د. عبدالجبار العلمي - الاتِّجاهُ الرُّومانْسي في الشِّعْرُ المَغْرِبي الْحَديث ( من خلال بعض النَماذِج الشِعْرِية )

سنحاول في هذه الدراسة مقاربة الاتجاه الرومانسي في الشعر المغربي الحديث، وذلك من خلال نماذج شعرية لبعض الشعراء المغاربة الذين اتجهوا هذا الاتجاه الشعري في مرحلة من مراحل تجاربهم الشعرية.


الظروف والملابسات التي أفرزتْ هذا الاتجاه قبل الاستقلال وبعده:

كانت الثورات التي قامت تناهض الاستعمار الغاشم الفرنسي والإسباني ( 1 ) ، وتنافحُ عن البلادِ ومقوماتِها ، قد باءت ـ للأسف ـ بالفشل، وذلك لعدم تكافؤ قوتها مع قوة الاستعمار المدجج بالأسلحة الحديثة، بل والأسلحة المحرمة دولياً ، كما رأينا ذلك في حرب الريف، حيث استخدمت القوات الإسبانية الأسلحة الكيماوية التي مازالتْ آثارُها الخطيرة تتوارثها الأجيال إلى يوم الناس هذا في منطقة الريف ومدنها وقراها. وإذا كان المجاهد عبد الكريم الخطابي ، قد صمد أمام قوى الاستعمار الإسباني خمسَ سنواتٍ بحكم ما كان يمتاز به من ثقافةِ عصرية، وقدرة نادرة على التخطيط الحربي الذي أفاد منها أكبر المقاومين في العالم ، فإنه مع كل ذلك لم يتمكن من استمراره في الصمود، لاسيما حين تكاتفت قوى الاستعمارين الإسباني والفرنسي ضده. ويبدو لي ـ وأنا لست مؤرخاً ـ أن هزيمتَه كانت شبيهةً بهزيمة (نابليون بونابرت) في معركة ( واترلو ) " التي تحطمَ فيها مجد ذلك البطل، وإذا جزيرة "سانت هيلانة" رمزٌ لما يدبر القضاء من محن " ( محمد مندور ، الأدب وفنونه، ( ص: 59 ). وهكذا غمر نفوسَ الشعراء المغاربة إحساسٌ بالخيبة المريرة، وانهارت الآمال التي كان يعلقها الشعب بأسره على الثورات التي كانت قد أعادت له بالفعل ثقته بشخصيته وقدراته وجذوره الحضارية العميقة. كان لكل هذا أثره السيئ، إذ خلقَ في نفوس الشعراء المغاربة إحساساً سلبياً زادت في تعميقه الحرب العالمية الثانية بأهوالها وفواجعها ومآسيها ، فأخذوا ينظرون إلى الإنسان على أنه ظالم غشوم ، ينطوي على ألوان من الشر والدمامة ، ويضربُ عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية و الإنسانية. والواقع أن مثل هذا الجو لا يمكن أن يخلقَ إلا هذا الشعر الرومانسي الرافض للمجتمع، المتمرد على أوضاعه وقيوده ، الهارب أصحابهُ منه بحثاً عن (يوتوبيا) في الطبيعة أو الحب أو التصوف. يقول الدكتور إبراهيم السُّولامي: " إن أبرز جو ظهر فيه هذا اللون الشعري كان بعد الحرب العالمية الثانية. " ( 2 ) وعندما زاد الضغط الاستعماري على الشعب، وزاد اليأسُ والقنوطُ في ظله الكئيب، ازداد ميلُ الشعراء الشباب إلى هذا المذهب الرومانسي كرد فعل لتجرعهم مرارة الخيبات المتكررة.
في عهد الاستقلال ، كانت خيبة المثقفين أقسى وأمر ـ فقد تلاشى ذلك الحلم الذي حلمت بتحقيقه الجماهير في ظل الاستقلال الذي ناضلت من أجله: الديموقرطية والحرية والعدالة الاجتماعية... وكانَ لكل هذا بطبيعة الحال أثره البالغ في نفوس الشعراء المغاربة الذين كانوا في طليعة المثقفين، فانطووا على أنفسهم يجترون أحزانهم وآلامهم وإحباطهم. لاذ بعضهم بالطبيعة، كزملائهم من الشعراء في المهجر الشمالي وفي جماعة أبولو ، يبثونها مكنونات نفوسهم، أو بالحب يركنون إلى حضنه الحنون أو بالتصوف يذوبون في أجوائه المغمورة بالسكينة والطمأنينة.
نماذج شعرية للشعراء المغاربة الذين يمثلون هذا الاتجاه:
سنحاول مقاربة الاتجاه الرومانسي في أدبنا المغربي الحديث من خلال نماذج شعرية تمثل أهم الموضوعات التي عالجها الرومانسيون في شعرهم: الحب ـ الحزن والألم ـ الثورة ـ الحرية ـ الفرار إلى الطبيعة:
الحب: يقول الشاعر عبد الكريم بن ثابت معبراً عن ملاذه الروحي في الحب في قصيدة "طيف"، من ديوان "الحرية "( 3 ) :
طَوقتْني بِذِراعَيْهــــا فأنْسَتْني نـفْسِـــي
وَزَمَاني وَمَكَاني وخَيالاتي وحِسِّـــــي
كُلُّ ما أَذْكُرُ أَنِّي كانَ فَوْقَ الصَّدْرِ رَأْسِي
وأنــا أسْألُ خوْفاً
أتُرَى أَنْتِ ..أأَنْتِ ؟

وَنَرى أنَّ الشاعر إبراهيم السُّولامي كذلك، يجد ملاذاً في الحب، وبلسماً لعذاب روحه وشقائه، وترياقاً لغربته ووحدته. يقول في قصيدة " حب " ، ص: 74 وما بعدها ) :
...وكَما الوردةُ تَلْهَثُ في رَمْلٍ جديبْ
كنتُ في الأَرْضِ غَريبْ
يا يداً تَحْمِلُ عَنْ قَلْبِي ضَياعَهْ
وَدُمُوعَهْ
نَجْمَةً حَطَّتْ على عَيْنَيَّ بَسْمَه
يايداً تَمْسَحُ عَنْ روحي العَياءْ
لك حُبِّي .. لك حُبِّي

كما يرى أن حبَّه حبيبتَه حب طاهر عفيف فريد، لم يسبق لأحد من البشر أن أحب حباً مثلهما، وأن الدنيا كلها تأتيهما إن أحبا، وتكون طوع بنانهما. يقول في هذه المقطوعة الجميلة العذبة الإيقاع (4):
تُسائِلُني وَالْهوى بَيْنَنـــا = وَشَلالُ عِطْرٍ عَلَيَّ انْحَنَى
أَحَقَّاً هوى قَبْلَنَـــا أَحــــدٌ = أحَقَّاً حبيبي هَوَوا مِثْلَنـا
أكانَ لَهمْ مثلُ هذا الجَمالِ = أَكانَ لَهُمْ مِثْلُ هَذا الْغِنَى
.......................................................................
أَحَقّــاً حَبيبي هَوَوْا قبْلَنـا = أحَقّاً حَبيبي هَوَوْا مثلَنــا..
وَتَدْفِـنُ رَأْسَهـا في كَتِفــي = فَأصْمُتُ كَيْفَ أجيـبـُ أَنَـــا؟ ( 5 )

وإذا تصفحنا ديوانَ الشاعر عبدالكريم الطبال " الأشياء المنكسرة "( 1974 ) الذي بدأ نشرَ قصائده سنة 1948. أول قصيدة نشرت له ، وهو ما زال تلميذاً بمدرسة الصَّفارين بفاس تحت عنوان " كيفَ أبتسم؟ " في مجلة " الثريا"، سنجد أنَّ حبّه حب رومانسي حالم. فالحب عنده عاطفة سامية، بعيد عن اللذة الحسية، والمرأة رمز الخِصب والنماء، وخلاص من الجدب والقحط والخراب. إن حبه حبٌّ تحيط به هالات الجلال والقدسية ، يرتبط في مرحلة من مراحلها بما يسميه بــ" الرومانسية الاجتماعية "أو المتصلة بحب الوطن الذي لا يستطيع فراقه والبعد عنه . والقصيدة التي نثبِتُ هنا بعضَ أبياتِها بعنوان " أغنية حب " ( الديوان، ص: 139 )، تشير إلى هذا المعنى. يرى إحسان عباس "أن الشعر الذي يعبر عن الحب، لم يعُدْ ينقل عاطفةً مفردة بسيطة، وإنما ينقلُ غابةً متَشابِكَةً الغصون من العواطف والمشاعر." ( 6 )
وَطني .. يَغْلبني الدَّمعُ إذا فَكَّرَ قَلْبي في الْبَيْن
ياعُمْري لا أَذْكُرُ يَوْماً في عُمْري مَرَّ بلا حُبّ
لمْ أعْشَقْ فيه الوَجْهَ الْمُتَجَدِّدَ في الْحُسْن
لَمْ أقْرأْ فيهِ الشِّعْرَ الَّذي في دِيوانِ قَلْبِـك
..............................................
وَطَني .. مَوِّجْني أَشعَاراً في قَلْبِــك
عَانِقْنِي أَحْلاماً في عَيْنَيْك
اغْزِلْنِي نَبْضَةَ شوْقٍ في رُوحِكَ يا وَطَنِي
يا عُمْري: أَسْأَلُكَ الْوَحْدَةَ في الْحاضِرِ والْغَيْبِ

إذا كانَ الرومانسيون "ينظرون إلى الحب على أنه ليس مجرد فضيلةً فقط، بلْ هو على رأس الفضائل، وهو وسيلة تطهير النفوس وصفائها" (7) ، فإننا نجد الشاعر محمداً بنَ دفعة يراه سبب البلوى والشقاء ، والعذاب والألم ، يقول في قصيدة " اعْتَرفْ يا قَلْبِي "( 8 ) :
كُنْتُ في دُنْيايَ كالْبُلبُلِ لا = أَعْرِفُ الدَّمْعَ وشَكْوَى الألمِ
كُنْتُ عِطراً كُنْـتُ في الْفَجْــرِ = نَسِيمــاً كنْــتُ روحَ النَّــغَمِ
صِرْتُ في حُبِّكَ لا أَمْلِكُ لا = قُدْرَةَ الْعَــافِي ولا الْمُنْتَقِــمِ

لذلك نجدُ الشاعر ناقماً عليهِ أشد النقمة، فنار الحب الذي غمر أيامه بالأحزان والآلام، خمدتْ وهمد أوارها، فلم يعد عبداً للحبيبة بعد أن بات الحب رماداً. يقول في المقطع الأخير من قصيدة " أنا منْسي " ( الديوان ، ص: 32 وما بعدها )
... وَالْهَوَى.. النَّــارُ الَّتي عَــاثَت بأمْسِي
لَمْ يَعُدْ بَيْن ضُلُوعي
حَطَبٌ يُذكي لظاها
لَمْ أَعُدْ عَبْداً لأمسي
بَعْدَ أَنْ صاَرَ رَمَادَا

ويرى مصطفى القرقوري في دراسته المنشورة في مجلة " أقلام " بعنوان (الشعر المغربي الحديث إمكانياته وآفاقه ) " أن الطابع البارز الغالب على كل الأعمال الأصيلة التي أبدعها شعراؤنا الحديثون هو تلك النغمة الحزينة المفعمة بالأسى والأنين " ( 9 ) .

2 ـ الحزن والألم : الواقع أن من يطلعْ على متن الشعر الرومانسي المغربي الحديث، سيُنصتُ إلى نبض أنغام حزينة مفعمة بالأسى والألم والشعور بالخيبة. فالشاعر محمد بن دفعة، مثلاً، إذا كانَ ينظرُ إلى الحب والمرأة على أنهما سبب شقائه وتعاسته، فَذلك لأنه يصطدم بحب فاشل وحبيبة لا تقدر مواهبَه وإبداعَه، وهو يعبر عن ذلك في قصائده تعبيراً فيه الكثير من المرارة والألم والخيبة،إنَّه غير راضٍ عن وجوده وظروفه الحياتية، لأنه لم يذق من هذا الزمان ومن أناسه، إلا كلَّ حَيفٍ وظلمٍ ورزايا, نسمع هذه النغمة الحزينة الأليمة في قصيدته "قصيدي" التي صدَّر بها الديوان، تلخص معاناته وشجونه وجروح نفسه العميقة، وننصتُ إلى هذه النغمة على قيثارة ابن دفعة الشِّعرية في قصيدته "بقية كأسي" (الديوان، ص: 56) التي تقطر حزناً وأسى ويأساً ، فما بقية كأسه سوى عمرِه الباقي الذي يودُّ لو أن الدهرَ احتساه. إِنَّ الذات الشاعرة تَودُّ الفرارَ من الحاضر الحزين، كما ترغبُ في الهروب من الماضي الأليم. فإلى أينَ المفر إذنْ ؟ . إنَّ وطأة المأساة على ذاته تجعلُه يتمنى الاستراحة في عالم الأبدية:
فَأحْسِبُ عُمْريَ كأساً = والدهرُ يُديــــمُ التـَّــأسِي
وأسألُ مَتَى الدَّهْرُ يَحْسو بقيةَ كَأْسِي

3 ـ الثورة: وتتمثل فيما يلي: الثورة على قيود المجتمع وتقاليده ومواضعاته ـ السخط على الشر الذي يملآ الدنيا ـ " محاربة السلطات الظالمة السالبة حرية الفرد "، وهي إحدى مقومات الرومانسية (انظر: كتاب الرمانتيكية، ص : 143)، ونلاحظ هذه الظاهرة في العديد من القصائد الرومانسية. وقد كانت نتيجة ظروف الواقع السياسي والاجتماعي السائدة في تلك المرحلة. يقول الشاعر إبراهيم السُّولامي في قصيدة " الصراع "، يعبر عن ضِيقه بقيودِ الحياة المتنوعة ( ديوان " حب "، ص:8 ) :
حَنانَكَ يارَبِّ هَذا الْوُجودْ = أَنَاخَ عَلَيَّ بِشَتَّى الْقيُودْ
وَحَطَّمَ مِنِّي سِرَاجاً أضاءْ وَأبْعَـدَ عَنِّيَ كُلَّ هَنــــاءْ

ويرفُضُ الشاعرُ عبد الكريم بن ثابت عالمَ الناس، لأنه مليء بالشرور والآلام والأتراح، في حين يَنشدُ الفنَّ الذي يراه يَنْطوي على قيم الخير الأصيلة الخالدة،يقول في قصيدة " خلود " (10) :
قَدْ مَلَلْنا الأرضَ والنَّاسَ وَمـا = ثَمَّ فَوْقَ الأَرْضِ ما يُفْرِحُنَا
سِرْ إلى النُّورِ السَّماويِّ وَسِرْ = عَلَّ خُلـداً دائمــاً يَشْمَلُنَا
فالْهَوى والنُّورُ والسِّحْرُ وَما = يَنْطَوِي الْفَنُّ عَلَيْهِ قَصْدُنـا
ثمَّ يتساءل ثائراً حائراً في قصيدة "حياة" ( الديوان ، ص : 19 ):
فقُلْ لي بِرَبِّكَ يا صاحِبــــي أتعرفُ مَعْنَى لِهذا الْوُجُودْ ؟
وَمَعْنَى الْحَيَاةِ عَلى حُسْنِها تَرَنَّـحُ بَيْنَ ثَقيــلِ الْقُيــــودْ ؟

وهذا الشاعر محمد بن دفعة يقول في قصيدته "قصيدي" التي تمثل تجربته الأليمة في هذا الديوان، والعنوان " أشواك بلا ورد " له دلالته البليغة على ما بين دفتيه:
قَصيدي قِصَّةٌ عَنْ كُلِّ حُــرٍّ = يُسامُ الذُّلَ مِنْ عَبْدٍ وَضيـــعِ
قَصيدي أَنَّةُ الصدرِ الْمُعَنَّى = قَصيدي خَفْقَةُ الْقَلْبِ الصَّديـــعِ
قَصِيدي دَمْعُ مَحْرُومٍ وَحيدٍ = تَرَى عَيْناهُ أَفْرَاحَ الْجُمُــــــوعِ
يَضيعُ شَبَابُهُ في حِفْظِ عَهْدٍ ويُخْلِصُ في هَوَى إِلْفٍ مُضيعِ

فإذا كان الشاعر إبراهيم السُّولامي، يَضيقُ بقيودِ الحياةِ الخانقة باعتباره شاباً يتوق إلى الحرية الشخصية والقومية العربية؛ وعبد الكريم بن ثابت يثورُ على عالم الأرض والناس لما فيه من سيادة الشقاء والشر وعبثية الحياة وغياب قيم الخير والحرية والعدالة؛ فإننا نجد محمداً بن دفعة يثور في شعره على قدره وواقعه الأليم، لما قاسى من مصائب وأهوال وحرمان سواء على المستوى الموضوعي الذي تُقمع فيها الحرية في وطنه، أولما عانى ـ على المستوى الذاتي ـ من نكران وجحود إلفه، وهو الشاعر الرقيق، البستاني المعطاء:
أَنا الْبُسْتَانِيُ.. الْأشْواكُ حَظِّي إِذا غَيْري جَنَى وَرْدَ الرَّبِيعِ

4 ـ الحرية: كانت الحرية تعني عند الرومانسيين التحرر من قيود المجتمع التقليدي الذي مازالت تسوده العديد من مظاهر التخلف، تجعلها بالقياس إلى الشَّاعِر الرُّومانسي "جحيماً آخر". التحرر من قيود العالم الأرضي بكل صنوفها. لقد كانت هذه القيمة مقدسة لديهم، فهم يعتبرونها فوق كل اعتبار سواء في المضمون أو الشكل. يقول أحمد المجاطي في دراسته لديوان " حب " للشاعر إبراهم السولامي : " من الصعب أن تقعَ على أديب رومانسي لا يضعُ مبدأ الحرية فوقَ كلِّ شيء." ( ديوان " حب " ، ص: 88 )، وهكذا نجد عبد الكريم بن ثابت يجعل من قضية الحرية قضية عامة هي قضية التحرر الإنساني بشكل عام. ونكتفي هنا بإيراد شاهد واحد من قصيدة ابن ثابت الشهيرة بعنوان"قيد" للدلالة على ذلك. إنه قيد مجرد وليس ملموساً، لا يراه، ولا يعرف مكانه من جسده، فهو مقيد بِلا قَيْدٍ مَرئي:
أتُراهُ في يَدَ يَّا أَمْ تُراهُ في قَدَمَيَّـأ
ذَلِكَ الْقَيْدُ الذِّي يَضْحَكُ منِّ وَعَلَيّا
وَدُمُوعِي كُلّمَا أَرْسَلْتُهَا مِنْ مقْلَتَيَّا
شَرِبَ الدَّمْعَ ولما يروهِ دَمْعِيَ ريَّا
أَيْنَ ذَاكَ الْقَيْدُ أيْن؟
أتَراهُ الْيَوْمَ عَيْنْ ؟
( الديوان ، ص : 9 )

ومن الملاحظ أن القصيدة تنزع إلى الحرية المعنوية، كما تنزع إلى الحرية على مستوى البناء والتجديد في الشكل، فثمة بنية متماسكة بين الدلالة والإيقاع. وقد حلل محمد بنيس هذا المقطع تحليلاً بين فيه مغايرة القصيدة الرومانسية للقصيدة الكلاسيكية، فهي وغيرها من قصائد المتن الذي درسه لابن ثابت، تستثمر شكل الموشح، ويرى أنه "نادراً ما نعثر في الشعر الرومانسي العربي على مقاطع متماثلة بين النصوص المتعددة ، وهو ما كان يرفضه الموشح القديم مثلاً ..، فهو يرى أن مقطع قصيدة "قيد "لابن ثابت، يسير على نمط مغاير فأبيات المجموعة الأولى متساوية عروضياً بوجود أربع وحدات من بحر الرمل وموحدة في قوافيها..وتليها مجموعة مكونة من بيتين متساويين من بحر الرمل أيضاً ولكنهما مختلفتانِ عن أبيات المجموعة الأولى من حيث عدد التفاعيل (وحدتان مقابل أربع)، وقافيتهما موحدة أينْ؟ ؛ عينْ ؟ ( 11 ).. ( كما هو واضح في الشاهد أعلاه ).
ومن الجدير بالملاحظة أن قضية الحرية كانت ـ دلالة وبناءً ـ من الموضوعات الرئيسة في المتن الشعري الرومانسي المغربي، وقد عبر عنها الشعراء من خلال رؤيا رومانسية مزجوها بالطبيعة وبالأحاسيس الوطنية والثورية التي كان يبثها في نفوسهم حبُّ الوطن.

5 ـ الطبيعة: كانت الطبيعة بمختلف مظاهرها من جمال الربيع ، وحزن الخريف، وضياء القمر، وعظمة الشمس، وهيبة الليل، وهدير البحر ، وسحر الشاطئ، وغيرها من المظاهر الطبيعية، مجالاً لوصف الشعراء الرومانسيين وملاذاً ينشدون فيه السلوانَ. " يبثونها حزنَهم ، ويناظرون بين مشاعرهم ومناظرها " ( الرومانتيكية، هلال، ص: 177 ). الطبيعة عندهم بمثابة الأم الرؤوم التي تحميهم من شقاء المدينة. و" ما الغاب عند جُبْران وعند الرومانطيقيين عامة إلا الثورةُ على ما حدثَ من تشويش وغش وخداع " (12) ومن القصائد الرومانسية المغربية التي تتمثل فيها سمة الفرار إلى الطبيعة من عالم المدينة الذي لا قبل للشاعر الرومانسي الحالم العيش فيه ، قصيدة للشاعر عبد المجيد بن جلون من ديوانه الفريد "براعم" بعنوان "الطبيعة"، يقول فيها:
مَنْ لي بِكوخٍ في الْخَمَائِلِ نَاءِ = وَسْطَ الطَّبيعَةِ أُمِّنا الْحَسْنَـــــــاءِ
بَيْني وَبَيْنَ الْعَصْرِ بَوْنٌ شَاسِعٌ = أَنَا في الْخَمَائِلِ وَهْوَ في الصَّحْرَاءِ
وَأُيَمِّمُ الْوادي لأَغْسِلَ عِنْـــــدَهُ = ما قدْ تعَلَّقَ بِــي مِنَ الأَحْيـَـــــــاءِ
وَتَكونُ أَحْضانُ الطَّبيعَةِ مَلْجَئي = مِنْ عالَمِ الأَقْســــــامِ والأَجْـــــزاءِ
...........................................................................
أَنا وَالْحَبيبُ نَظلُّ طولَ حَياتِنا = نَحْيَى مَعــــــاً في هذهِ الأَفْيـــــــــاءِ
نَجْري ونفتحُ للطبيعَةِ أذرعاً = مُشتاقَةً لِرُبوعِهـــا الْخَضــــــــراءِ

أمَّا الشَّاعرُ عبد المَالك البَلْغيثي ، فَيُعلِنُ أنهُ في غِنى عمَّا اعتادَ الشعراءُ أن يسْتلهموا في جوه أشعارَهم، من خمر ونديم ونساء، بل إن ملهمة شعره هي الطبيعة التي يعشقها عِشْقَ المحب الهائم الولهان، يقول في قصيدته ( 13) :
يا سائِلي عَنْ شَرابي أَيْنَ يُعْصَرُ لي = وَعَنْ نَديمي وللخُلْصانِ فُقْدانُ
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَما خَمْرِي وَلا سَكّْبـــي = ماءَ الكُرومِ ولا مُرْدٌ ونِسْوانُ
ساجَلْتُهَا نظَـــراتِ الحبِّ فَانْبَعَثــتْ = وَللطبيعَةِ في عَيْنَيَّ إِنْســـــانُ

ويبث الشاعرُ مُحمد عنِّيبَة الْحَمْري أحزانهُ وهمومهُ وأشواقهُ إلى البحر والأمواج اللذينِ يعتبرهما صديقين له، يحكي لهما خبايا نفسه، وقد كانت هذه الأمواج تشاركه أحزانه واكتئابه لدى انتظار الحبيبة الغائية. وهذه سمة تطبعُ شعرَ الرومانسيين عموماً، ذلك أنهم " يتخيلونَ في المخلوقات أرواحاً تُحسُّ مثلهم فتحبُّ وتكره وتحلم، فيشركونها مشاعرهم، ولذا يخاطبونَ الأشجار والنجومَ والورود والصخور وأمواج البحار. "(14)

يقول الشاعر في قصيدته " انتظار " ( ديوان " الحب مهزلة القرون " ، ص : 35 )
البحْرُ يَعرفُني وَكَمْ أَحْكِيهِ ما بي مِنْ رِغــَابِ
أُصْغِي إِلى الأَمْواجِ تَزْفرُ ثُمَّ تَفْنَى في الْعُبَابِ
وعَهِدتها ملتاعَةً تنسابُ بَعْدي في اكْتِئــابِ
مَغْناكَ لاحَ هُنا وَنافِذَةٌ تُطِلُّ بِلا نِقــــــــابِ
فَلَكَمْ قَضَيْتُ الْوَقْتَ أرنو بَيْنَ أمْواجِ وَبــابِ

والحقيقة أنَّ للطبيعَةِ نصيباً وافرا في المتن الشعري المغربي الحديث ، إلا أن الشعراء اختلفوا في موقفهم منها.


على سبيل الخاتمة: من الجدير بالذكر في الختام، أن التجربةَ الرومانسية في شعرنا المغربي الحديث في آخر سنوات الأربعين وسنوات الخمسين، تمثل الإرهاصات الأولى لظهور القصيدة المعاصرة (التفعيلية) في سنوات الستين في أدبنا المغربي المعاصر ، متضافرة مع حركة الشعر المعاصر في المشرق العربي . ومن الجدير بالملاحظة هنا،أن للشعر الجديد الذي ظهرتْ إرهاصاتُه في هذه الفترة دوراً بارزاً في إغناء الحركة الشعرية في المغرب بقصائدَ متميزة، تتوفر على مكونات الخطاب الشعري المعاصر مثل : الصورة الشعرية ، والرمز ، والأسطورة، والحكاية الشعبية وغيرها..، والتعبير من خلالها عن هموم الشعراء الذاتية والموضوعية المتمثلة في خيبة أملهم في الاستقلال الذي لم يتحقق فيه ما كانوا يصبون إليه من حرية وعدالة اجتماعية.. يقول أحمد المديني في دراسته الموسومة بــ" مدخل لقراءة تجربة الشعر في المغربي العربي " خلال حديثه عن شعر أحمد المجاطي: " إن ضغط المأساة في العالم الخارجي يتحول في الذات إلى رؤية مشعة ، منها تَنْبجسُ المفردات والصور والأبنية ...وهي عناصر غير مستعارة ، ولكنها أصيلة وموقفية أفرزتها هزيمة 48 وانتفاضة الدار البيضاء في 65 ونكسة حزيران 67 ... " ( 15 ) ويُمثل هذا الاتجاه الشعري المعاصر الشعراء: أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكَنوني ومحمد السرغيني وأحمد الجوماري وعبدالكريم الطبال ومحمد الميموني . وغني عن البيان أن هؤلاء الشعراء تأثروا بإنتاج حركة الشعر العربي المعاصر التي انطلقت سنة 1947 بالعراق ومصر والشام، كما تأثروا بمدارس الشعر الغربي في فرنسا وإسبانيا وأمريكا اللاتينية عن طريق القراءة في نصوص موضوعة أو مترجمة.

الهوامش :
1 ـ للتوسع في موضوع الثورات التي قامت ضد الحماية الفرنسية والإسبانية ، ينظر في الفصول الثلاثة من الشعر الوطني في عهد الحماية ( 1912 ـ 1956 ) للدكتور إبراهيم السولامي، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1974.
2 ـ الشعر الوطني في عهد الحماية ( 1912 ـ 1956 ) ، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1974 ، ص: 133 .
3 ـ ديوان الحرية، كتاب العَلم، ص : 50 .
4 ـ أحمد المجاطي، مشكلة الحرية في ديوان حب "، ديوان حب ، ص : 92 )
5 ـ ديوان "حب " ، المطبعة المهدية ، تطوان ، 1967 ، ص : 80 .
6ـ اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، ط.2 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمَّان ـ الأردن ، 1992 ، ص : 135.
7 ـ محمد غنيمي هلال ، الرومانتيكية، دار الثقافة ـ دار العودة ، بيروت ، 1974، ص : 188.
8ـ ديوان " أشواك بلا ورد "، ط. 1 ، المطبعة الوطنية ، فاس ، 1967 ، ص: 51 .
9 ـ مجلة أقلام، السلسلة الجديدة ـ العدد السادس، سنة 1973، ص: 109 .
10 ـ ديوان الحرية، مرجع سابق الذكر، ص: 29)
11 ـ الشعر العربي الحديث / 2 ـ الرومانسية العربية، ط. 1، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء، 1990 ، ص : 79 و ص: 82 .
12ـ إحسان عباس ومحمد يوسف نجم ، الشعر العربي في المهجر / أمريكا الشمالية ، ص : 75 .
13 ـ عبد الله كَنون ، أحاديث عن الأدب المغربي الحديث ، دار الثقافة ، الدار البيضاء،1994، ص:163 . وله ديوان مشهور بعنوان "باقة شعر" ، طبع بفاس، 1947م. لم يثبته الأستاذ عبدالله كَنون في كتابه، فالكتاب كان مجموعة من المحاضرات ألقاها العلامة في المجمع العربي اللغوي بمصر ، وقد طبعته الجامعة العربية في طبعته الأولى. والكتاب يخلو من ذكر المصادر المراجع التي أخذ منها شواهده الشعرية وغيرها.
14 ـ الرومانتيكية، ص : 177 وما بعدها
15ـ مجلة الآداب، عدد خاص بالأدب المغربي الحديث، العدد الثالث، مارس السنة 26 ، 1978.




1712009320701.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى