مسعد بدر - ابن رفح (2)

(2)

لا يخفى علينا نحن المصريين أن أهل القاهرة يرون أنفسهم طبقة ممتازة بين سائر المصريين. وأن أهل الصعيد ينظرون إلى أهل الدلتا نظرة غير جيدة، ويبادلهم أهل الريف النظرة نفسها. وقل مثل ذلك في أحياء القاهرة؛ فأحياء تحتقر أحياء. وكذلك محافظات الصعيد فيما بينها، ومحافظات الدلتا فيما بينها، ولا داعي لسوق الشواهد والدلائل.
وظني أن هذه حالة راسخة في المجتمع المصري يستحيل إصلاحها. وإذا كان مألوفًا أن يخوض فيها العوام، وإذا كان مفهومًا أن يضمرها حَمَلة الشهادات الجامعية في أنفسهم، إذا كان ذلك؛ فإنه شنيع أن تعلنها قيادات المجتمع على الناس، وسوف يعلنها مدير المدرسة!
لكن (الرفحي) وزملاءه كانوا أصغر سنًّا وأطهر نفوسًا من هذه التقييمات السيئة المتبادلة؛ فلم ينتبهوا إليها وهم في عامهم الثالث الإعدادي رغم أنهم يمثلّون المجتمع المصري كله من أقصاه إلى أقصاه. فأين كانت المشكلة؟ من المؤسف أنها كانت في بعض المعلمين، ومن المؤسف أنهم جرّوا إليها التلاميذ الأبرياء جرًّا حين تفاقمت القضية، وطُلبت شهادة الصغار.
والحكاية أن (رفح) مدينة مصرية تقع إلى أقصى الشرق بجوار فلسطين التي يحتلها اليهود. وحدث في إحدى الصباحات أن مدير المدرسة لم يعجبه صوت التلاميذ في تحية علم البلاد؛ فثار فيهم صائحًا على الملأ: "يا يهود"!
لعل معظم التلاميذ لم ينتبهوا إلى هذه الكلمة الفظيعة، ولعل معظم من سمعها منهم لم يكن يدرك أبعادها الخطيرة، كان ممكنًا أن تمرّ فلا تضرّ، لولا أن فهمها المعلمون، فثار أبناء البلد من البادية والحضر ضد المدير الوافد، وأقسموا ليصعدُنّ القضية أعلى تصعيد، إداريًّا وأمنيًّا.
أخطأ المدير، وأخطأ المعلمون الوافدون حين وقفوا في صفه ملتمسين له العذر ومؤوّلين قوله تأويلا آخر يدفع عنه الخطأ ويعفيه من العقاب الواقع لا محالة إذا وصلت كلمته إلى من بيدهم العقاب.
ثم أخطأ الجميع حين أشركوا التلاميذ في هذه القضية الخبيثة وفتحوا على نفوسهم البريئة بابًا منكرًا من أبواب الشر. أما فريق أهل البلد الذين آلمتهم العبارة وفهموا أنها موجّهة لأهل رفح كلهم فقد تزعّمهم معلم من البادية كان محبوبًا وأنيقًا وشهمًا. يقول للتلاميذ: "لا نريد منكم إلا الشهادة بالحق؛ هل قال "أنتم يهود" أو لم يقل"؟ وكان موقف هذا الفريق قويًّا بقوة الحق؛ فالحق أن المدير قال فعلًا.
وأما الفريق المدافع عن المدير فكانت مهمته أصعب، وقد نُدب لها معلم محبوب حلو اللسان قوي الحُجة، فأخذ يحاور التلاميذ ويناورهم، وراح يفسّر ويفصّل، وظل يؤوّل ويحلل، ولكن دون جدوى، واختفى المدير!
انتصر فريق، وخسر فريق، ودفع المدير ثمن خطئه، وتجاوز الصغار الموقف بعفوية، وظل الرفحي يجلس بين ابن الصعيد وابن الدلتا، أصدقاء كأن العاصفة لم تهب.
المؤسف جدًّا أن هذا الموقف تكرر في الصف الثالث الثانوي، وكان للفتى الرفحي موقف مشهود عام 1990.
اعتاد معلم اللغة العربية الوافد من الدلتا في كل حصّة تقريبًا أن يحدّث الطلاب عن بطولات الجيش المصري في حرب أكتوبر1973؛ فيملأ نفوسهم حماسة وإعجابًا، والفتيان بطبعهم أشد ما يكونون إقبالًا على حديث البطولة والمجد. وفجأة.. صدمهم بقول خبيث حين قال: "أنا أتحدّث هنا، وأعرف أن حديثي يصل إلى (تل أبيب)"!. صمت الفتية حتى انتهت الحصة، وهم ليسوا تلاميذ إعدادية، بل بالغون. خلص أبناء البلد – بدوهم وحضرهم – نجيًّا يتشاورون، واتفقوا على أن يكون الرفحي هو لسانهم الذي يعرض قضيتهم على إدارة المدرسة.
كان المسؤول رجلا من دلتا مصر، وكان مشهورًا بالحزم والصرامة والتديّن، سمع من الفتى ولم يعلّق، لكن المعلم اختفى كما اختفى المدير من قبل.
وهكذا نشأ جيل في رفح المصرية هو خليط من بيئات شتّى، جيل لم تؤثر فيه كثيرًا أخطاء الكبار، وكانت حكمة المسؤولين رادعة لكل من يخطئ. ولا باس بعد ذلك من أن يخفي كل امرئ في نفسه ما يشاء.
على أن المشكلة الأبدية التي لا تزال قائمة هي كلمة (مصري). وبيان ذلك أن أهل رفح جميعهم بين اثنين: إما ابن قبيلة أو ابن عائلة، وبذلك يتمايزون ويتعارفون ويتنادون. أما الوافد من محافظة أخرى فلا يعرف الرفحيون له قبيلة ولا عائلة؛ فيصفونه بأنه (مصري)؛ فيثور هذا قائلًا: "أنا مصري.. وأنت"؟!
وهذه قضية عويصة طرفاها أهل البلد والوافدون معًا. فالأولون كان يمكنهم أن يقولوا: "ابن الوادي"، مثلا. لكن الوعي كان ولا يزال ضعيفًا. والآخرون كان خليقًا بهم أن يعوا خصوصية الثقافة ولغة التخاطب، لكن الوعي كان ضعيفًا ولا يزال.
وقد كان أهل البلد مخطئين بلا أدنى ريب، إذ كانوا لا يعون أبعاد وصف أحد بعينه بأنه (مصري)، وكأنهم هم غير مصريين! لكن الفريق الآخر كان ينبغي عليه أن يكون أفسح صدرًا، وأعمق فكرُا، وأشمل نظرة؛ فإن أهل البلد يسمّون القادم من الصعيد (صعيديًّا)، ويسمّون أهل مطروح (مغاربة)، ينسبونهم إلى أقاليمهم لعدم معرفتهم بقبائلهم وعائلاتهم. أما باقي الأقاليم فيصفون الوافد منها بأنه (مصري) لأنهم يجهلون إقليمه من بين أقاليم القاهرة والدلتا المتكاثرة والمتجاورة. والدليل على ذلك أن حدث بعد زيادة الاختلاط والتقارب والإصهار أنهم ربما استبدلوا بكلمة (المصري) كلمات من مثل: الشرقاوي والمنوفي وغيرهما.
وقد حدثت مناسبة طريفة لو تمّ البناء عليها لاطمأنت الأطراف كلها. حدث أن فتاة من الدلتا كانت تقيم في رفح تزوّجت من شاب صعيدي يقيم هو أيضًا في رفح. سافرت العروس وأقامت عند أقارب لها في القاهرة أيامًا، ثم زُفّت من القاهرة إلى الصعيد؛ فاستقبلتها النسوة قائلات: "العروس المصرية.. العروس المصرية"! ذلك لأنها زُفّت من القاهرة، والقاهرة، وجاراتها، في ثقافة المصريين جميعُا هي (مصر).



1712121086746.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى