لويس عوض - فى المرأة الذهبية وسلوكها الذهبى

صانع الأقنعة: المعلم العاشر أوضح فى الجلسة السابقة أن عنيزة صاحبة امرؤ القيس وعائشة بنت طلحة صاحبة عمر بن أبى ربيعة كانتا تترددان على الكوافير وتستعملان المانيكير، وأثبت من كلام المعرى أن العرب كانت عندهم مدارس بنات. هل بينكم من ينكر هذا؟

أبو الفتوح الصباح: حتى إذا كان هذا صحيحا، فلا بد أن الحلاقات – استغفر الله- كن من النساء المؤدبات كذلك، وأن تعليم البنات كان يقف عند فك الخط وجدول الضرب وأصول الدين.

المعلم العاشر: ولكن تعليم البنين فى العصر الذهبى كان يقف أيضا عند فك الخط وجدول الضرب وأصول الدين. نحن لم نسمع عن كليات حقوق وهندسة وصيدلة وطب بيطرى ومعاهد تكنولوجيا فى العصر الذهبى، لأن الحرف والصناعات كانت تتوارث فى الأسرة وفى الورش يلقنها المعلمون للصبيان، تماما كما كان يحدث فى أوروبا فى العصور الوسطى.


على الزيبق الجوكى الشهير بالزنبرك: أبو الفتوح الصباح يقترح اذن أن يصدر مجلس الأمة تشريعين: قانون يحرم على الرجال الاشتغال بمهنة كوافير السيدات وقانون بالغاء الكليات النظرية والعملية والمعاهد العليا والمدارس الثانوية والإعدادية حتى نرجع إلى العصر الذهبى. يجب الاكتفاء بالتعليم الإبتدائى.

مجاهد بن الشماخ: الوالى وليس مجلس الأمة، فالعصر الذهبى لم تكن فيه مجالس أمة ولا هذه السخافات المستوردة التى تسمونها برلمانات.

صانع الأقنعة: نقطة نظام. هذا خروج عن الموضوع، موضوع نظام الحكم يبحث فى جلسة قادمة.

أبو الفتوح الصباح: قانون الكوافيرات نعم. أما الغاء الجامعات وكل مراحل التعليم فوق الإبتدائى، فهذا شطط واساءة فهم لمعنى الرجعية. العلم نور. وكل مزيد من التعليم نور على نور فى قلب الإنسان لا فى عقله، وإذا كان ذهب العصر الذهبى من عيار 14 فمن الأنفع أن تجعله عيار 24، وإنما المهم أن يملأ العلم قلب الإنسان بالإيمان والفضيلة والا تذهب البنات إلى المدارس الا فى الزى الرسمى لنساء العصر الذهبى، وقد نسى الميثاق أن ينص على هذا، ولا بد من استكمال هذا النقص والزى الرسمى لنساء هذا العصر الذهبى هو الفستان المقفل عند الرقبة والمتدلى حتى الكعبين والأكمام الطويلة حتى الرسغين، أما الوجه فيمكن أن يسفر أثناء المحاضرات وفى أوقات العمل الرسمية ولكن لابد من طرحة على الرأس تخفى أولا عورة الشعر ويمكن ثانيا اسدالها ورفعها بحسب الظروف. اسدالها فى الشارع مثلا، وفى السينما أو المسرح وقت الانتراكت واضاءة الأنوار. ويمكن لتسهيل هذه العملية التحكم فى الطرحة بكردون وبكر يثبت فى الخصر على طريقة الستائر. ثم لابد من قانون بتخصيص بلاجات خاصة بالنساء وبلاجات خاصة بالرجال. رحم الله الشيخ أبو العيون

المعلم العاشر: هذه صورة غير دقيقة عن نساء العصر الذهبى فمن الشعر العربى نعرف أن نساء العصر الذهبى كن يتبخترن عرايا على البلاجات وأحيانا فى غير البلاجات. خذ مثلا “المتجردة” زوجة النعمان بن المنذر ملك الحيرة. كان النابغة الذبيانى يتجول فى ابهاء قصرها فرآها تتجرد.. أعتقد أنها كانت تتجرد “داخل ” الحمام، وأن النابغة كان ينظر إليها من ثقب الباب، لأن الوصف يوحى بأنها كانت تحس بوجود متفرج، وقال النابغة الذبيانى فيها :

سقط النصيف ولم ترد اسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد

والنصيف ليس بالضبط البيكينى، ولكنه آزار أو فوطة أو ربما بشكير، وعلى أية حال فسقوطه كشف عن كل شئ، ولهذا (اتقتنا باليد). شعر القدماء يثبت أن نساء العصر الذهبى كن كنساء اليوم يتبخترن عرايا على بلاجات البصرة والحجاز. فمعلقة امرئ القيس تشير إلى مغامرة كان للملك الضليل على بلاج جلجل، وهو شاطئ بركة بجوارالبصرة فيما يقال، فهو يقول:

الا رب يوم لك منهن صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل

وتفسيرها فى كتب العرب أن أمرأ القيس لعب نفس اللعبة التى لعبها من قبله الآله كريشنا فى أدب الهنود، ففاجأ البنات وهن يغتسلن فى بلاج جلجل وأخذ ثيابهن وقعد عليها، وأبى أن يعطى كلا ثوبها حتى تخرج إليه عارية وتأخذه منه بنفسها ولو ظلت فى الغدير إلى الليل. وغلبهن الحياء أولا فمكثن فى الماء حتى ارتفع النهار، ولكنهن خفن أخيرا من الالتهاب الرئوى أو الانفلونزا الحادة على أقل تقدير فرضخن وخرجن الواحدة بعد الأخرى. وكانت أشدهن حياء حبيبته عنيزة، ولكنها فى النهاية رضخت مع الراضخات. وأحسسن بالجوع فذبح لهن ناقته فأكلوا وشربوا فياسكة من أفخر النبيذ وطربوا وغنوا ثم حملته عنيزة معها داخل هودجها بعد أن فقد ناقته، وبعد الأقداح كانت القبلات. ولم يكن هناك على بلاج جلجل بوليس آداب ليمنع كل هذا، فانظر كيف تقدمت آداب المحدثين على آداب القدماء.

أبو الفتوح الصباح: النعمان بن المنذر وامرؤ القيس عاشا فى الجاهلية، هذا لا يقاس عليه.

المعلم العاشر: نفس هذا المشهد تكرر بعد سنوات حين نزلت بلاج الغيل فى الحجاز فأخفى الشاعر ثيابهن. وإذا قلت أن النعمان بن المنذر وامرأ القيس كانا فى الجاهلية، فما قولك فى حكايات عمر بن ابى ربيعة وغيره مع نساء العصر الذهبى فى المائة الأولى، أو على الأقل قبل أن تسوء سمعة المجتمع العربى بما قاله أبو نواس وما فعله هو وجيله السئ السمعة. والغيل بركة أو بحيرة أو نبع قرب مكة. أو لعله غابة تجرى فيها جداول المياه كما ورد فى “اللسان”. وليس من الضرورى أن يكون اسم البلاج مضحكا مثل جلجل أو غريبا مثل الأنفوشى أو صعبا مثل جليمونو بولو أو أعجميا مثل الريفيرا لنسميه بلاجا. أنظر مثلا إلى بلاج جمصة الذى كنا فيه. من رآه ظن أنه فى فلوريدا أو كاليفورنيا ومع ذلك فاسمه جمصة ومحافظة الدقهلية لا تخجل من ذلك ومن أقام فيه نسى أن مصر تجرى فيها تجربة اشتراكية.

صانع الأقنعة: أنت تستطرد، عد إلى الموضوع الأصلى.

المعلم العاشر: الموضوع الأصلى؟ عمر بن أبى ربيعة كانت هوايته الخاصة التسكع فى مواقع الغيد على البلاجات، وآداب المحدثين ليست أحط من آداب القدماء. انظر إلى الدالية:

ولقد قالت لجارات لها
وتعرت ذات يوم نبترد
اكما ينعتنى تبصرننى!
عمركن الله أم لا يقتصد:
فتضاحكن وقد قلن لها :
حسن فى كل عين من تود:
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان فى الناس الحسد

فعمر بن أبى ربيعة لم يكن فقط يتلمظ بمرأى البنات على البلاج من بعيد، وكلنه كان على بعد مترين، والا فكيف استطاع أن يسمع كل هذا الحوار؟ ثم أن التقبيل نفسه فى العصر الذهبى كان على أحدث طريقة سينمائية نستهجنها فى غرام العصر الحديث، وتقصها الرقابة من أفلام (م . م) و (ب. ب) وأعتقد أنها قصتها مؤخرا من “الدولشى فيتا” ومن “هيروشيما يا حبى” وهى أن يمسك الفتى بالبنت من شعرها ويقبلها، ففى شعر عمر بن أبى ربيعة أنها:

قالت: وعيش أبى وحرمة إخوتى
لأنبهن الحى أن لم تخرج
فخرجت خوف يمينها فتبسمت
فعلمت أن يمينها لم تحرج
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

والقرون بلا مؤاخذة هى الشعور والحشرج اسم نبع. ولو أن عمر بن أبى ربيعة كان وحده فى هذا المضمار لقلنا أنها حالة فردية لا يجوز لنا أن نستخلص منها صورة عن رجال العصر الذهبى ونسائه، ولكن أمثاله كانوا كثيرين، مثلا عبد الله بن قيس الرقيات وهو أيضا من قريش كان يعشقهن ثلاثا ثلاثا، وقد سمى بالرقيات لأنه أحب ثلاث بنات كل منهن باسم رقية، وجميل بن عمر، وقد كان من الشباب الارستقراطى فى بنى عذرة، قال صراحة أنه مفضل غزو القلوب على غزو الامصار:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأى جهاد بعدهن أريد؟
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد

ونحن عادة لا نفكر طويلا فى الطريقة التى تسلق بها روميو من حديقة آل كابيوليت إلى مخدع حبيبته جوليت ليقضى معها الليل، ولا أظن أنه تسلق على المواسير، والأرجح أنه استعمل سلما مجدولا من الحبال الحريرية. تقولون: ولماذا الحريرية؟ أقول لتنسجم مع الجو العاطر فى حديقة الورد ومع الليل الساجى والنسيم الهفهاف وصدح العنادل فى الليل والقبرة مع أول أنفاس الفجر. والفرزدق مر بتجربة مشابهة فى البصرة فيما أعتقد كما يستفاد من وصفه:

هما دلتانى من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش كاسر
فقلت ارفعا الامراس لا يشعروا بنا
وأفلت فى أعجاز ليل أبادر

والأرجح أن “هما” تعود على سيدة الفؤاد وجاريتها، ولا تعود على سيدتين تربعتا على فؤاد الفرزدق أو استقبلتاه فى سرير واحد. أقول هذا على الأقل احتراما للفرزدق وصاحبته. وهو موقف يذكرنا بما كان يفعله اللورد بيرون مع الكونتيسة جيتشيولى ويبدو أن الفرزدق كان متمرنا على الصعود والهبوط بالامراس (أى الجبال)، لأن هبوطه السريع كانقضاض الباز الكاسر يثبت أنه كان يعرف موضع قبضته من الحبل كالبهلوان، ولكن لا أشك فى أن خيال الفرزدق كان خصبا إلى حد المغالاة، بل وأتهمه بالفشر على الأقل فى وصف التفاصيل. فهو يقول أنه تدلى من ثمانين قامة، وثمانون قامة معناها 140 مترا، أى أن شقة المحبوبة التى قضى معها الليل كانت فى الدور الثلاثين، ولا أعتقد أن البصرة عرفت ناطحات السحاب فى المائة الأولى لأن الأسمنت المسلح والأسانسيرات لم تكتشف الا فى القرن التاسع عشر. ثم أنه لا شك يفشر حين يقول: فقلت ارفعا الحبال حتى لا يشعروا بنا وأنه أفلت فى اعجاز الليل يبادره قبل أن يدركهم نور الفجر فيفتضح أمرهم، فلو أنه قال من هذا شيئا يمكن أن يسمع على ارتفاع 140 مترا لأيقظ العمارة كلها، بل والحى كله على الفور وطارده العسس وأهل الحبيبة قبل أن يتاح للمرأتين المسكينتين أن ترفعا الأمراس.

وغير عمر بن أبى ربيعة وجميل بن معمر وعبد الله بن قيس الرقيات والفرزدق، هناك الشاب الجميل وضاح اليمن، وهو من أبناء ملوك اليمن، والعرجى، وهو من ارستقراطية قريش، وعدد لا يحصى من شعراء العصر الذهبى يثبتون بشعرهم أن نساء العرب فى العصر الذهبى لم يكن يختلفن كثيرا عن نساء اليوم على الأقل فى الفضيلة أو فى نقص الفضيلة.

مجاهد بن الشماخ: سيدى الرئيس، هذا تخريب لتراثنا.

أبو الفتوح الصباح: كل هذه حالات فردية لا يقاس عليها والشعراء يتبعهم الغاوون.

على الزيبق الجوكى الشهير بالزنبرك: ولكنكم تدرسون هؤلاء الشعراء فى المدارس والجامعات، هل تقترح سن قانون بالغاء تدريس الأدب العربى من المدارس والجامعات؟

مجاهد بن الشماخ: مستحيل، نحن أفنينا حياتنا فى تحقيق هذا التراث ونشره، نحن نطالب وزارة الثقافة بأن تخصص كل ميزانيتها لنشر التراث العربى.

الايديولوجى الفهلوى: وما اعتراضك اذن؟ هل تطالب بنشره بشرط ألا يقرأه الناس؟

أبو الفتوح الصباح: هؤلاء الشعراء لا يعطون صورة صادقة عن حياة العرب فى العصر الذهبى، النساء الفاجرات يعشن فى كل عصر من العصور.

المعلم العاشر: لا تغضب. إن شعراء العصر الذهبى لم يكونوا يترددون على النساء الفاسدات أو على البغايا بل كانوا يترددون على سيدات الأسر وبنات العائلات، والا فما معنى كل هذا الاختلاس والتسلق والدخول من الشبابيك تحت جنح الظلام؟ وقد عرف عمر بن أبى ربيعة وحده منهن عددا وفيرا وعينهن بالاسم، مثل عائشة بنت طلحة ونعم والرباب وهند وعفراء والثريا والنوار وأسماء وليلى ولبابة ورملة وكلثم وفاطمة بنت محمد الاشعث الكندية وغيرهن وغيرهن، وعناوينهن كلها مذكورة ومحققة بالكامل فى “الأغانى” ج 1 طبعة دار الكتب وفى ديوان عمر بن أبى ربيعة تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، ومنها يتبين أنهن جميعا من أسر محترمة مع الاحترام التام لهذه الاسر، فالمثل يقول “يخلق من ظهر العالم فاسد” . كذلك كان رجال العصر الذهبى يدلعون، أقصد يدللون، نساء العصر الذهبى كما نفعل نحن اليوم بنسائنا فنقول سوسو وشوشو، كانوا يقولون “سكن” لسكينة و “بثن” لبثينة و “عز” لعزة: مثلا: “وحبك يا سكن الذى يحسم الصبرا” فى عمر بن أبى ربيعة، و”كما شغف المجنون يا بثن بالخمر” فى جميل بن معمر، “ومن ذا الذى يا عز لا يتغير” فى كثير عزة، وكانوا يضربون المواعيد كما نضربها اليوم فى الاورمان أو فى جنينة الحيوانات أو فى كازينو الشجرة أو فى استيريو الهرم، مثلا رسول عمر بن أبى ربيعة:

فأتاها فقال: ميعادك السر
ح إذا الليل سدل الاستارا

ونساؤنا الآن يستعملن الشانيل والكارفن ماجريف والاربيج والاوبيجان والشيفالييه دوشيه بمنتهى الحرص والاقتصاد ويكتفين بنقطة أو نقطتين فى الشعر أو تحت الأذن وأحيانا فى الملابس الداخلية. ولكن قارئ معلقة امرئ القيس يعرف أن نساء الزمان الغابر كن يدلقن العطور دلقا على الفراش

ويضحى فتيت المسك فوق فراشها
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وعلى الثياب :

إذا قامتا نضوع المسك منهما
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

وكانت تحدث بينهم المطاردات الغرامية، انظروا إلى هذه المطاردة التى قام بها عمر بن ابى ربيعة وصاحبه بكر على ظهور الابل وتذكروا ما يفعله شباب هذه الأيام على الأقدام بين أمريكين عماد الدين وأمريكين سليمان باشا، أو فى سيارات نصر وهى تطارد سيارات تاونوس عند برج القاهرة أو فى سكة الهرم:

شكوت إلى بكر وقد حال دونها
منيف متى ينصب له الطرف يحسر
فقلت: أشر.. قال: ائتمر، أنت مؤيس
ولم يكبروا فوقا، فما شئت فأمر
فقلت: انطلق نتبعهم، أن نظرة
إليهم شفاء للفؤاد المضمر
فلما اضاء الفجر عنا بدا لنا
ذرا النخل والقصر الذى دون عزور
فقلت اقترب من سربهم نلق غفلة
من الركب والبس لبسة المتنكر..
فقالت لاتراب لها: ابرزن اننى
أظن أبا الخطاب منا بمحضر
له اختلجت عينى أظن عشية
وأقبل ظبى سانح كالمبشر
فقلن لها: لا بل تمنيت منية
خلوت لها عند الهوى والتذكر
فقالت لهن: أمشين، أما نلاقه
كما قلت أو نشف النفوس فنعذر..
وجئت انسياب الايم فى الغيل اتقى ال
العيون واخفى الوطء للمتغفر
فلما التقينا رحبت وتبسمت
تبسم مسرور، ومن يرض يسرر
فيا طيب لهو ما هناك لهوته
بمستمع منها ويا حسن منظر

فمن كان بطيئا فى فهم الشعر فمعنى هذا الكلام باختصار أن عمر بن أبى ربيعة وصاحبه بكر أبصرا ركب المحبوبة وصاحباتها فتبعاه حتى أدركاه، ورغب أن ينفرد بها ورغبت أن تنفرد به، فانسلخت من الركب وتحقق الرنديفو.

وفى الرائية المشهورة: ” أمن آل نعم أنت غاد فمبكر” ” وهو يشبه قولنا”: أتذهب مبكرا إلى بيت البنت نعمت أو نعمات أو نعيمة” يروى لنا عمر بن أبى ربيعة كيف أنه فعل ما فعله دون جوان فى جناح الحريم بسراى السلطان فى استنبول. أى تنكر فى زى فتاة لكى يندس بينهن. كما ورد فى ملحمة اللورد بيرون، ودخل فى مأزق ثم خرج منه. ولا أعتقد أن شاعرا فى أية لغة بلغ هذه الدقة فى وصف حديث العشاق المعاميد الذى اختلطت فيه الدماثة بالشبق وهما عادة من صفات نساء الارستقراطية:

فمحييت اذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمخفوض التحية تجهر
وقالت وعضت بالبنان: فضحتنى
وانت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك اذ هنا عليك الم تخف
وقيت وحولى من عدوك حضر؟
فو الله ما أدرى: اتعجيل حاجة
سرت بك أم قد نام من كنت تحذر؟
فقلت لها: بل قادنى الشوق والهوى
إليك وما نفس من الناس تشعر
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها
كلاك بحفظ ربك المتكبر
فأنت أبا الخطاب غير مدافع
على أمير ما مكثت مؤمر
فبت قرير العين أعطيت حاجتى
أقبل فاها فى الخلاء فأكثر
فيالك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلى قبل ذلك يقصر

وهكذا قضى عمر بن أبى ربيعة ليلة ناعمة، ولكن ما أن أوشك الليل أن ينقضى حتى وقعت الواقعة فدبت الحركة فى الحى وتآهب القوم للرحيل: “فلا راعنى الا مناد: ترحلوا وقد لاح معروف من الصبح أشقر”، ولم تصب البنت بالذعر بل قالت لصاحبها: الآن وقد تنبه الناس، “أشر كيف تأمر؟” لنخرج من هذه الورطة، فعرض عليها أن “يباديهم” أى ينقض عليهم بسيفه، ولكنها رفضت قائلة: لا. هذا يثبت ما يشاع عنا، فلنفكر فى حل يسترنا لا فى حل يفضحنا، وهكذا كانت المرآة كالعادة أذكى من الرجل، ولكنى يبدو أن الخطر اقترب منها فقد شحب وجهها، ومضت إلى اختيها، أو لعلهما مجرد صاحبتين تستنجد بهما:

فقامت إليها حرتان عليهما
كساءان من خز دمقس وأخضر
فقالت لاختيها: اعينا على فتى
أتى زائرا، والامر للامر يقدر
فأقبلتا ، فارتاعتا، ثم قالتا:
أقلى عليك اللوم فالخطب أيسر
فقالت لها الصغرى، سأعطيه مطرفى
ودرعى وهذا البرد إن كان يحذر
يقوم فيمشى بيننا متنكرا
فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر
فكان مجنى دون من كنت اتقى
ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر.

ألا ترون معى أن التنكر فى زى النساء يدل على أن عشاق العصر الذهبى كانوا أكثر جراءة وأوسع حيلة من عشاق اليوم. أكاد أقطع بأن أى عاشق من عشاق اليوم لو ووجه بهذا الموقف لضربت معه لخمة ولما عرف كيف ينصرف.

الفارس المفروس: اسمحوا لى يا سادة. كل هذا طبيعى، أنتم تنسون أن فن التصوير وفن النحت اندثرا بين العرب بانتهاء الجاهلية الوثنية. فطبيعى أن يقوم الشاعر مقام الفنان التشكيلى فيرسم “بورتريهات” لسيدات العصر الذهبى بالقلم والكلمة بدلا من الرسم بالفرشة والألوان. وهذا يفسر انتشار شعر الغزل فى العصر الذهبى وفى “الأغانى” ج 6 ص 219 أن أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان وزوج الوليد بن عبد الملك ارسلت إلى كثير عزة وإلى وضاح اليمن تقول: “انسبا بى”. والنسيب أو التشبيب نوع من الغزل، فلنقل أنه وصف محاسن المرأة، وأن أم البنين لم تكن تطلب من الشعراء أن يتغزلوا فيها حقا، وأنما أرادت منهم أن يصفوا محاسنها، أى أن يرسموا لها بورتريه أو ينحتوا لها تمثالا بالكلام على غرار ما يفعل الفنانون، وقد خاف كثير من صولة ابيها فلم يصفها بل وصف جاريتها، أما وضاح اليمن فقد شبب بها فنال عقابه، تربص به رجال الوليد وقتلوه بدفنه حيا.

المعلم العاشر: ربما كان هذا صحيحا، ولكنه لا يفسر المواعيد الغرامية فى السرح والغيل ولا المطاردات ولا التنكرات والتسلق بالحبال لولوج المخادع ولا المشاورت الطريفة بين البنات والبنات وبين الرجال والرجال فى أفضل الطرق لدخول دنيا الحب والخروج منها، أن دراستنا للأدب العربى تقف دائما عند زخرف الألفاظ ولا تتوغل فى المعانى الا نادرا ولا تحاول أن تربط بينه وبين الحياة التى انتجته وهذا هو سبب كراهية تلاميذنا لدراسة الأدب العربى شعرا ونثرا رغم الجهود الجبارة التى نبذلها لنشره على أبنائنا فى المدارس. أنا مثلا أعتقد أن الأدب العربى متخلف جدا عن الأدب اليونانى، ولكنى أعتقد أنه لا يقل شموخا عن الأدب اللاتينى بما فى ذلك فرجيل وهوراس وأوفيد. ولكننا حنطناه لاعتقادنا أن التراث لا يكون تراثا إذا عاش معنا وعايشناه.. أن التلميذ المصرى مثلا لا يعرف أن أبناء المائة الأولى كانوا مثلنا أناسا يحبون ويعشقون ويتألمون ويفرحون ويقتلون ويزنون ويدسون ويتأمرون ويغدرون ويخلصون وأنهم كانوا مثلنا يحبون الجد ويتجهمون ويحبون الحظ ويفرفشون، وأنه لمع بينهم آقطاب المغنين مثل ابن سريج والغريض ومعبد، وكلهم من فنانى الحجاز تألقوا فى المدينة المنورة تألق محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش فى القاهرة الآن. قالوا وكان رابع هؤلاء العباقرة حنين الحيرى فى العراق، فكتب ثلاثتهم إليه خطابا يدعونه فيه لزيارة المدينة. قالوا: نحن ثلاثة بالحجاز وأنت وحدك بالعراق، فأنت أولى بزيارتنا، والمهم فى هذا ما جاء فى ” الأغانى” من وصف الهستريا التى استولت على أهل المدينة عندما علموا باقتراب موكب الموسيقار حنين هذا، وهى تشبه الهستريا التى تستولى على أهل لندن أو باريس أو نيويورك فيتجمعون بالالاف فى المطارات حاملين الكورونات وكارنيهات الاتوجراف والكاميرات كلما نزل الخنافس أو جونى هاليداى أو الفيس بريسلى، فيتشنج الرجال ويغمى على النساء. قالوا: فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم أكثر حشرا ولا جمعا من يومئذ.هذه صورة من صور الحياة اليومية فى العصر الذهبى تدل على أن رجاله ونساءه كانت لهم قلوب مثل قلوبنا. فلم كل هذه الجهامة التى ترتسم على وجه أبو الفتوح الصباح من أن نساء العصر الذهبى كن مثال الفضيلة وأن نساء عصرنا مثال الرذيلة. هل اقتنعت يا سيدى؟

مجاهد بن الشماخ: كلا، كلامك غير مقنع، بل هو اشبه بسمادير المخمورين. وأنا لا أفهم كيف يؤذن لدعى جاهل مغموز ملموز شرلتان مثلك أن يتكلم فى تاريخ العرب وأدبهم وأنت الذى دربك المبشرون والمستشرقون عملاء الاستعمار الصليبى لافساد حضارة العرب وعقيدة العرب.

صانع الأقنعة: محال أن أسمح بهذا السباب، إنه خروج على الميثاق، أن كانت لديك وجهة نظر فاشرحها ولكن حذار من التطاول والا اخرجتك من الجلسة. ارى من حالتك النفسية أنك إذا بدأت الكلام فلن تتوقف. والوقت أزف ، فإلى اللقاء فى الجلسة القادمة

رفعت الجلسة..


لويس عوض (من كتاب المحاورات الجديدة.. أو دليل الرجل الذكى إلى الرجعية والتقدمية وغيرهما من المذاهب الفكرية)





أعلى