د. لويس عوض - المصرع الأول...

ثم حدث له حادث تافه: ففى الصباح صحا حسن مفتاح وخرج فى نزهة بحرية. وخرج مع الجميلة مدام كلاداكيس صاحبة البنسيون والجميلة مدموازيل كابتناكيس ابنة اختها الجميلة مدام فوتيس من زوجها الأول الجميل الذى كان ضابطا بحريا ثم أكله السمك فى المنطقة ما بين داكار وجزائر الخالدات. وكان الجو جميلا طبقا للخطة الموضوعة. فخرجوا فى العاشرة طبقا للخطة الموضوعة، واشتروا الساندويتشات الجميلة من تورنازاكيس الجميل طبقا للخطة الموضوعة، وبلغوا الميناء الجميل طبقا للخطة الموضوعة، وركبوا الزورق الجميل طبقا للخطة الموضوعة، وبلغوا السلسلة الجميلة ذات الركام الجميل طبقا للخطة الموضوعة. ولكنهم لم يعودوا طبقا للخطة الموضوعة. لم يعد إلا النوتى الجميل الذى لم يشترك فى وضع الخطة.

فقد ارتطم الزورق بالصخور فامتلأ بالماء ثم توارى، وعرف النوتى واجبه فسبح إلى أقرب صخرة وتشبث بها. أما حسن مفتاح فلم يكن يعرف العوم، فضرب الموج بذراعيه جملة مرات ثم اختفى تحت المياه، ثم طفا مرة أخرى وضرب الموج بذراعيه جملة مرات وسعل سعالا ملحا جملة مرات، وكان آخر ما رآه مونا ربيع جالسة بين الصخور، ثم اختفى تحت المياه ولم يعد إلى الظهور. أما كلاداكيس فقد سبحت مترا ثم تخشبت ساقها اليسرى فى مياه يناير، واستغاثت باليونانية جملة مرات، ولكن النوتى الجالس على الصخرة لم يكن يفهم اليونانية فظل جالسا على الصخرة، ثم تخشبت بقية أعضائها واختفت تحت المياه. أما كابتناكيس فلم تضرب الموج ولم تسعل ولم تتخشب ولم تستغث باليونانية لأن ثوبها كان مشتبكا بالزورق فغاصت مع الزورق إلى الأبد. اختفى كل شئ تحت المياه، إلا بعض الساندويتشات وإيشارب مدام كلاداكيس وكيس تورنازاكيس وصحيفة حسن مفتاح والنوتى الجميل الذى لا يفهم اليونانية. لقد انتهى كل شئ فى عشر دقائق. انتهى بأقل جلبة ممكنة. إن البحر أزرق وجميل، والسماء زرقاء وجميلة، والصخور سوداء وجميلة، والشمس باردة وجميلة. وبقى لكل شئ جماله رغم ما حدث. وهل حدث شئ؟ جلس النوتى على صخرته يتأمل ما حدث. ولم يبد عليه أنه يتأمل حطام الدنيا. ولم يبد عليه أنه يفكر بتاتا. لقد نازعته نفسه مرتين أن يقفز فى البحر لينقذ الغارقين، ولكنه غالب نفسه الأمارة بالخير حتى غلبها، فقد ذكر أنه أوشك أن يهلك منذ شهر لأنه أراد أن ينقذ سيدة تغرق. إنه زاهد فى بطولة لا يشهدها أحد. بل هو زاهد فى البطولة ولو شهدها جميع الناس. بل هو زاهد فى الخير الذى يورد موارد التهلكة. لقد كان يحسب أن إنقاذ الغرقى أمر هين، فلما اختبره وجد أن الغريق لا يحب أن يغرق وحده. إن عباس الصعيدى بادر فى الصيف الماضى لانقاذ تلميذ رسب من الامتحان فألقى بنفسه فى الماء. فأين عباس الصعيدى الآن؟ إن أرملته تتسول الآن بعيالها الأربعة. هلك عباس الصعيدى ونجا التلميذ. إن مشيئة الله عجيبة لا يفهما أحد. (ولكن النوتى الجميل وأرملة عباس الصعيدى واخواته جميعا لا يعلمون أن التلميذ قد رسب فى الدور الثانى، ولو قد عرفوا لزاد عجبهم من مشيئة الله). جلس النوتى الجميل على صخرته السوداء يتأمل ما حدث. ولم يبد عليه أنه يتأمل حطام الدنيا. ولم يبد عليه أنه يفكر بتاتا. ولكنه كان يفكر. كان يفكر فى نفسه وفى عباس الصعيدى، فى المرأة التى أوشك أن يهلك فى إنقاذها وفى الأرملة التى تتسول بعيالها الأربعة. إن النوتى الجميل ليس له عيال أربعة ولكنه قد تزوج البنت خديجة الحلوة بائعة الفجل فى درب المحاميد، وهو الآن يذوق عسيلتها وهى الآن تذوق عسيلته. حسنا فعل النوتى الجميل.

ولكنه هز رأسه أسفا على الشباب. ونظر إلى البحر فرآه أزرق ولكنه لم يفهم أنه جميل كذلك. ونظر إلى السماء فوجدها زرقاء ولكنه لم يفهم أنها جميلة كذلك. ونظر إلى الصخور السوداء فإذا هى لا تزال سوداء، ولكنه لم يفهم أنها جميلة كذلك. ونظر إلى الشمس فهى فى السمت باردة ، ولكنه لم يفهم أنها جميلة كذلك. لقد بقى لكل شئ جماله رغم ما حدث. وهل حدث شئ؟ قال الموج الوديع: “لم يحدث شئ”. واحمرت الشمس البيضاء وقالت فى سمتها : “لم يحدث شئ، لم يحدث شئ البتة. أنا هنا منذ الأزل، وعينى ترى كل شئ. أنا أقول لم يحدث شئ، لم يحدث شئ، لم يحدث شئ البتة. قطع منا وعادت إلينا. فلا تزعجوا سكون الطبيعة بنقيق الضفادع”. وزال عن الشمس غضبها، فزالت حمرتها، وعادت بيضاء تشرق فى صمت على العالمين.


مجلة أصوات العدد 9 يوليو 1963




أعلى