عبدالله نيازي - الألغاز عند العرب...

قال صاحبي، أنا حجياك في هذا اليوم، قلت: في أي شئ؟ قال: في لغز لا أظنك تسطيع حله. قلت: هات عسى أن أدرك كنهه، قال: دخل أحد الأفراد إلى محل تجاري كبير آملا أن يجل له فيه مكانا يكسب منه رزق يومه، ولما دخل إلى مدير المحل أفضى بما جاء من أجله وأبدى رغبة ملحة في توظيفه، فأشار المدير إلى سكرتيره إشارة خاصة ذهب بعدها السكرتير وأتى بقدح مملوء بالماء موضوع في وسط صينية وقدمه إلى الزائر، وفكر الزائر هنيهة ثم رفع قشة ووضعها على سطح الماء الذي في القدح. فعجب المدير لفظنته وذكائه وأوجد له مكانا. . قال صاحبي ما سر هذا اللغز، وإلى أي شئ رمز قدح الماء الذي قدم إليه؟ ثم ما معنى تلك القشة التي وضعها الزائر وكانت سببا في توظيفه؟. ثم سكت صاحبي وارتسمت على وجه سمات الارتياح والنصر معا، ففكرت برهة ثم قلت، إنما القدح المملوء بالماء يعني عدم وجود مكان لكثرة الموظفين الموجودين ولا يوجد أي مكان لطالب جديد. أما القشة التي وضعها الزائر فإنه أفهم المدير بلطف إلى أن القشة لم تزد على الماء شيئا وكذلك لم تنقصه، وأنه إذا أضيف إلى عدد الموظفين الموجودين لا يؤثر فيهم شيئا. فدهش صاحبي وقال: لا بد أنك سمعته من قبل فنفيت زعمه وأبى أن يصدق.

والمطلع على أدبيات العرب يجد الكثير من أمثال هذا اللغز. وتعرف الألغاز والأحاجي وكانت العرب تزيد في إبهامها وغموضها لتفحم سائلها في فهمها وتفاخر بالتفوق عليه، وكانت هذه الألغاز سيلة للتندر وتزجية للوقت معا، والذي يشبه اللغز الذي رواه صاحبي بل ويفوقهمن حيث الوضع والمعنى ما حكاه المدائني من أن رجلا مر بحي الأحوص، فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطبا من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أتى راحلته فاستوى عليها ذهب. فنظر الأحوص والقوم في أمره فلم يدركوا سرما فعل، فقال أرسلوا في قيس بن زهير وكان فارسا شاعرا داهيا يضرب به المثل فجاء. فقال له الاحوص: ألم بخبرني أنه لا يرد عليك أمر ألا عرفت مأتاه؟ قال: فما الخبر؟ فاعلمون، فقال: وضح الصبح لذي عينين، ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهو والمواثيق أن لا ينذركم، فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فأنه يزعم قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنظلة فأنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم، وأما الشوك فأنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلوا أو حامضاً. فاستعد الأحوص وورد الجيش كما ذكر قيس.

وتفننت العرب في وضع الألغاز تفننا مدهشا وذهبت بها مذهبا بعيدا وأخذتها الشعر وِأحكمت وضعها وتركيبها. ونسوق مثالا على ذلك مقدام الخزاعي.

وعجوز أنت تبيع دجاجاً ... لم يفرخن قد رأيت عضالا
ثم عاد الدجاج من عجب الدهر ... فراريج صبية أطفالا

وقال: يعني دجاجية الغزل، وهو ما يخرج عن الغزل، ويعني بالفراريج الأقبية. . . ومن الأحاجي هذه ما كان يأتي بأول كلمة من معنى يضمره الحاجي وعلى المجيب أن يأتي به. ومنها ما رووه عن هند بنت الخس وهي قديمة في الجاهلية قالوا وكانت ساحبجة مبتذلة تحاجي الرجال إلى أن مر بها رجل فسألته المحاجاة، فقال كاد. . . فقالت: كاد العروس يكون الأمير، فقال: كاد. . . فقالت: كاد المنتعل يكون راكباً، فقال: كاد. . . قالت: كاد البخيل يكون كلبا وانصرف. فقالت له، أحاجيك؟ فقال قولي، قالت عجبت. . . قال: عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها. فقالت عجبت. . . قال، عجبت للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها. . . ثم أفحمها بكلمة بذيئة فخجلت وتركت المحاجاة.

ومن أطراف ما ذكر في هذا الشأن دخول أبي القاسم القطان على الوزير الزيني يهنئه بالوزارة فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص، فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ! إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته.

وبعض الألغاز كانت تجئ عفوا من طريق المصادفة وما كانت تقصدها العرب وهي نوعان: منها ما يقع الإلغاز فيه من حيث المعاني وكانت لا تفهم من أول وهلة، ومنها ما يقع فيه الإلغاز من حيث اللفظ والتركيب،. . . هذا وللعرب ألغاز وأحاج كثيرة لا يتسع المقام لبسطها هنا فاكتفينا بهذا المقدار ليكون على علم من أن للعرب ألغاز وأحاجي تفوق ما يتناقله الناس الآن

بغداد
عبدالله نيازي


مجلة الرسالة - العدد 782
بتاريخ: 28 - 06 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى