د. لويس عوض - فن الابتسام...

منذ أن مضى ابراهيم عبد القادر المازنى انطوى فن من فنون الأدب فى النثر العربى كان يشيع فى حياتنا البهجة ويعلمنا الابتسام. ولست أقول أن هذا الفن غريب تماما فى الأدب العربى، فألوانه الغامقة معروفة لنا فى آثار أدب الفكاهة وأدب النكتة وأدب السخرية وأدب الهجاء وكل أدب هازل أو ناقد يدفع إلى الضحك أو يدفع إلى الابتسام. نجده فى ملح الظرفاء وفى النواسيات وفى فكاهات ابن الرومى وفى نوادر ألف ليلة وليلة وما بها من أوصاف ماجنة، كما نجده فى الهجاء الساخر الكثير الذى اشتهر به الأدب العربى قديمه وحديثه من الجاهلية إلى المتنبى، ومن المتنبى إلى فارس الشدياق. والمهم فى كل هذا أن نذكر أن أدب الضحك كثير فى الأدب العربى، وأما أدب الابتسام فهو قليل. والمهم أيضا أن نذكر أن الأدب العربى لم ينح منحى غيره من الآداب الكبرى فيميز بين ألوان الهجاء الكثيرة. فهو يسمى هجاءً السبّ الصريح المقذع الموجع الغاضب القارس العابس الذى لا أثر فيه للفكاهة ولا يتخلف عنه الا التحقير واثارة التقزز. وهو يسمى هجاءً أيضا التعريض الهازل القائم على السخرية أو المعابثة، يستوى فى ذلك أن يؤدى إلى الإضحاك أو يؤدى إلى الابتسام، والهجاء العربى ككل هجاء فى العالم اساسه النقد، نقد الاشخاص أو نقد الطبائع والأحوال فى عمومها، ولكن هناك فرقا كبيرا بين النقد الصريح المباشرالذى يلهبه الغضب وبين النقد الساخر أو المتهكم الذى تلهمه مرارة الشعور. والمهم فى كل هذا أن نذكر أن الهجاء العربى كان فى مجموعه يجنح إلى الهجاء الغاضب أكثر مما يجنح إلى الهجاء الساخر أو المتهكم. رغم أن السخرة والتهكم شائعان فيه.

فالمتنبى مثلا حين يقول “نامت نواطير مصر عن ثعالبها” أو حين يقول: “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم” لا يسخر ولا يتهكم على أمة بل يسبها سبا صريحا، ولكنه حين يقول “لا تشتر العبد إلا والعصا معه”، أو يقول “من علم الاشفر المخصى مكرمة؟” انما يسخر من كافور ويتهكم عليه رغم أنه يسبه سبا صريحا. والمتنى ايضا حين يقول “والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة لعلة لا يظلم” لا يسخر من الطبيعة البشرية كلها وانما يسبها سبا صريحا. ومن هذا ترى أن الهجاء قد يكون لأمة أو لفرد أو للطبيعة الانسانية كلها، وهذا اللون الأخير كثير فى الأدب المصرى.ومنه ايضا نرى أن الهجاء قد يكون بالنقد السافر المثير للسخط أو الغضب أو الضيق، وقد يكون بالنقد الساخر أو المتهكم الباعث على الضحك أو الابتسام. والصورة المشهورة التى يرسمها ابن الرومى حين يقول فى رجل “قصرت اخادعه وطال قذاله فكأنه متربص أن يصفعا” من هذا النوع الأخير الذى يعتمد فى الإضحاك على التصوير الكاريكاتورى.

وليس فى نيتى هنا أن اتوسع فى شرح الفرق بين النكتة والفكاهة كما كان العقاد والمازنى يفعلان فى شرحهما لنظرية هازليت فيما يسمونه بالانجليزيا “الويت” و “الهيومور” ، فالنكتة والفكاهة كلمتان غير محددتى المعنى فى اللغة العربية حتى يمكن أن نبنى عليهما نظرية فى فلسفة الضحك أو الابتسام، وإن كان من الممكن تحميلهما ما نشاء من المعانى لنعطيهما قيمة المصطلحات الاساسية فى علم الجمال ولكنى اكتفى هنا بقولى أن باب الهجاء باب واسع، وأن فيه طبقات كثيرة بعضها راق وبعضها متخلف وبعضها بين بين، واكتفى هنا بقولى أن فن الابتسام ارقى مرتبة من فن الضحك، كما أن فن الضحك ارقى مرتبة من فن السب الصريح، فالفرق بين الابتسام والضحك اشبه ما يكون بالفرق بين السعادة واللذة، الأولى دقيقة ولطيفة ودائمة، والثانية عنيفة وعصبية وموقوتة كذلك الفرق بين الضحك الساخر أو الضحك المتهكم وبين السب الغاضب الساخط هو الفرق بين العاطفة الموضوعية والعاطفة الذاتية أو بين المائل المنعكس كما يقولون وبين المباشر الغليظ.

فما السخرية أو التهكم الا ألوان من الغضب هدأت وصفيت من خشونتها وذاتيتها سواء فى الاحساس أو فى الفكر، فمكن الهدوء والصفاء صاحبها من أن يتعمق اسباب الغضب ويتقصى معادلاته الموضوعية وكلما ازداد الهدوء والصفاء ازداد العمق وازدادت القدرة على تقصى أسباب الغضب والهجاء وازدادت القدرة على الرؤية الموضوعية

ارقى أنواع النقد والهجاء اذن ما بعث على الابتسام واكثرها تخلفا وفجاجة ما كان سبا صريحا، وبينهما ما أثار الضحك الواضح العنيف. وهو عكس الفكرة الشائعة عن الكوميديا، وهى الاطار الشامل للنقد والهجاء فأكثر الناس يعتقدون أن أعلى أنواع الكوميديا ما فجر طاقة الانسان على الضحك الهستيرى العالى الذى تسيل فيه الدموع من العيون، وان اردأها ما عجز عن الاضحاك الشديد ولم يبعث إلا على الابتسام والحقيقة هى عكس ذلك على خط مستقيم، لان الإضحاك يعتمد على التشويه المفتعل المجسم أكثر من اعتماده على التشويه الطبيعى المألوف، فهو يعتمد على النقائض والمفارقات الكاريكاتورية اكثر من اعتماده على النقائض والمفارقات الأمينة.

فالابتسام اذن فن صعب وليس فنا يسيرا، وهو أصعب من فن الضحك كما أن منال السعادة أصعب من منال اللذة، ولست ازعم بهذا أن الاديب العربى لا يعرف فن الابتسام أو لم يعرفه الا حديثا. ففى أدب الهجاء العربى، حيث لا يكون عنيفا أو مقذعا أو صريحا نماذج رائعة من أدب الابتسام، ولكن كل ما قصدت إليه هو أن المازنى، إن كان له فضل على الأدب العربى، فهو أنه عمق فيه أدب الابتسام واثراه وجدد فيه امكانيات لا تحصى كل هذا مقدمة اوردتها لاصف لك آخر كتاب من كتب يحيى حقى وهو كتاب “فكرة وابتسامة”. فمنذ أن انطوت صفحة المازنى وجيله من الظرفاء والمتظرفين ذبل أدب الابتسام حتى كاد أن ينقرض. ولكن هذه المدرسة الأدبية وجدت فى السنوات الأخيرة كاتبين لامعين جددا شبابها، كل على طريقته الخاصة، هما محمود السعدنى ومحمد عفيفى، ثم جاء يحيى حقى أخيرا فأضاف إلى ما فعلاه شيئا مذكورا. من أجل هذا كان طبيعيا ومنتظرا أن يهدى يحيى حقى كتابه الصغير الأخير “إلى محمد عفيفى ومحمود السعدنى.. لأنهما يحملان لواء الفكاهة فى بلدنا ويشيعان المرح فى قلوب أهله” ولو أن يحيى حقى كان يستخدم هذه اللغة التى استخدمها لقال : لانهما يعلمان الناس الابتسام

والحقيقة التى يجب أن ندركها فى الكلام عن هؤلاء الثلاثة، أنهم رغم انتمائهم إلى تيار واحد هو تيار الأدب الفكاهى، فإنهم فى واقع الأمر ليسوا أبناء مدرسة واحدة ولا هم أصحاب فن واحد. وأعتقد أن الأوان قد آن لكى يهتم النقاد بتحليل أدب الفكاهة بيننا جملة وتفصيلا. بما فيه أدب الكوميديا، لا تحليلا اجتماعيا أو تحليلا فلسفيا، ولكن تحليلا فنيا. فنحن نعيش الآن فى مرحلة انتعاش كوميدى، وأول ظاهرة تستحق التسجيل فيه هى أن روح الفكاهة قد انتقلت من النثر وتحددت فى المسرح، لولا محمود السعدنى ومحمد عفيفى ويحيى حقى مؤخرا وقلة غيرهم لقلنا أن مدرسة الابتسام فى النثر العربى سارت إلى زوال بعد ان بلغ فيها المازنى قمما عالية. نعم آن الآوان ليفسر لنا النقاد الفرق بين منهج كل من هؤلاء فى فن الابتسام.

اما يحيى حقى، فأعتقد أنه رغم تقصيره عن صاحبيه فى الرؤية الفكاهية الشاملة التى لا تكاد تقع على شئ فى الحياة الا وترى ما فيه من نقص ومن نقائض ومن مفارقات، ورغم تقصيره عن صاحبيه فى القدرة على ابتكار النقص والنقائض والمفارقات حيث لا وجود لها فى الحياة فهو اقرب منهما إلى روح الابتسام وبالتالى أقرب منهما إلى النقد الراقى العميق. وهذا الوجه فى يحيى حقى ليس أهم وجوه أدبه، فيحيى حقى له خصائص اساسية جادة عرفناه بها طول حياته الفنية الخصبة هى خصائص الفنان الذى يخلق بالبناء والتركيب ولا يخلق بالنقد والتحليل، ولذا فان اتجاهه فى الفترة الأخيرة إلى أدب الابتسام أمر يستحق الدراسة حقا فى هذا الكاتب الذى يميل إلى العبوس اكثر مما يميل إلى الابتسام، ويميل إلى الماساة أكثر مما يميل إلى الملهاة.

وكتاب “فكرة وابتسامة” عبارة عن لوحات متتابعة ليست بينها صلة عضوية الا أن المفكر واحد والمبتسم واحد. وهذه اللوحات ليست جميعا على درجة واحدة من الهدوء والصفاء. وليست على درجة واحدة من ذلك الابتسام الوديع المشبع بالعطف، فإن منها لوحات تخفى وراء البسمة مرارة وغيظا وعواطف اخرى كثيرة أقرب إلى المآسى الفاجعة منها إلى التهكم أو السخرية.

انظر مثلا إلى لوحاته التى يرسم فيها النساء، ولا سيما لوحة “فاتن” ولوحة “لدغ اقسى من الصدغ ” ، فإنك لا تعرف بعد أن تفرغ من قراءتها أتبتسم أم تعبس. ففى لوحة “فاتن” يصور لنا يحيى حقى شخصية امرأة افسدها الشبع والبطر فى مواجهة خادمة جديدة تفنن يحيى حقى فى وصف قذارتها وإملاقها وقد اجتذب السيدة الموسرة البطرة فى الخادمة الجائعة القذرة رضاها بأجر شهرى اقل من القليل، وهو “أجر تصرف مثله وأكثر منه فى سهرة واحدة”، ولكن الخادمة رضيت به لشده املاقها، فلما قررت السيدة استخدام الخادمة، وكانت تحمل رضيعتها “فاتن” على صدرها، امرتها بأن تتخلص من ابنتها قائلة: “احنا عاوزينك وحدك، شوفى لك صرفة فى بنتك، انا مش عاوزة وساخة فى البيت” وعبثا حاولت الخادمة استعطاف سيدتها لتأذن لها فى استبقاء بنتها التى لا تعرف لمن تعهد بها اثناء عملها، فجاءها الجواب الذى لا يلين: ” ده شغلك مش شغلى” تارة و “آهى زيها زى غيرها” تارة أخرى. وأخيرا: “اشاحت الست بوجهها وتناولت قطعة من الشيكولاته واخذت تمضغها كأنما عز عليها أن يضيع لها وقت فى انتظار رد تملكه خادمة

مدت الأم اصبعا نحيلا لأنه جميل إلى شفة ابنتها تحاول أن تداعبها لتبتسم وتمتمت لها بحنو عميق:

– لو كنت تموتى.. “

وعند هذه النهاية الفظيعة لا نعرف انبتسم ام نعبس لهذا الوضع المجافى لأبسط معانى الانسانية، حيث يتمنى فقراء الناس الموت ليتخلصوا من مشاكل الحياة. واذا كان يحيى حقى قد نجح حقا فى أن يحملنا على الابتسام بما أظهره من لذة فنية فى وصف ذلة الخادمة وبطر السيدة فإنى اعتقد أنه قد هز فينا اوتارا حزينة حتى بنى المفارقة على التعارض بين حياة الأم وحياة ابنتها. أما المفارقة الكبرى التى رمى إليها برسم هذه اللوحة فهى أن صاحبة هذا القلب الضارى الغليظ الخالى من ابسط مظاهر الرحمة امرأة لا رجل، فالمأثور عن الإناث انهن يسلن رقة أمام الأمومة، حتى ولو كنّ من اناث الحيوان. وأنكى من هذا وأشد نكرا أننا نصدق يحيى حقى حين يقول لقارئه: “سأقدم لك بلا مبالغة لوحات شهدتها بعينى تقززت لها نفسى اشد التقزز، قوام كل لوحة منها امرأة، وهذا هو سبب بلواى” نعم، نعلم أن يحيى حقى لم يضف من عنده إلى الحياة شيئا، ونعلم أن “التقزز” هو الشعور الوحيد الذى يمكن أن تولده هذه الصورة الواقعية الفظيعة، ولكن السؤال الذى يجب أن نسأله: “أى نفس تشهد كل هذه المرارة ثم تحتفظ بقدرتها على الابتسام، اللهم إلا اذا كان قد ترسب فيها أن ابناء الحضيض يتوالدون كالارانب ويموتون كالذباب، وأن مشاعرهم وأحاسيسهم ازاء الحياة والموت والتوالد من مشاعر الأرانب واحاسيس الذباب”

ولكن ما ان نتقدم فى كتاب يحيى حقى حتى تخف المرارة ويكثر الابتسام: الابتسام أمام نقائص الانسان ونقائضه الصغرى، أو نقائصه ونقائضه الكبرى التى لا تترك فى النفس غصة ولا تمزق الفؤاد، فهناك لوحات ولوحات حول بخل الناس أو تحايلهم لاقتناص مسرات الحياة ومنافعها، وهناك لوحات ولوحات حول قلة ذوق الناس وانانياتهم وتفاهاتهم. هناك صورة ممتازة عن متسولى الانفاس من الخرمانين، ومتسولى العشاء من الشرهين وقناصى المال من الغشاشين، وهكذا دواليك . وحين تختفى المرارة تماما ولا يبقى الا الابتسام تحس احساسا واضحا بأن يحيى حقى قد نجا من ذلك الخطر الأكبر الذى يتعرض له ادباء الهجاء الساخرين، الا وهو مرض التشاؤم الذى يجعلهم يرون كل شئ بمنظار قاتم وتحس احساسا واضحا بأن قلب يحيى حقى يحمل لنقائص الانسان ونقائضه عطفا كثيرا ورثاء غير قليل. فهو يهجو الانسان ولكن هجاء الانسان للانسان لا هجاء الانسان للحيوان، وهو يهجو المدينة ولكن هجاء المتمدن المهذب العقل والنفس لابناء فصيلة لا هجاء المتمدن المزدرى لانحطاط ابناء الفطرة وعبيد الغريزة.

ولقد احسن يحيى حقى صنعا، وهو الكلف بأناقة اللفظ واناقة المعنى، حين جعل كل حواره بلغة العامة وحين جنح فى كثير من أوصافه وبسرده للغة الكلام من دون لغة الكتب والقواميس. ففى كتابه الصغير هذا مئات ومئات من المفردات العامية التى لو اراد تقويمها بالفصحى لشق بطون المعاجم واستخرج منها غريب الكلم الذى لا يفهم له قارئ معنى والذى يضيع على الكاتب فرصته فى تصوير الحياة على علاتها. وليس لى من تعليق على هذا الاجتراء من يحيى حقى بالذات، وهو صاحب النظريات المعروفة فى اللغة الوسطى، الا أن فطرة الفنان السليمة فيه قد غلبت فيه أفكاره الاجتماعية المكتسبة فهدته إلى أن يصور الحياة بلغة الحياة.




* (من كتاب – دراسات فى النقد والأدب)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى