إبراهيم محمود - هل يمكن التبشير بالطوفان؟ : عن القصيدة التي لم نكتبها بعد "قراءة في المجموعة الشعرية: الماكنة، لعلي العطار"

استشعار عن بُعد

ماذا يعني أن نكتب الشعر، ونحن نقرأ الشعر، ونحن نتفاعل مع الشعر كذلك؟ أي فراغ نسعى إلى دخوله، وإطلاق رغبة لنا فيه، ليكون للفراغ معنى آخر؟ أي ليتشكل لدينا شعور وهو أننا نستطيع النظر في جهاتنا، وملؤنا استجابة للعالم الذي يضمنا إليه، وفينا أثر يعنينا، بمقدار ما يتمثل ذلك العالم؟

ما يضفي على الشعر سمة العجيب المدهش، هو أنه يمضي بنا من المرئي إلى اللامرئي. إذ في الوقت الذي تكون له صلة نسَب بما نعيشه ونشعر به، لكنه ، ومن خلال أسلوبه القائم على ذلك الضخ اللافت من الصور التي تمارس تركيباً للواقع ونحن فيه، بالطريقة التي تشدنا إليه، كما لو أنه هو الواقع المرجوّ، أي ما يرفعنا عمّا هو مادي فينا، وما هو آني، أو محلّي يسكننا، ويمنحنا مقدرة، وفي النفس التخيلية، لمفارقتنا لأنفسنا الفائضة بالكينونة الحسية إلى اللاحسية، ومن هذه النقطة تكون المغايرة في علاقتنا بالشعر، وعلاقة الشعر بنا، وكيف أننا " أهلوه " ليكون هو حاضننا، ولسان حالنا الآخر.

نعم، أن نسمي الشعر هو أن نشير إليه خارج أي أسلوب سردي، خارج المعتاد، خارج أي حيازة ، أو امتلاك يصيّره معلوماً، أليفاً، مطواعاً، وعجينة تمارس فيها الأصابع شهوة التقليب والتشكيل. حتى الإشارة هنا تعدِم جهتها، أداتها لئلا يُنظَر فيها بحسية مباشرة ، وتقاس المسافة بينها وبين النقطة المقدَّرة في الأفق المنظور، أي تخومها، وما في ذلك من تعيين حدودي. ليس من شعر يجاز قوله، أو النظر فيه، إلا بوصفه ضرباً من المحال وقد جرى لمُّ معطى مقاوَم منه ، ضرباً من البرّية التي تتباعد فيها السماء والأرض عن بعضهما بعضاً، فلا يبقى سوى التخيل وحده لا نظير أو قرين حسياً له، ليكون هناك إمكان الامتلاء بنداء مجهوله، وانتثار حضور منه في لامسماه كشّعر. فالشعر، لحظة التأكيد على ملطّفه الروحي، هو أنه يحرّك فينا إحساساً بمعنى ما يصلنا به، ويفصلنا عن العرَضي داخلنا. إنها المسافة التي نحاول عبورها، لنعزز في أنفسنا حضوراً لا يخفي أبدية الإقامة رغم مرحليتنا الزمنية عمْرياً.

بعيداً عن كل ما يقال في الشعر واسمه وباسمه، ثمة ما يفيض باسمه ويتجاوزه، إشعاراً بأن الذي ينتسب إليه، يضفي على الحياة نفسها قابلية الإقامة فيها حتى الرمق الأخير، وأن اللغة التي تحمل بصمة الشعر، تجيز لها ارتحالاً إلى ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولاخطر منه على بال أي كان من قبل، كما هو شعور المأهول بفضيلة الشعر وبرّيته آنفة الذكر، دون ذلك لما أمكن تتبع هذا الجمع الغفير والمتنوع للذين يقرضونه، أو يشتهون الانتساب إليه، والامتلاء بموسيقا صمته الوالهة.

هذه العراقة في قول الشعر بتاريخه الذي يتجاوزه ولادة وتنوعَ سمات وأداءات، وتلوينات، لا بد أنه يخفي تلك الخاصية المثلى من سحر الوجود بما يتعدى الموجود فينا، وفي هذا الذي يستغرقنا بلامرئياته

يمكن للشعر أن يقول لنا الكثير، دون أن نمارس له استجواباً، أن ينبّهنا إلى الكثير مما يعنينا فيما نحن فيه وعليه، دون الوقوع في أي خطأ قاتل: الاستعانة بقول ينسّبه إلى علم اجتماع، أو سياسة، أو اقتصاد، أو تشريح نفسي كذلك، خشية إخراجه من عالمه اللامحاط به، عالم محرر من المكاشفة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والنفسية، وما لها من مفردات تجني على روح الشعر، وإن بدت غاية في الشفافية المحوَّلة على الشعر. أن نشعر بحضوره دون السعي إلى رسم حدود له، فهو غياب دائم في محتواه، ولهذا يكون هذا الحضور المستوفى متعة التلقي والتفاعل معه بصيغ شتى..

ما المستجد هنا، باسم الشعر، وما يجعل الشعر أكبر من اسمه، أو شيئه الخاص، لتكون له كل هذه الكاريزما الجمالية؟

أسمّي هنا المحمول بشغف الشعر، بمهماز تخيلي مغاير، لما هو سائر، وبعنوان يتقدم بمفارقة المحتوى.

علي عطار الشاعر العراقي" تولد 1996 " الحاضر بنصوص شعرية تسمّيه، والجلي الغياب عن اليومي تجاوباً مع ديناميكية الشعر في فضائه الروحي الشاهد على نصوصه هذه، والحامل لأثريات المعنى الفني فيه.

و" الماكنة " مجموعته الشعرية التي تنتظر النشر، وهي بين يدي، مرسلة من شاعرها إهداء وتقديراً، وكونها تتعزز موقعاً يُعتد به شعرياً، كان هذا العنوان" هل يمكن التبشير بالطوفان : عن القصيدة التي لم نكتبها بعد" قراءة في المجموعة الشعرية: الماكنة ، لعلي العطار "

لعلها اللعبة التي تتوخى تحرير اللعبة عينها، كمفهوم جمالي بحث، من خاصيتها الحسية والتقنية، وجعْلها تخيلية، تفعيلاً للمتوخى في بنية اللعبة: الانفتاح على ما تسعى القصيدة إلى قوله، وما ترجئه تشديداً على أن الآتي المجهول عائد إليها، إلى ما لانهاية، كما لو الطوفان ساعة بيغ بينغ، فأي حياة ترتسم لديه؟



في مقاربة " الماكنة " بداية

ماالذي يجعل العنوان عنواناً ؟ ربما لا شيء يجعله عنواناً سوى نصه المحمول به. العنوان ضارب في المجهول، وهو الذي يحقق لمعلوم ما في واعية الكاتب، ما يمضي به إلى تخوم مجهول يشغله بصيغة ما. يصبح العنوان مؤثراً، محرضاً على لملمة شتات صور، تعابير، طريقة كتابة، تجيز للعنوان أن يكون عنواناً، أكثر مما هو معطى له، وهو أن يكون عنواناً، مجرده، طرقة خفيفة على الباب ليفتح، ليُنسى أمر الباب، ودور الباب وأهميته بالنسبة إلى داخل له بُعد هندسي طبعاً. فلا يعود العنوان مجرد علامة عارضة، لافتة طريق ببعد محدد، إنما ما ينبّه المعلوم إلى وجود مجهول هو الذي يوسّع في حدوده وعمقه وفضائه كذلك. وفي الحالة هذه، أي محال هذا الذي يشد العنوان كاتبه إليه، دون أن يحيط به؟ إنه توقه المأخوذ باللاشعور وفاعليته في تعميق أثر ماض ومؤثر، سوى أنه يشير بأبعاد كثيرة إلى المستقبل الذي يمنح للصائر باسم المعلوم جسداً بهيئة تثير الخيال، بعائده الفني، أكثر من ذي قبل.

نعم، ( العنوان هو الاسم الصحيح. فهو الذي يتكلم، وهو الذي يأمر النص برفع صوته. يعرّف نفسه: أنا العنوان. إنه حدث، انقلاب، أداء يضمن هوية العمل المعنون، ويمنحه الشرعية.) " 1 "

أترانا في الوضعية هذه قادرين على النظر إلى العنوان إلا على أنه مقرر مصير إحيائي لنص رُغِب فيه،وتبيّن بملامح مختلفة، ليكون هذا المسمى نصاً ، حصيلة مخاض، لا يُنكَر في وجوده أثر العنوان الفاعل، إطلاق شرارته الأولى؟

العنوان اختبار كاتبه على فعل تخيله، وصنيع أسلوبه في الكتابة، وشاهد بدعته صوب الآتي. إنه مأثور استراتيجي في الذي تتفتق عنه قريحة الكاتب، وليس مجرد كلمة أو أكثر، عنواناً لنص ما، هو كتاب هنا، دون تقليبه على وجوهه. حتى في السياق الأكثر بساطة، يكون الشاهد البليغ على تلك الثقافة التي يحوزها، ومن خلالها يأخذ العنوان أبعاده الدلالية.

ذلك ما يُنظَر في أمره حديثاً، وليس مجرد إلحاق بالنص، كما لو أن النص يتوسله ليُمنح شهادة إقامة في الحياة.

بناء عليه، كيف يمكن النظر في العنوان الكلمة الواحدة، المفردة: الجمع" الماكنة "؟ ما المستجد والغريب في الكلمة؟

ربما أمكن القول، إن وضع كلمة مفردة بـ" أل التعريف " أي " الماكنة " عنواناً لمجموعة شعرية، وليس كتاباً تقنياً، ما يحفّز على طرح أكثر من سؤال، أو سؤال كهذا: أي إدهاش بنسبه الفني وراء خيار كهذا، وفي الشعر بالذات؟

هل الإدهاش أحياناً، يترتب على ما لا يثير الإدهاش، أي ما يعلِم بعدم جواز النظر إلى أي كلمة على أنها بسيطة، وينظَر فيها، من الزاوية الأكثر تداولاً في الحديث اليومي، أو الأدبيات المكتوبة؟ أليس للكلمة كحيوات شتى انعطافات واردة؟

كيف يمكن لمفردة " الماكنة " أن تستجيب لشاعر مسكون بين توأمي زمن ما كان وما سيكون وهو محمول بأثقال حاضره؟ في " الماكنة " ما يحيل الآلي في الكتابة إلى كائن حي مشغول بأكثر من دور. إنه بوليفوني في محتوى معناه، وكما هو الموقع المسند به إليه. لا تعود الماكنة مجرد جملة أجهزة تشكل آلة لها اسمها، إنما " machine "، ما يحرّرها من خاصيتها المادية المحضة، أو المصنَّعة، إلى المحمّلة بأدوار، آلة رؤيا" لا رؤية " نفسية لشاعر ، ينقّب عبرها ما هو مغيّب أو محجب عن الأنظار، ما يمكن رؤيته في العتمة، تحت الركام، في المدى البعيد، كامتداد لحاسة الإبصار، أو لجملة الحواس الخمس، والقوى النفسية وخافيتها بالمقابل، لعلها تلسكوبية في الفضاء التخيلي لقول الشعر وانتثار مؤثراته.

من جهة أخرى، ربما أمكن القول في العنوان على أنه فخ ينصبه الكاتب، الشاعر هنا، لنفسه، قبل أن ينصبه لقارئه، بما أن الذي يتخيله يكون منه إليه، وأن كل تصور لحالة معينة يكون هو مداه وصداه، هو المرسل والمرسل إليه بداية، وفي ضوء هذه العلاقة البينية، وعن قرب، يكون العنوان بصيغته صيغة مختصرة بطابعها الاستعاري، إشعاراً لواقعة تستغرق وجوداً كاملة على صعيد الامتلاء به، وما يكون في معهود هذا الامتلاء من تبعات، يكون المسطور" إمطاراً " لغيومه عالياً.

هوذا الشاعر الذي جعل من نفسه كلاً وتنويعاً في الكل، ليمكّن تخيله أن يأتي له بما يخرجه من آنيته، أو العابر في أمره، أو المؤطَّر بلحمه ودمه، تحليقاً بروحه، ومعانقة لتلك الحياة المغايرة للفردي المحدود فيه، لوجود منصة تتسع وجوداً، عليها يكون عمران نصه، أوليس بورخيس هو من قال عما يكونه البحث عن الشعر( نبحث عن الشعر، نبحث عن الحياة، والحياة مكونة- وأنا واثق من ذلك- من الشعر..) " 3 "

ماذا يعني عَقْد القران المعتبَر هذا بين البحث عن الشعر، والبحث عن الحياة، سوى أن يجري سكْب الحياة بعد الصعود إلى مستواها، في الشعر، وقد حرّر قائله" كاتبه هنا " من ربقة خاصيته، ولو أنه يتكلم بلسان واحد. إنه ذلك الكائن الموغل في الميثولوجيا" بروميثيوس " المفعم بالنور، أو المأهول بوهج الشمس، كما لو أن هدْر دمه، عقاباً له على تجاوزه لسلطته هو ثمن مدفوع مسبقاً لتلك اللحظة التي يُعذّب فيها عالياً، ولكنه في قرارة نفسه يعيش فيستيفاله، وهو يرى الوجود من " علاه " سابحاً" أدناه " بتلك الشفافية التي يبصر نفسه لأول مرة. إنه مخاض الكاتب حين يوعَد بمحال يتمكن منه هكذا بالشعر.

لهذا جرى تأثيمه، ليس لأنه يحمل صفة تدنيس، وإنما لأن قدسيته لا توهَب لأي كان بيسر، في نبوئيته المغايرة .

أأكون مبالغاً، في مكاشفة دلالية لتيمة الاستعارة المودعة في بنية " الماكنة " ، إذا قلت أن هذه " الماكنة " وهي محررة من المزدوجتين أساساً، وموضوعة بينهما للتمييز، هي " آلة زمن " الشاعر، في وصله بين زمان وآخر، كائن وآخر، دون ذلك، ربما يستحيل إقامة علاقة حوارية مع العنوان" مقتفي الأثر اللافت والمسجَّلللامرئيه خلل المسطور داخلاً ..؟!

في " الماكنة" عبْرها، باسمها، استناداً إليها، يتكوكب النص، كما يتفضّى الاسم، وتتأرّض اللغة، إن جاز التعبير، وضمناً تكون السماء مسرحاً لرؤى، لعلاقات، لتعددية الصوت العائد إلى شاعر" الماكنة ". أهي " رسالة غفران " ما في هذا التحليق بمأثور شعر، أريدَ له أن يكون محمّلاً بأوجاع تسمّي أياً كان، دون أن تدخل في ملكيته، وتبقيه غفلاً من اسمه؟

لعلّي بدءاً من هذا التصور، أستشرف ما هو طوفاني" وهل من قصيدة ترتقي إلى مستوى اسمها، ولا تكون طوفانية؟" وما يكون المتوخى شِعرياً، أي التوق الدائم إلى ما لم يُكتَب بعد تحريراً لمأساة تمحو ظله الشخصي وتعمم صدى روحه؟!



في ركاب " الماكنة "

أي حساب استراتيجي كان يشغل ذهن الشاعر علي العطار؟ وهو يحيل إليه وجوداً كاملاً، لينقّب في مبناه ومعناه، وهو يستنطق الحي" الإنسان في الواجهة ، والمعني الأول بالسؤال المطروح، والجواب المعطى دون استنفاده طبعاً" بـ " الميت " أعني " الماكنة " وما يحال إليها، ويعوَّل عليها، ويجري استنطاقه من خلالها؟ في ذمة " الماكنة " وجود مفتوح بطياته!

هو نفسه استحال بمعونة تخيله الخاص، إلى تلك الماكنة ذات القدرة العابرة للحسي المحدود والزمان المؤطَّر!

هو صوته ولاصوته، بساط ريحه، وريحه التي تتنقل في الجهات في تلقي ذبذبات العاصف من حوله وداخله. أوليس الشاعر فيما ينشغل به، ويقوله ويحاول تسطيره أمين سر وجود أبدي، ليتاح له هذا المضي قدماً بزمانه، كي يبصر ما لم يبصره الآخرون، ما يغفل عنه هؤلاء. ما تكونه مأساة الوجود في تجلياتها، هي المداخل والمخارج صوناً لمعنى الشعر ؟

لنصغ إلى صوت الماكنة، وأنا أحررها هنا من ربقة التسوير، كما هو الممكن تقديره في محتوى المجموعة الشعرية"4 "


محظوظة هي هذه الماكنة وهي تبوصل خطى الشاعر، وبصيرته، وتتعهد بنثر الصوت في جهات شتى، وطي أكثر من عنوان فرع. إنها عناوين تتمكين، وتفعّل أثرها في النصف الأول من المجموعة، متقاسمة إياها مع النصف الثاني، والذي يحمل عنواناً آخر" الخروج عن تاريخ الجلد " ربما تعزيزاً للمؤتى باسم الماكنة، وما تداعى ناطقاً في ظلها، ولكن سمة " المحظوظ " لا تؤخذ هنا بتلك الغيرة التي تستضيء الجوار، وإنما بالدور الكاشف لعمق المأساة المستنطقة للوجود!

وللعلم، فإن المجموعة الشعرية محررة من علامات الترقيم، وما في ذلك من نعي لكل أفرادها واستئثاراً بالطليق تقديراً، كما لو أن الصفحة ليست أكثر من إجراء لا بد منه، لكن المسطور يستغرق ما يتجاوزها بإطلاق، دون تذكير بالمتن وهامشه.

ثمة رسم تكوين للخليقة، تمثل مشتهى لوجود كامل، وفيه ما فيه من مآسي الوجود المدونة من لحظة الخليقة علوياً:

لنبدأ من " آية صنع الماكنة " وهو العنوان الذي يدشّن سلسلة العناوين ذات النسب الواحد" الماكنة " حيث يحاول عبر الحديث عن النفس الضالة، وما تم اكتشافه في ظلها إلى نفسه المطمئنة، التي يبدو أنها مرجأة باستمرار، شرطاً جوهرياً من شروط قول الشعر، مابقيت الحياة، وهو مأخوذ بها داخلاً وخارجاً:

انقفلت وصدقتني ذكورتي في البداية أفقد دوماً شرف الهبوط تمزقتُ برداً حين تساءلت عن أي شقّ أدخل فيه لأستر وجه الطبيعة مكتفياً بالإشارة والاصطكاك على الذات

من الصبح مرمياً على عورتي أنا هشّ ومرطوبٌ تدخل الطيور في مسامي وتخرج الساحرات

هتفت يا من يضع كفّيه فوق بيئتي النحيلة يا من أرى بعض أشيائي من خلال أصابعه السميكة يا قاتلي يا مميتي أنت الذي كنتُ مفقوداً في رمادك مزهواً بإطاراتك يا مليّل دنياي أنا أبكي هذا الماء الهابط من كياني دليلاً على الحزن اضربني على يافوخي وحرر نفسك من سؤالي
ص 11 .

ألسنا إزاء سفْر تكويني، بلسانه التخيلي، انطلاقاً من ذات غير راضية عن روحها المعذبة؟ حالة التجزؤ أو الانشطار فعل يرجع بنا القهقرى إلى زمان لم يكن خاضعاً للتأريخ، ولكنه دخل التاريخ مجازاً، كما لو أن البدء انفلاق، والانفلاق مفهوم قاعدي، يدشن بدءاً لا يسر أياً كان، وطوع ذكورة لها بضمتها في مآلها الهابط، بمعناه القيمي.

ربما لا يفيد تتبع خيوط الكتابة الممهورة بسطوة التخيل كلمة كلمة، ودلالتها وصلات قرباها مع سواها، لأن الموضوع سيتشعب كثيراً. إن الممكن قوله هو أن الشاعر شاهد مأساة، وشهيد مأساة. ففي المقتبس ثمة كون مضطرب، ثمة مشهد كرنفالي ينفتح على اللامتناهي استجابة لقوة رؤيا تتحرى هذا المهدور داخلنا. لكأن الشاعر ينحي التاريخ إحقاقاً لسلطة رمزية هو أولى بها، جهة تمثلاته الفنية، أو الرمزية. إنه تأريخ طوفان واقع، ولكنه غداً في ضوء الجاري، وما في ذلك من توجيه دفة الحدث الشعري إلى الأمام، وما يخشى جانبه إن لم يُتنبَّه له. من يقاوم هذه الشهادة النافذة بثقلها النوعي ؟

في هذه السلسلة من التعابير التي يطلق الشاعر العنان لصورها وإيحاءاتها، وما في ذلك من تعرية للذات وإشهار لعجزها أو " تناهشها " الذاتي، بدءاً من " انفلقت " ومن ثم : أفقد- تمزقت- شق- لأستر- الاصطكاك- مرمياً – عورتي-هش- مرطوب-نحيلة...إلى : اضربني على يافوخي...يكاد من الصعب تمرير أي مفردة، دون النظر في هذا الضرب من التقرير عن مازوخية الذات، للوهلة الأولى، والسؤال الذي لا يني يحضر بالتوازي مع هذه التعابير: ماذا يمكن قوله في مكاشفة ذاتية تقوم على إقرار بضعف قائم يصيب بعدواه ما هو موجود حوله، أم يرسم خريطة جلية بحدودها الهائلة لوجود، وفيها تلك الإحداثيات ذات الصلة بصولاته وجولاته فيه" الوجود" ؟ ثمة دوران حول الذات. ثمة مسلك طفولي، يتمثل في استعادة الأشياء من خاصية تعامل واحدة قائمة على الانجراح المؤثر في هذا الاستشراف الموصول بالخارج.

الكلمات تتولى تقديمه لعالمه، تظهِر هي نفسها مدى عذاباتها، بوصفها حية، وفي مدى الكم اللافت من الأوصاف القائمة من " عيّنة " العذاب، مأساة له، نتلمس مدى قدرة الشاعر على إبراز صدوعه، صدوع محيطه للملأ. ينقلب الضعف قوة.

ويمضي بنا لسان حال تخيله في " الماكنة تبدأ بالعمل "، موكّلاً ماكنة تخيله، أو مخياله الفني لتسمِعنا ما يراه جديرة بالطرح، أي بالإصغاء، ذي الخاصية الأكثر تعبيراً عن التنبه والتأثر والعمل يمثل في الحسي بدءاً من خطاب قوله، وهو الأقرب إلى معادلة الأنا- العالم، والعالم لا وجود له إلا عبر مردود أو حصاد أنا الشاعر، رهانه المشتعل بنار رؤياه:

ذهبت ورأسي عالق في رأسها

تعب وظَّفته لخلق التوازن في السرد.

أشرقتْ من وجهها

وغيّم الشرقُ بين أضلاعها وقالت لقد كثُرت زيارات النجوم إلى صدرك حتى ولِد الحوت ص 19.

أحنُّ إلى رجفتي وبكائي وأريد وضعَ النباتات في سرّها وأقولب نفسي على قدرها ص 20


ألسنا أيضاً في سياق سالف، مع " وجبة " أخرى من الأوصاف في سلسلة النسب آنفة الذكر: عالق-تعب-غيّم-رجفتي...إلخ؟

هذه القائمة الأخرى من الأنساب لا تخفي انشغال الشاعر بوجوده ، بإنسانه، فلها أداءات أخرى، وليس مجرد مسالك أو ممرات للدفع بكلماتها لأن تنطلق من نقطة وتنتهي عند أخرى، إنما تظهر خطوط تواصل وتفاعل بين عوالم قائمة جرى تجسيدها بحركات أو دلالات تترجم ما عليه الوجود من هشاشة وفيه موجوده الذي يخفى من لدنه دوره السلبي في إدارة زمانه ومكانه، استناداً من الموقع الذي يحدده لنفسه.

عالم يتنوع، لا يهدأ في هدير " أنّاته " وهي تمارس لم شمل كل هذه المؤثرات مأساوية المرجع، ومن الماكنة التي أجيزَ لها بتفويض من ذات شاعرة يلتقي فيها داخله وخارجه، تعميقاً لواقع ما أوجعه من واقع.

هوذا شأن " الماكنة تحب ":

الغيمة تمحو الغيمة من عليَّ. بهذا الكلام المنمنم أكشف عن صورة السرد يا حجراً تطوَّر من سلالة الطير تاركاً فجوة في المساق وقد بدأ العنف ص 25

لعلّي أجيز لنفسي هنا، وأنا إزاء هذه العناوين القول بأن ثمة إقلاقاً للعنونة بالذات تحت وطأة هذا الأسر الروحي لما هو كارثي، كما تعلِمنا بذلك العائلة الكبرى لكلماته، إلى درجة أن إحلال أي عنوان محل الآخر، ربما جرى الحفاظ على الدائرة في خانته، بتلك الدلالات عينها، كما في : فجوة- العنف.. لأن الخلط بين هذه المفردات هنا وتلك الأخرى التي تتنفس معاناته التي عرِفت بها مجموعته، يدفع بنا في ضوء هذا التدفق من الصور النازفة إلى مقاربة خاصية مأخوذة بما هو محوري: كيف يمكن، ليس إيقاظ العالم من تشظياته، ومحنه، وإنما من له يقيم فيه وهو غافل عما يجري.

ثمة استعادة لتاريخ له أقدمية معلومة، ما قبل نشأتنا في " الماكنة تسمع ولا تفهم " يا للخرس الصادم:

نمتُ مع قابيل

في متحف المسافة

وكنت أقدّم نظراتك

قرابين لهيكله

رآني على قدْر حالته

فاستمر في السير

ولما رآك

على قدر حالته

سقط ومات ص 37


من المتكلم هنا؟ لا بد أنه الشاعر. ليس من اكتشاف يستحق الثناء، لكنه إبرام عقد مع الدور الذي كلّف به الشاعر نفسَه الأمارة بالقلق والإيعاز المستمر وصفياً إلى حدث يتفعل ويكون له صداه الوخيم، من لحظة قابيل الذي يدفع باي منا، لحظة سماع اسمه بتلمس ذاكرته، بوضع يده على قلبه تجاه المحال عليه في مأساة التكوين الأولى، وتلك اللعبة الحوارية معه.

وما يكون من كثافة صور وتكثيف دلالات في " الماكنة تفضح كلكامش " كما لو أن قابيل يُسمّي كلكامش من خلال ذلك التوق المأسوف عليه، إلى الخلود، فثمة صلة قربى تصل السماء بالأرض، والعكس. كل شيء يحمل مأساته حية في نظراته، في خطاه، في راحته، إشعاراً بما هو كوني. لولا قايين لما كان كلكامش الذي مضى وهو بثلثيه الإلهيين، إلى حتفه وفي نفسه حسرة من الخلود الذي حارب كثيراً في سبيله:

تغطية تمثال كلكامش بالجلد الفائض يدفن في غيهب الفريسة قدرة الآدمي على فهم أن السفينة مهما استطالت لن تحمل الجمسَ وإلا كيف نفسّر أن الغراب يدنو من خاطرها أو غيبها ربما ثغرة في الحمامة التي طارت إلى كتف كلكامش. لم تجد أي وضوح على الماء فعادوا جميعاً يدبّون في وجهك نملك اليقين وعلى صورتك صورتك شاهدة القبر ص 43

خريطة لصق خريطة، أو إحداثية تجاور أخرى، وحين يأتيها الدور تتقدم وتعمق نبرة صوتها وحشرة الروح مثل شقيقتها في الجوار، أو مقابلها، لتمتلىء الخريطة بذلك الثقل النوعي: ثقل مأساة الوجود ومكائد الجاري فيه.

حال الأخير" الماكنة تخرج من ساحة المطلَقات وتحذف آية السرد ":

سيولد الذي في نومه لبسَ الأرض وهو على كل شيء يمشي على الماء ويضع إصبعه في فمه إيذاناً بقبلة تشقق النعاس الطافي على عين الضحى شاملاً بذلك القدم والساق والخصر .ص 51 .


وما يتحقق قتلاً، أو إيذاناً بالقتل، ويغلق على الوجود بذلك الحداد الممضي به إلى الأمام، بلسان أنثوي هنا، ربما تعزيزاً لعلاقة بينية، تفضي إلى مثل هذا الخراب الكارثي، هذا الحكم المترتب على سريان فعل خطأ يعرّي حطام الوجود:

خذوه هذا حبيبي واقطعوا عنقه ص 55

من تكون، من يكونون، ماذا يحدث في المحصلة، من يغدو السارد هنا، وفي الشعر المعتبَر مقاوماً للسرد بصوره؟ إنه الكل الذي يحمل أجزاءه معه، الكل الذي ينسكن به الشاعر، ليكون كل هذا العالم الذي يرتسم تصدعات وتفجعات.

عالم لا يقال داخله أو خارجه، عاليه وسافله، ظاهره وباطنه،وجهه وقفاه، تباطؤه وتسارعه، حياته وموته...إلخ، إنما ما يجد كل مما تقدم صورته في عين الآخر، في وجهه، في صوته، في كل مسلك له، إعلاء من شأن الشعر الذي تحوَّل تأريخاً، وهو الذي لا يُقرأ كما هو المعهود في المدون تاريخاً، إنما ما يجري تأويله ومعاينة المتشكل فيه رمزياً.



وقفة استنارة

لنتوقف قليلاً إثر ما جرى التذكير به، أو تسطيره، بغية التقرب من مكنون الشعر، وما يمكن رصده دلالياً فيه.

ثمة ما يعزّز هذه العلاقة. إن صوت الشاعر، لا يمكن أن يجاز ويكون له ظله اللافت دون إشعاره بما يمكّنه من الاستمرارية في حوار يغْنيه ويغتني به.

لنستعن بجاك دريدا وما يفيدنا به، وما في قوله من مكاشفة لها شاعريتها بدورها:

الشعرلهشقان. منناحية،باتباعكانط (مركزيةاللوغوس،الميتافيزيقيا) ،فهوفيقمةالفنونالخطابية - أكثرالفنونتعبيرًا،والأكثرارتباطًابالصوت. لكنهمنناحيةأخرى،يكونالفنالأكثرحرية،والأكثروفرة،الذييؤديإلىالحدادالأكثرإنجازًا – إلى درجةالنشوة - للمفهوم،والتمتع،والعمل،وكذلكالمعنى.

قانونالقصيدةهوأنالأثرالواردفيها،متروك،مهجور،بدونتفكير،يعمل. منناحية،تعتبرالقصيدةنعمةموجهةإلىتاريختممحوهوحرقهفيالرماد.

القصيدةفيجوهرهاالأكثرحميميةهيكلمةشخصواحدوحضورهوجوهره. لكنيجبأنيتوجهإلىالآخر. كماأنهيتجهنحوالإنسان،وجهًاآخر: وجهالدمية،والشخصيةالميكانيكيةاللاإنسانيةواللاإنسانية" 5 "

يتحدث دريدا المفكر التفكيكي بقول لا يعود القول هذا عين القول الذي لم تجر تهيئته بالصيغة نفسها سابقاً. ما أفصح عنه دريدا جهة الشعر، هو ما ينير اسمه، ما يخرجه من صمت غير مدرَك بمعناه، من مغيَّب ومغزى ذلك. ما يتم تداركه في الشعر بوصفه حضوراً لفكر لافت من نوعه وفي مكتشفه، وفي وقوفه على أثر يترجم ضعفنا التكوين في حداد لا يفارقنا في وجود شاهد على ذلك.

في الشعر يكون صوت الشاعر بمفرده، ولكن في هذا المفرد ما يأتي جمعاً دون أي اتفاق من نوع سياسي، أو دعوي، لأن الشاعر لا يعود شاعراً حينها. الشعر هنا يوقظ في مستمعه ما أغفل هو عنه، وما يكون مصقولاً في روحه دون أن يأخذ به علماً، وبالطريقة هذه تكون خطورة الشاعر في الشعر الذي يقلق العالم، ويهزه في نومه، ويُشكَر عليه في آن ، ما يكون الآخر المستحب فيه.

يكون هناك استيلاد زمن غير معلوم، من زمن معتبَر معلوماً، هو زمن الشعر الذي يوسّع في مفهوم الزمن القائم، في المكان يتردد القول ذاته، ما يحرر الشيء من اسمه المقيد به، واستماتة الشاعر في إخلاء العالم من حطام لا يدري به، أو من تلك الهيئات المواظب عليها وهي التي أوصلته إلى ما نحن عليه في " عرْف " الشاعر وهيبة ماكنته.

ما يستعيد ما كان، ويقرأ في ضوئه ما هو كائن ويمتد إلى ما وراء الأفق.

( من وجهة نظر تأويلية، وفقًا لغادامير (1996)، يمكن للنص القانوني، أو النص المقدس، أو العمل الفني، أو قصيدة من الماضي، أن تنتج المعنى، خارج المسافة الزمنية. وهذا المعنى ليس ثابتاً: فهو يتجدد عبر التاريخ.. وبالتالي فإن النص من الماضي ينتج معنى لا يقتصر على ظروفه الاجتماعية التاريخية الأصلية. إنه يوفر إمكانية التوضيح والكشف عن الوضع الحالي.) " 6 "

إنه توقير المعنى مجهول الاسم دفعاً للمعنى الضال الذي يتلبس الوجود، ويتبصره رائي الشاعر، متخيله الروحي، وهو يتحرك في قلب ماكنته، أو يمشي وراءها، متعقباً خطوط تحركاتها، مقتفياً الآثار التي تترتب على تسمياتها. فلا يكون الماضي ما مضى، لا يكون المسطور ما استحال أثراً مما كان، ولا كان الميت منذ عصور مجرد اسم أو دونه، كل ذلك من صلاحيات الشعر هنا، من دأب الشاعر بوصفه فنان تتبع آثار العالم في روحه، أن يُري ما لا يُرى بطرق أخرى معتمدة.



من الماكنة إلى الظهور خارج الجلد

ضرب مغاير من إيقاع القول في المجموعة عينها" الماكنة ". هل تعبتْ ماكنة العطار، لمنح الجلد حضوراً، أم ليستمر بالماكنة نفسها في ضوء جلد يكون حاجزاً بين الأدمة، بين النابض بحياة ما خلفه، كون الجلد قناعه، شبحه، طيفه، عازله عن العالم، وليكون للجلد جانب الفراسة، جانب الإفساح في المجال ليعايَن شعرياً ما لم يعاين بعد، ليكون هناك استقصاء لما يمكن النظر فيه، والتأكيد على أن الشعر هو ما ليس هو، ليحقق في أمره " هو:ه" الذي يضمن استمراريته في اللامسمى الدائم منه؟ ما يعنيه الجلد في الذي يمكن تبينه برفع" نقابه المغلف لكامل الجسم: العالم، إلى جس عالمه.

ماالذييفيدنا به الجلد إذاً؟ ما يعمق شهادة الماكنة الشعرية!

إنما لنتساءل بداية، وبغية تنوير هذا " الغشاء ذي المسامات " أخذ فكرة عن الجلد ومأثرته في عضويتنا وحياتنا:

( يمنحنا الجلد شيئًا للتفكير فيه؛ إنه يفتحنا على التأمل الميتافيزيقي. يخبرنا الجلد عن مصيرنا، وهو أن نشيخ ونموت.

نحن نفهم أن بول فاليري ذهب إلى حد الكتابة: "أعمق شيء في الإنسان هو الجلد. » (فاليري، 1960).

يستيقظ الفكر الفلسفي أثناء المواجهة مع العالم الخارجي، مع جلد آخر يضربنا من مسافة قريبة. يظهر الجلد أكثر بكثير مما يخفيه. إن الحديث عما يسمى بالأعماق الخفية للحياة الداخلية هو الذي يبعدنا عن كياننا الحقيقي.

ومن خلال دعم التساؤل الفلسفي حول الوقت والموت، يقع الجلد أيضًا في قلب العلاقة الأخلاقية مع الآخرين، والتي تكون دائمًا علاقة بوجه. نحن نربط الوجه بشكل عفوي تمامًا مع المظهر الذي يشعّه.) " 7 "

إذاً" أو هكذا يمكن تأكيد ما يمكن التأكد منه" ما صلنا بالجلد، هو ما يصلنا بعالم كامل من خلاله. جلدنا الذي يقدّمنا للعالم، جلدنا الذي يعرّفنا بالآخر، ويعرّفه علينا، جلدنا الذي يؤرخ لكل مستجد وطارىء فينا وعلينا، جلدنا الذي يواجهنا بتلك المرآة التي تتولى إظهارنا وما نعتقده في أنفسنا، بما طرأ علينا من تغير تحت وطأة الزمن ونظيره المكان.

يا للدور الكبير الذي لم يُبحَث فيه كما يستحق، يا لخطورة المستقى منه، أو المخبأ فيه، هذا الخندق الذي يحملنا دون أن نحاول سبْر حقيقته، وإلى أي مدى نعيش من خلاله، وهو يعلِمنا بسريان فعل الزمان والمكان فينا؟!

في القسم الثاني، كما يمكن التسمية، بصدد الجلد، ما يواجهنا أكثر بمأساة الوجود فينا ومأساتنا في الوجود:

ثمة ما يرتقي إلى مستوى الأدلة، أو الاستبيانات، بدءاً من " آية النقص "

هذا التشيؤ الواثق من علاماته وسكوتاتي وذهابي وعودتي جنب فراشي لا يزال يمنح اللغة المحايدة دمية للفراش. مبللاً في بيئة مغلقة أضع أيدي على توهجات الفحم المبلّل وأنثُّ المطر أشتهي والدمية في دماغي. الدمية في جسدي ص61

إمكان النظر وراء الجلد، هو إمكان النظر عبر الماكنة التي تنقل ما تراه ويُصادَق عليه، حيث النظر يتولى أمر تسمية قائمة موجودات تتكلم بلغة رمزية: التشيؤ-السكوتات- دمية.. ما يخرج المرء من جلده ليرى دمينيته، إن جاز التركيب، ما آل إليه أمر جسده وراء التشيؤ، وكيفية قلب العلاقة في ظل الماكنة .

وما يكون من شأن " الوحش يتذكر " ويظهر مدى انفكاك الإنسان من الداخل، وغفلته عما يحدث داخله، منه وفيه:

أخذُ المقاسات والتهيؤ لاحتواء الأصابع

يعني. لشخص عصرتْه الحضارة . الوصول إلى سماء يغالبها النوم

فالحديد وصلَ

إلى ساحة الحنجرة ص 79


حيث يعيش الإنسان سلعنته، تمادي انحداره القيمي، مكانته، موقعه، خروجه عن جادة صواب العالم، وتعرضه المستمر للصدمات، لتحول متنام في اضمحلاله من الداخل والخارج. متغيرات الزمان والمكان وعلى يديه تشهد عليه.

هو ذا " القتل " بدوره يقول " صوته " النازف باسمه، وما يشهد به على نفسه وهو موجه إليه في وجوده:

هل سأسحب عظامي

وقتلاي

وألمّع المعادن

في جثَّتي

وأقول وداعاً

خافضاً رأسي

لقوة الملابس والبيت والعجلات ص 85


ولنصل إلى المؤلم في المغاير دلالة" الجميلة"، واستناداً إلى الشعر وآيته، أو عقاره الملوَّح به بصدد الجلد وأبعد:

بدأ الشّعرُ طقساً تحمرُّ فيه الوجوه خوفاً من النوم جنب سلالتها وأنت تحمل بين جوانحك احتمالاً بسيطاً بإمساكها الحجر الجارح وتخرج مافيك وتنشر للشمس في دخان البخور والنوافذُ سكرانة وبعيدة ص 103

ما يكون حواراً، في نشيد إنشاد يقوم على حرْف، جرْف يمثّل العالم، وزيف الموجود في وجود منكوب به:

لم أر مثلك شاحبة تدعو كاذبةٌ بصوتها الخشبي

وترفع نهديها بيديها

وتخلع ملابسها استجب

فيبجيب وتضحك ساخرة وتطفىء شموع ليلها وتنام بكمل أشيائها حجارة صمّاء في سور كبير فرحانة بكذبتها وتجلّيها ص 105


ولا بد أن " الماكنة " تمضي في مهامها، في ضوء ما عرِف من خلالها، حيث أفصحت انطلاقاً مما جرى اقتباسه من سريرة المجموعة من دلالات واستشراف أبعاد، وإيراد فقرات أو مقاطع، عما يواجهنا بأنفسنا وفي أنفسنا.

تلك خاصية الشعر العريقة، قابليته لأن يستمر في رفْع صوته، بمؤهلاته، ومكاشفة الوجود كارثياً، في من يعيشه بعمق!

الشعر الذي ولِد في أصل العالم، وبقي معه، واستمر ، ويستمر إلى هذا اليوم، لأنه الأكثر تمثيلاً لما هو كامن في النفس، وبتلك الطرق التي لا تتوقف عن التشكل بصور مختلفة، أي قابلية التعبير وأخذ مساحات واكتساب ألوان، وفي إيماءات تتوقف قوة وضعفاً على المتقدم باسمه، وذلك رهانه الأعظم والأضخم والأكثر تكليفاً دلالياً هنا.

لا تعود الماكنة ما هو مألوف، بتلك التبعات ذات الصلة بما استقطرته وراءها أو في إثرها إنما القْلب الكامل لعالم ربما غشي عليه كثيراً، أو تكبَّل ذاتياً بأوهامه وأخطائه التي تشكل في واجهتها علامة فارقة لعلو كعْب الإنسان، سوى أنها في مجريات وقائعها تشير إلى الخطْب الكوني، إلى اضطراد في المحن التي تتلبس الوجود وتهدد ما يلي حاضره.

تصبح الماكنة علامة مكاشفة للكثير مما يجري تجاهله أو تناسيه أو تمثّله عمداً، وتعبيراً عن براغماتيكية معينة، وفي ذلك استمرار العالم في التفكك، والتعريض بالإنسان، فلا يعود له من معنى سوى في نهايته كلياً.



في لقاء الشعر

ماالذي لم يفصح عنه الشاعر؟ ما يرتد إليه مباشرة. ليكون في مقدوره أن يقول ما يصلِح به قوله الشخصي، عبوراً إلى الآخر فيه، إلى عالمه الذي يضمه مع نظرائه، أو الذين يعيشون تلك التعريات البينية التي يتعرض لها هنا وهناك.

لعل في ذلك لقاء الشاعر مع الكائن البعيد، الكائن الكوني بين جنبيه، لقاء الوعد الذي يؤمّن له بصمة في عالمه، لقاء لا ينفك يستمر إرجاء، ليستمر الحنين إليه والكتابة في ضوء هذا الحنين.

إذ (عندما يكتشف الشاعر الواعد ( أو يكتشفه ) ديالكتيك التأثر الشعري، عندما يكتشف للمرة الأولى أن الشعر يكمن داخله وخارجه معاً، فإنه يبدأ مسيرة لا تنتهي إلا عندما ينضب الشعر من أعماقه، وذلك بعد أن يكون قد امتلك القوة ( أو الرغبة) على إعادة اكتشاف هذا الشعر خارج ذاته ثانية. ) " 8 "

ربما هو الشاعر الذي استجاب لصوت أناه في النطاق الأبعد مما يسمّيه محلياً، ويشرعن لمهام ماكنته. والشعر، كما هو المأثور في لغته، هو الذي يمكّن قائله من نفسه المحدودة، ويرتقي بها عالياً، ليرى كما يُسمع عن بعد وعن قرب أيضاً.

أجدني في الحالة هذه، مع صوت الشاعر، وكلمة الناقد الشعري الفرنسي الشهير جان ميشيل مالبوا، في تلك التعابير التي يشار إليها، باعتبارها الصوت الأعمق للشعر، والإشارة الأبلغ للحريص على الشعر نفسه .

ليس اعتباطاً أن نقرأ على الغلاف الخارجي لكتاب" وداعاً للقصيدة Adieux au poème بالفرنسية 2005" هذا الرثاء المستقبلي وكيفية تجاركه قبل فوات الأوان، جهة النظر في واقعه وكيف يجري تداوله جسماً مفرغاً من الروح التي تمنحه قدرات عالية:

( الوداع: مع ذلك يعني أنه لا يزال يتعين كتابة شيء ما... في ذكرى القصيدة. كما يأتي المرء ليحافظ على قبره ليحتفظ بذكراه فيه. أو قم ببناء منزله الأخير: صندوق بسيط مسمر. "القبر الصغير، بالتأكيد، للروح.")

من المؤكد أن كلمة الوداع تقال دون تنفيذ، إنها إشهار بما يمكن القيام به، لتبقى القصيدة في موقعها، لأن وجودنا في العالم دونها، لن يكون في مصلحتنا والعالم نفسه على وقع مآثر الشعر الكبرى .

لأورد في هذا السياق المفتوح بعضاً مما يضيء مدار هذا القول والذي يصلنا بالشعر عميقاً:

(أنا أسمي العالم ما هو حولنا، بعيد، قريب جدًا، هناك، في الخارج أو في الداخل، كل ما هو موجود بالنسبة لنا، على المستوى البشري، والذي يمكنني التحدث عنه. في هذا العالم، عالمنا، هناك أشياء تبقى وأشياء أخرى تستمر في التغير، الطبيعة والعصر، المعلوم والمجهول والمجهول، كلها ملفوفة في سؤال هائل لا يمكن لأي جهد بشري أن يجيب عليه. يمكن أن تقدم إجابة. وهكذا فإن العالم هو سجننا بقدر ما هو مدى مواردنا وقوانا: فهو يضمن لنا أكثر من مجرد معيشتنا، ضمن الحدود المخصصة لنا...

ماذا يفعل الشعر، إن لم يكن يواصل عبر العصور المحادثة المثيرة والمتنفسة تقريبًا بين المخلوق مع هذا العالم؟ طريقتنا في التساؤل والرد بلا هوادة في الوقت الحاضر. القلق، والتعلق، والتفكير في ما يحدث، أو يستمر أو يتراجع. لإبقاء عينيك مفتوحتين.

على الشعر أن يقودنا، لا من الليل إلى النور، بل من حزن الظلام إلى إمكانية محبة النور.

لا يتعلق الأمر بإسماع صوت الأرض البسيط الذي عهدت به الطيور أو الرياح، ولا صوت الآلهة المفقودة أو الملائكة، بل الجهد البشري والرغبة في تحديد ماهية الوجود، إذا كان تائهًا. ومهما كانت عاجزة.) " 9 "

أإلى هذه الدرجة يكون للشعر كل هذا المدى وتتالي الصدى؟ هذا الإمكان في التشديد عليه؟ ثمة تاريخ طويل يسنده، ويعوَّل على شهادته، بمقدار ما يتم الانفتاح على صوته الممتزج بجرحه الروحي النازف بالتأكيد. فالشعر الذي يلخص ما هو روحي، وعبر الروحي ما هو كوني، وفيه من التأسي الكثير، وفيه من مقاومة الانتكاسات، النكبات، الكوارث، الصدمات، الكثير مما يبقي الحياة في بهاء محتواها، يستحق أن يعنى به، أن يكون للقصيدة وداعها الأمثولي، أن يجري التنبه إلى مكانته لأنه موصول بالروح تلك:

("وداعا للقصيدة" يمكن أن يكون بالتالي مناسبة "لعكس" هذه السلبية نفسها، ليس إلى الإيجابية الخالصة، والاحتفال الكوني والبحث عن اللانهاية، وهي الوظائف الأساسية للشعر، ولكن إلى الوضوح والأمل المثمر: " على الشعر أن يقودنا، ليس من الليل إلى النور، بل من حزن الظلام إلى إمكانية محبة النور.

وهكذا فإن الوداع يتضمن التحول السعيد للخسارة اليائسة للانهاية الوهمية إلى قبول ناضج لمحدوديتنا، وإلى معرفة متزايدة بـ "أسباب حياتنا".) " 10 "

التمثيل الأكبر لليأس بتلك البلاغة التي تنفتح على عالم الشعر، صنعته، دأبه في قول مشتهى الكلام، ترجمة معززة لما هو حياتي، لما يبقينا أكثر قدرة على رؤية القوى الكامنة في أنفسنا وحياتياً.

ليس من سعادة مسماة مكافأة على من يأتي بالمسمى، وإنما على من يسمّي الجارح والنازف في نفسه وفي الآخر، شعوراً حياً ومعرفياً، بأن روعة الحياة حصيلة هذا الامتلاء بالمأساة وجعلها ناطقة شعرياً هنا.

لتكون القصيدة المرجوة في الأفق الأسمى لواعية الشاعر، قصيدة تستمر في الاستقطار، وبث ندائها الكوني ، لأنها تستجيب لصوتها الداخلي، وتعيش حيواتها مع كل بصمة تنتمي إليها بحق.



هل من اختراع للسلف

ربما هي فقرة أخيرة، ويمكن تحويل العنوان هذا إلى صيغة سؤال: هل كان لدى الشاعر الذي لازال يتنفس حيوية شبابه، أي وهو في شبوبيته الفعلية، ذلك السلف المأهول والمقوَّم بالشعر؟

ربما يستحيل الاهتمام بصوت شاعر ما، بظله الذي ينسجه صوته، بفضاء تخيله دون وجود سلف ذي صفة شعرية، وما في تعبير بورخيس اللافت إزاء ذلك، عن الشعراء يخترعون أسلافهم، من تأكيد تأريخي وفعلي، عن أن ليس من أي منا، وفي الشعر بالذات، بسبب مفهومه الجمالي، الفني الخاص، من يستطيع القول عن أنه صار كاتباً، أو شاعراً بجلاء دون وجود ذلك الرصيد القرائي، الاستلهامي، وما جرى تجاوزه ليكون على مسافة منه مستقبلاً سلف يحمل اسمه وتوقيعه.

بشأن علي العطار، يمكن رؤية أدونيس الشاعر المعروف السلف الأكثر حضوراً في مقدمة الذاكرة القرائية، لحظة قراءة ما يكتبهن وفي " الماكنة " بالذات. هذا السلف الذي يعزز مكانة الشاعر، بمقدار ما يضفي عليه ميزة متمثلة في التمايز، وهي أمثولة صعبة جداً، بالنسبة لنوعية الشعر الأدونيسي.

في المناخ الشعري ثمة هذا التنوع في الفضاءات، وعلى أساس مأساوي.

أنوّه، كمثال هنا، إلى مجموعته" تنبأ أيها الأعمى "، وأنا أورد هذه الفقرات:

جاؤوا يحملون رأس الأفق في صحن أحمر

دعيَ السرابُ كذلك،

دم يسيل يسيل لا يتوقف

حبرُ نشأة وتكوين،

دشَّنه قايين.

كم كان قايين رائياً

ولم يسرْ في التيه،

ولم يعش في المنفى . ص 10




وفي : تنبأ أيها الأعمى

زمن يتآكل ويحدودب. وما أشقى الإنسان الذي لا يرى أمامه، كلما تقدَّم، إلا القديم. ص 189 .

ووصفه لحالات أملتها نبوءة الأعمى، كما في " حالة الشاعر":

لا تعرفه إلا بغموض. ما أوضحه:

شمس المعنى

يحدث أن يحجبها ظل جدار. ص 197




و" حالة المتمرد":

أتريدونني أن أكون أميراً عليكم، وأنتم عبيد؟

أن يقال: أنا صوتكم، وأنا مثلكم، لست حراً ؟ ص 199




و" حالة الأمّة" :

أمَّة- غابة

ذبحت طيرها

لترى في دم المذبحةْ

كيف يجتزُّ جسم الطبيعة

ذاكرة الأجنحةْ . ص 210


...إلخ

ثمة متابعة لما هو كارثي، وصوغٌ لتلك التعابير التي تقرّب بين الحالتين، أي ما يجعل العطار قريباً من أدونيس، وإنما في الوقت نفسه، ما يدفع به جانباً، للنظر فيه، وكيفية " هضمه " لما هو أدونيسي " معاناة ومعايشة وتمثّل عوالم، ومحاولة استقلالية في اعتماد ذائقة تخيّل يتكلمه، وشعر ينعطف عليه، وليكون من " أهل " القصيدة التي لم نكتبها بعد، أو لم يكتبها هو، ولن يكتبها، طالما أن الذي أفصحت عنه " ماكنته " برحابة المؤتى به جمالياً، يصله بما هو أبعد من حيّزه العمري أو نطاقه الحياتي، ليتولى شعره في المدرَك به ماضياً باسمه إلى الآتي، لا بد أن فيه سلفاً ينتظره في مسافة قريبة منه.



مصادر وإشارات:





1-[Derrida, intituler, le titre]

دريدا: العنوان

2-للتوسع، ينظر في كتاب خالد حسين حسين: في نظرية العنوان: مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، دار التكوين، دمشق، 2007، وهو في الأساس أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه .وإيراد هذه الملاحظة من باب التأكيد على مدى العناية بالعنوان مفهوماً، ودلالة، وتنوع أدوار وإشكالات بالمقابل.

3-خورخي لويس بورخيس: صنعة الشعر" ست محاضرات" ترجمة: صالح علماني، دار المدى، دمشق، ط1،2007، ص15.

4-علي العطار: الماكنة، ضمن سلسلة" إشراقات " الشعرية، التي يختارها ويشرف عليها أدونيس، دار التكوين،دمشق، 2024، والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة ، حيث أعتمد على النسخة الالكترونية المرسلة إلي من الشاعر نفسه، وهي تتألف من " 114 " صفحة. وكما أشير في الداخل، فإن المجموعة هذه كتبت في 2019 " ص 107 "



5- Pierre Delain – "Les mots de Jacques Derrida", Ed : Guilgal, 2004-2017, Page créée le 27 septembre 2005, [Derrida, la poésie]

بييرديلين– "كلماتجاكدريدا" ،محرر: غويلغال، 2004-2017 ، [دريدا،شعر]

6-*-Philippe Losego, GaëleGoastellec, Louis LeVasseur: Conjuguer au passé : les ociologies de l’éducation et l’histoire, Dans Éducation et Sociétés 2016/2 (n° 38)

فيليب لوسيغو، جايل جواستيليك، لويس ليفاسور: تصريف الماضي: علماء اجتماع التعليم والتاريخ..

7-*-Pierre Le Coz: Place de la peaudansl'éthique du soin, Dans Le Journal des psychologues 2009/3 (n° 266)

بيير لو كوز: مكانة الجلد في أخلاقيات الرعاية

8- هارولد بلوم: قلق التأثر" نظرية في الشعر "، ترجمة: د. عابد إسماعيل، دار الكنوز الأدبية، بيروت،ط1، 1998. ص 32.

9- Jean-Michel Maulpoix: adieux au poème

جان ميشيل مولبوا: وداعاً للقصيدة

10- Clarisse Barthélemy: Adieux au poème

كلاريسبارتيليمي: وداعاً للقصيدة

" الكاتبة كلاريسبارتليمي : ناقدة وباحثة وأكاديمية فرنسية"

11- أدونيس: تنبَّأ أيها الأعمى، دار الساقي، بيروت، ط2، 2005 ، وقد وردت أرقام الصفحات في المتن، من باب الإيجاز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى