواءُ
ويتعالى نباحُ التّاريخِ
على رقصةِ العدمِ
الأرضُ تتقيَّأُ ما في رحمِها
والمقابرُ تصلَبُ على الشاشاتِ
النّدى يقصَفُ
وأعشاشُ الأحلامِ تتفجّرُ
والسّماءُ تتلوّى مِنَ الحرائقِ
والجنةُ يطالُها الحصارُ
والجحيمُ بفسقٍ تهاجمُ الملائكةَ
والشّيطانُ لا يرتوي مِنَ الدّمِ
وينشبُ نواجذهُ في جثثِ الأطفالِ
الفاغرةِ الجوارحِ
المطرُ حطبُ الذّعرِ
البرقُ لغةُ الدّمعِ
والكونُ بلا مأوى
فوقَ الرّيحِ تطفو أجسادُ القتلى
مع السّرابِ تنجرفُ الصّرخاتُ
وتحتَ السنبلةِ فخٌّ متأهبٌ للتناثرِ
والعالمُ مخصيُّ الوجدانِ
منتوفُ الضّميرِ
مقصوصُ اللسانِ
ومبتورُ الرّحمةِ
مستأصلُ البصيرةِ
أممٌ تتآمرُ على زهرةٍ
شعوبٌ تقتاتُ على الخديعةِ
وتاريخٌ أحمقُ يمجّدُ العهرَ
ويدوّنُ انْكسارَ بلادي.*
إسطنبول
* طريقُ الحرقةِ..
عندما أعبرُ مِنَ الشارعِ
الذي تسكنينَ فيه
ألمحُ نافذتَكِ تشيرُ إليّ
وتنقلُ لي برودةَ زجاجِها
وأسمعُ سخريةَ ستائرِها المسدلةِ
وأنتِ لا تهتمينَ بتوهجِ آفاقي
ولا بصرخاتِ دمي
ولا بدمعِ أنفاسي الصّاعدةِ
من زحمةِ الأوجاعِ
وشغفِ نيرانيَ المتلاطمةِ
مع المارةِ والمزاميرِ الجامحةِ.*
إسطنبول
* غزارة الصّمت..
يتألفُ الموتُ
من بعضِ هجرانِكِ
وبخلِ قُبُلاتِكِ
وتردّدِ يدَيكِ
وغزارةِ صمتِكِ
وسماكةِ برودِكِ
موتي نسيجُ حـبِّكِ الغبيِّ
حصيلةُ تقصّي غيابِكِ
عصارةُ أشواقي إليكِ
نتيجةُ إنصرافكِ عنّي
واعتباري عاشقٌ سوقيُّ القصائدِ
يكتبُ بخشونةٍ عن حنانهِ
موتي بركانٌ في قبرِ الأحلامِ
عاصفةٌ في صحرائِكِ
سحابةُ هدوءٍ على أسطرِكِ
ونافذةٌ مفتوحةٌ على الهواجسِ
والرّمادِ.*
إسطنبول
* نهاية..
بعكازتي
سأقطعُ طريقَك
وأمامَ المارةِ المستعجلين
سأنتزعُ منك قُبلةً
طالما حلمتُ بها
منذ عهدت شبابي
لن أهتمَّ بكلِّ الناسِ
وقصائدي
ستشرحُ لأحفادي
سببَ هذهِ الفضيحةِ
أيتها الماكرةُ بالجمالِ
والسّارقةُ لقلبي
منذ أن تفتَّحَ نبضُهُ
سأموتُ
وأنا متلبسٌ بحبِّـكِ
مقتولٌ بغمازةٍ
محفورةٍ على خـدِّك.*
إسطنبول
*عذابات الورد..
الوردةُ التي بعثتُها إليكِ
عادت باكيةً
مكسورةَ الخاطرِ
كانتِ الدّنيا مسودّةً بوجهِ
تفتُّح أوراقِها
ورحيقُها يعتزمُ الانتحارَ
انكسارُها أشفقَ على تحطّمي
ذبولُ بريقِها حاولَ إسنادي
سمعتُ أنينَها
لامسني حنانُها
ضمَّتْ نبضي آفاقُها
وصرنا نتبادلُ الاعتذار
كان عليَّ أن أعفيَها من هذا الموقفِ
كان عليها أن تختفيَ وألّا تعودَ إليّ
بل كان علينا ألّا نتصادقَ
الوردةُ لا تحتاجُ لمن يقبعُ بوحدتهِ
ويتوغّلُ بأمواجِ السّرابِ
الوردةُ لكي تبقى
عليها أن تحيا بأرضٍ
طافحةٍ بالخصوبةِ والمحبةِ.*
إسطنبول
* غباشُ الدّمعِ..
بابُ عمارتِك يعتذرُ منّي
كلّما لامسَتْهُ شغافُ قلبي
يُصابُ بالحرجِ والارتباكِ
قفلُهُ يطرقُ برأسِهِ
ومقبضُهُ يتهربُ منّي بنظراتهِ
و جرسُهُ يتظاهرُ بالخرَسِ
وأنا لا أعتبُ عليهِ
أو أمارسُ بعضَ الغلاظةِ
فهو عبدٌ مأمورٌ منكِ
ينفذ أوامرَك بصرامةٍ
أُحسُّ بشفقتِهِ على أصابعي
بحرارةِ برودتِهِ
بعطفِ حديدِهِ الأسودِ
وأسمعُ صوتَ وجومِهِ
حينَ يتعرَّقُ ثقبُ المفتاحِ
من شدّةِ الخجلِ
واحمرارِ مساماتِهِ الحزينةِ
فأبعدُ عنهُ بانكسارٍ
وأنا ألوّحُ لهُ بغباشِ عيوني.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
الفهرس:
=======================
01 - الدكتور لحجاب أبو جمال
02 - أخاديد الظلام
03 - أريج النار
04 - أدغالّ السكون
05 - ليل المُهَجّر
06 - أجمل الدروب
07 - شرفات الأنين
08 - أبديّةُ الصمت
09 - خرائط الجراد
10 - مدفن العروبة
11 - حراس الظّلمة
12 - توأم الإنكسار
13 - قتل العاشق
14 - أسراب العتمة
15 - قتيل الظلام
16 - أسوار العدم
17 - أينما أكون
18 - أشرعة الإرتحال
19 - رماد الرؤى
20 - الأواصر
21 - أناشيد القتلى
22 - مواطن بسيط من غزّة
23 - وجع النّدى
24 - سراب اليقين
25 - رقصة العدم
26 - طريق الحرقة
27 - غزارة الصّمت
28 - نهاية
29 - عذابات الورد
30 - غباشِ الدّمع
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى