كتاب كامل مصطفى الحاج حسين - (ليلةٌ في وطني).. مجموعة شعريّة

* ليلةٌ في وطني..
يحتمي الجدارُ
بآهاتي
والسّقفُ يتغلغلُ
بأنفاسي
ويلتصقُ البابُ الموصدُ
بظلِّي
والنّافذةٌ تدلُفُ إلى قلبي
النّسمةُ خائفةٌ
والضّوءُ يرتعشُ
والمرآةُ تندسُّ بقلقي
وكتبي المركونةٌ في الزّاويةِ
تسألُني:
ما مصيري إن تعرّضتُ للإعتقالِ؟!
حتّىٰ أنًّ قلمي
كان منكمشاً يقرُضُ آفاقَهُ
ذعرٌ يتصاعدُ من الأرضِ
والأريكةُ مُنهارةُ الأقدامِ
والتّكايا تنشّفُ دمعتُها
يتجوّلُ الخوفُ
في غرفتي
ويثبُ سريري
كلّما
سمعَ ضجَّةً
يشهقُ المشجبُ
وثيابي المعلّقةُ تخطفُ جسدي
والصّمتُ مصفرُ الوجهِ
واجمُ الإحساسِ
يلتصقُ بالجدرانِ
وأنا أحفرُ هواجسي
لأختبئَ من الانهيارِ *
إسطنبول
* هالاتُ الجحيمِ..
جسدُ القبلةِ متعبٌ
يحتاجُ إلى نومٍ عميقٍ
ينسابُ كفراشةٍ عرجاءَ
يتعثَّرُ برحيقِ الشّفتينِ
وتسقطُ من دمِهِ الآهاتُ
ملساءَ النّارِ
ناعمةَ الرّملِ
بيضاءَ الظّلامِ
تحدّقُ في عُنُقِ الفراغِ
وتشتهي كفناً منْ رمادٍ
تتزيّنُ به أمامَ العشقِ
القبلةُ تنهشُ سرابَ الخدّينِ
تمضغُ زَغَبَ النّورِ
وتلعقُ رسغَ الدّمعِ
تهيمُ في صُدغِ الاكتواءِ
عابسةٌ في ارتعاشِها
منداحةٌ في أرجاءِ الحنينِ
يعلوها شغَفٌ جارفٌ
نحو هالاتِ الجحيمِ.*
إسطنبول
* أبوابُ العدمِ..
حِممُ السّحابِ انتشرتْ
في وِديانِ عُزلتي
صار الحزنٌ يعدو
على رمالِ صرختي
وذاكرتي تركضُ
بما فيها من مقابرٍ
الوجعُ معطّرُّ النّارِ
الدّمعةُ مكحّلةُ العينَيْنِ
البسمةُ مهتوكةُ الفخذينِ
والنَّسمةُ جافّة الشّفتينِ
الأفقُ يحبو فوق رمادي
وجبالُ أنيني غارتْ في دمائي
السّماءُ تُباعُ في سوقِ النّخاسةِ
والأرضُ تَمتهِنُ البغاءَ
سفنٌ تطفو فوقَ زبدِ الكلامِ
وبحارٌ تلعقُ حنينَ النّوارسِ
وصوتي يعلوه الغبارٌ
والشَّمسُ عالقةٌ في ثقبِ الفجرِ
يباسٌ كلُّ ما يَنبُتُ
في حقولِ الألمِ
والعدمُ يشرعُ أبوابَهَ
لملاقاةِ خطايّ.*
إسطنبول
* أبجـديَّةُ الغفـران..
أمِّي..
التي إن أشارت بقلبِها
إلىٰ جهنّمَ
ستوقفُ اللهبَ عن روحي
وتفتحُ لدمعتي
آفاقَ الجنةِ
وقصورَ النّدى
المسيّجةَ بالنّورِ والحنان
أمِّي رحيقُ البهاءِ
وقنديلُ السّماءِ
ومرضعةُ الملائكةِ
وقوّةُ صبري
على عذاباتِ الغربةِ
وملهمةُ انتظاري
على تحمّلِ الموتِ
ومعاندةِ الانهيار
ستصعدُ عندكِ ابتهالاتي
وتلامسُ سعتُكِ دروبَ اختناقي
أنتِ يا سدرةَ الموجِ
متى ستحطُّ على شطآنِكِ
أجنحةُ أشواقي؟!
وتعودُ لغتي إلى حضنِكِ
تتعلّمُ أبجديّةَ الغفرانِ
والمحبّة؟.*
إسطنبول
* سـواد انتصارِهم..
أتفحّصُ عمري
حرمان
إثرَ غدرٍ
إثرَ حبٍّ جارفٍ
إثرَ موتٍ
ذاكرتي أثقلُ منّي
وأوجاعي جبلٌ من أصدقاءٍ
انفضّوا عنّي
وتركوني للهشيمِ
أفتحُ عروةَ الأسئلةِ
لماذا أياديهم
لم تكن بيضاءَ؟!
كانت ملطّخةً بالخيانةِ
وأنا كنتُ
أبذرُ في قلوبِهِم
بسمتي الدّائمةَ
وقصائدي الدّافئةَ!
رموني بالجفافِ
حين أقدمتُ على النّدى
واتّخذوا من قلبي
مرمى لخناجرِهِم
بحجّةِ المداعبةِ
أبعدوا عنّي الدّروبَ
حتى أوصلوني لكفِّ الهاويةِ
وكانت سخرياتُهُم
تضحكُ سوادَ انتصارِهِم
فازوا على دمعتي
تفوّقوا على ضعفي
وجعلوا من قصائدي
أمثولةً على جنوني.*
إسطنبول
* الفجـر..
أعشبَ الصّبرُ
وأورقَ الانتظارُ
وَنَمَت إرادةُ النّدى
صارَ للنبضِ عنفوانٌ
وللبسمةِ عضلاتٌ
وللهمسةِ أجنحةٌ
الوقتُ أخذَ ينهضُ
وانبثقَ الضّوءُ من كلِّ صوبٍ
الأفقُ اتّسعتْ أبوابُـهُ
والمدى امتدّتْ رحابُـهُ
والسّماءُ ارتفعتْ قامتُها
دبَّ في الصَمتِ الكلامُ
وعادتْ للبحـرِ أمواجُـهُ
وتزيّنتِ الشّطآنُ بالموسيقا
عادتِ الأشجارُ تنتصبُ فوقَ الأرضِ
وصارت تثمرُ الأملَ
الرّاياتُ ترفرفُ فوقَ الفرحةِ
والوطنُ أخذَ يتعافى
من حربٍ هتكتْ حرمةَ الشوارعِ
واغتصبتْ طهارةَ البيوتِ
قتلتْ معمارَ القلعةِ
وفتكتْ بالخبّـازِ
أدمتْ وجـهَ المُزارعِ
وأعدمتِ الطّبيبَ
وأحرقتْ عاملَ التّنظيفاتِ
وشرّدتْ مَن كان يرفضُ الحربَ
دمّرتْ أسوارَ السّعادةِ
وحطّمتْ براءةَ الأطفالِ
ماتَ مَن كانَ يصنعُ الحياةَ
لكنّ الأملَ ظلَّ يقاومُ
والفجـرُ يصرُّ على المجيءِ.*
إسطنبول
* تحوّلات..
حزينةٌ هيَ الينابيعُ
تجري صوبَ جفافٍ لئيمٍ
ليبرعمَ الجحيمُ علىٰ ضفَّتَيها
وتنموَ أشجارُ الرُّعبِ
وتثمرَ فواجعُ وقتلىٰ
ومشرّدون
في أصقاعِ الجوعِ العنيفِ
حيثُ يأكلُ النّدىٰ
قممَ قحطِ المدىٰ المجفّفِ
وأطرافَ الجبال الزّائلةِ
عن أرضٍ معمّرةٍ بالاستغاثاتِ
والحناجرِ النّازفةِ
يهطلُ منها الشّللُ
وبحارٌ مِنَ اللاجئينَ
يتوزّعون عند قارعاتِ العدمِ
لتمتدَّ لهم أيدِي العبثِ
تزيلُ عنهم نبضَ قلوبِهم
وتمحو قسماتِ قاماتِهِم
وترميهم في مذلّةٍ
سحيقةِ المعاني
وتعطيهِم أسمـاءً باليةَ النّسيجِ
فيتحوّلُ مصطفىٰ
إلىٰ مكتفىٰ
والنّدىٰ
إلىٰ مرتدىٰ.*
إسطنبول
* ملـحُ النّـدى..
يتألَّـمُ المـاءُ
ويبكي الحجرُ
وتشقُّ السّماءُ ثوبَها
وتنفضحُ عورةُ الفراغِ
حينَ يكشفُ الزّمانُ
عن قبحِ لياليهِ
حيثُ الجدرانُ تتلعثمُ
والرّيحُ تلعقُ ملحَ النّدى
في زنازينِ الانتظارِ
والأفقُ مزرابُ الخوفِ
ينصبُّ على عشبِ الأنينِ
والبرقُ مكسّرُ الأنيابِ
يشقُّ رحابَ العويلِ
في برزخِ الرّعدِ المتجمّدِ الدّمِ
العابثِ بدروبِ الجحيمِ
التي تمتدُّ إلى أقاصي لهفتي
الصاعدةِ
من قيعانِ خلجانِ حيرتي
وقتَ أشواقي تنهارُ
فوقَ ركامِ الصّدى
الجامحِ للسكينةِ العذراءِ
في أرضِ البوحِ المعتمِ
باحنحةِ التّشردِ
على رقعةِ الاختناقِ
العامرةِ بالويلاتِ
والرّاياتِ النّازفةِ حسرةً
وانهياراً سقيمَ الحنينِ.*
إسطنبول
* ركـبُ السّـرابِ..
تمسَّكتِ الأرضُ بصرختي
ارتفعتْ
تسابقُ حنيني
كانت دمعتي تفيضُ موتاً
على عشبِ تشرُّدي
والمنفى واضحُ القسوةِ
يُفصحُ عن فظاعةِ المصيرِ
وقلبي يمشي بلا قدمينِ
في صحراءِ لوعتي
أحملُ هضابَ أوجاعي
ومرتفعاتِ آلامي
ومنحدراتِ انْكساري
ووديانَ حيرتي
ودمي يلهثُ
و مخاوفي تستغيثُ
من عراءٍ
تنبتُ في رملهِ أعاصيرُ الوحشةِ
ودروبِ الانتحار
أنكبُّ على جمرِ الحُلُمِ
أقبّلُ أقدامَ العدمِ
لأمضيَ في ركبِ السّرابِ
ظامئَ البصيرةِ
متعطشَ الرّؤى
متشقّقَ الوجدانِ
أسألُ وطني عن اسمي
وأستفسرُ من الخرائطِ
عن عنوانِ قبريَ الأخيرِ.*
إسطنبول
* نُـذُر..
نذرتِ السّماءُ نفسَها
لمَن يوصلُ لها
حفنةً من ترابِكَ يا وطني
ستقدِّمُ له الشّمسَ
والقمرَ
وجميعَ ما تملكُ من نجومٍ
ومجرَّاتٍ
وغيومٍ/ وسحبٍ /وهواءٍ
وندىً معافی القلبِ
وسليمِ الرّوحِ
وستعطيهِ الآفاقَ
ورحابَ الصّدى
والمدى العامرَ بالحنينِ
وذرا الأحلامِ السّابحةِ
في سعةِ الجهاتِ
وبسماتِ الشْفقِ
وهمساتِ الليلِ
ودفءِ الأثيرِ
ستدفعُ حياتَها
مقابلَ أن تحطَّ رأسَها
على حفنةِ ترابٍ منكَ
يا وطني المفقودَ
والغارقَ بالحروبِ
والدّمِ.*
إسطنبول
* سِـراديب الـرّؤى..
تتدلّى السّمـاءُ
لترقدَ بدمعتي
والشّمسُ تتغلغلُ
في بُحّةِ انْكساري
الهواءُ جامدُ الملامحِ
يزحفُ على تشقّقِ آلامي
والسّحابُ بلا أقدامٍ
ينحني لِـلَهيبِ انْتظاري
والأرضُ لا تّتسعُ لِـتشرُّدي
أمشي فوقَ السّديمِ
دروبي وعرةٌ بالجهاتِ
ألمحُ قبراً يصطاد قوايَ
أبصرُ ناراً تشتهي أمنياتي
وأشاهدُ أفقاً مسجّى
في دمي
وتراني أشرعتي
بلا فانوسٍ يرشدُ وميضي
أهيمُ في قلقي
أطرقُ أبوابَ الموجِ
يقنصُني صدى حنيني
فينزفُ ندىٰ الشّطآنِ
براكينَ عَـراءٍ
جامحَ القسمـاتِ
متصلبَ الأصابعِ
فأحفـرُ مخبأي
في سِـراديبِ الـرُّؤى
وأسـكبُ حـيرتي
في ينابيعِ السّرابِ
لِـيَشربَ الكونُ
عصيرَ احْتضاري
ويلثمني العـدَمُ
وتمسك بيدِيَ الجحيمُ.*
إسطنبول
* هحيرُ السّرابِ..
يجلسُ الوقتُ على نبضي
ودمي مسحوقُ النّوافذِ
يختبئُ تحت حطامِ أنيني
السّماءُ تتّشحُ بآهتي
والنّدى يرتدي عويلي
ويتدفَّقُ من بركان هواجسي
ويتّجهّ رمادُهُ صوبَ يقظتي
يطعنُني الانتظارُ
يكتمُ أنفاسي التّشرُّدُ
ويحاصرُني السّكونُ الجافُّ
يهاجمُني خرابٌ
ونيرانٌ تتفتّحُ في دروبي
أمتدُّ حيث موتي
يلفّّني الغبارُ
ويضمُّني هجيرُ السّرابِ
تتقافزُني ظنوني
إلى شواطئِ الوحشةِ
وبُركِ الزّمهريرِ
أصلُ إلى جهةٍ
معدومةِ الطّرقاتِ
وقفتْ عندها الأيامُ
مصلوبةَ الليالي.*
إسطنبول
* براعة..
أحتاجُ ألفَ سنةٍ
لأنسى ابتسامتَكِ
أحتاجُ ألفَ دهرٍ
لأصدّقَ أنّها لمْ تكُنْ لي
أحتاجُ ألفَ أبديّةٍ
لأقتنعَ أنّكِ اخترتِ
الأسوءَ منّي
ولماذا؟!
لأنّهُ يكذبُ أكثرَ منِّي
برعَ في خداعِكِ
وأوهمَكِ
بما سرقَهُ من شعرٍ
كتبهُ عنكِ
وتلك كانت قصائدي
تسلّلَ إلى قواميسِ عشقي
وقدّمها لكِ وهي تقطرُ منْ دمي
ونبضيَ المحترقِ.*
إسطنبول
* كوثرُ العشقِ..
أحضنُ الأفقَ القادمَ
من طلعتِكِ
وأنكبُّ على مدى اتّساعِكِ
أغرفُ النّورَ من حضورِكِ
وأشمُّ عبقَ معاليكِ
يا (حلبَ) الموسيقا
وبراعمَ الضَّوءِ
النّابتِ على خدودِ النّدى
الطّافحِ بالأثيرِ
والنّاهدِ بالسّطوعِ
والحالمِ بأشجارِ البهاءِ
السّرمديِّ
يا نسلَ السّلامِ
ولُحاءَ البرقِ
وأبجديّةَ النّبضِ
وقنديلَ المجدِ
شهباءُ القامةِ
سمراءُ الأهاليلِ
شقراءُ المقابرِ
كوثرُ العشقِ
وفيضانُ العطرِ
حلبُ بِذرةُ التّكوينِ
وسنابلُ التّجديدِ.*
إسطنبول
* تحتَ الفاجعةِ..
دلّوني على يَدَيّ
لأدفعَ بهما
ازْدحامَ تشتّتي
حجبتْ أوجاعي
عنّي دمي
صرتُ لا أبصرُ خفقانَ قلبي
وأضعتُ جناحَيَّ عن لهاثي
أهذهِ الجبالُ
جاءتْ لتحملَني
أم لتمتطيني؟!
أتّجهُ إلى الّلا جهةِ
تهاوت من تحتِ خطاي
الأرضُ
والسّماءُ انزاحتْ عن دربي
الظّلامُ يمسكُ لهفتي
ويقودُني خارجَ روحي
والقمرُ يصطدمُ بصرختي
ارتعبتِ النّجومُ
جفلَ المَدى
وانْكمشَ الهواءُ على أنفاسِهِ
أنا لا أجدُ لي مكاناً
في هذا العالَمِ
غريبٌ عن خلايايَ
الكلامُ لا يجري
تحتَ لساني
نوافذي مسدودةُ الإطلالةِ
أبوابُ بلادي التهمَتْها الحربُ
وأنا فقدت جسدي
تحتَ الفاجعةِ.*
إسطنبول
* ما بالرُّوحِ..
السّماءُ قطعةٌ صغيرة
من عينيكِ
أٌطلِقُ فيها أشرعةَ نبضي
وأرتحلُ إلى عمقِ اللَّهبِ
أفترشُ شّطآنَ المدى
لِأًعٌدَّ رمالَ النّجومِ الوامضةِ
باقترابي منكِ
وأغنّي ما بِرُوحي
من همَساتٍ مبرعمةٍ بدمعي
وأمواجِ حنيني
لأنوثةِ النّدى الجارفةِ
أحبُّ الكونَ المختزلَ
بما يطفحُ به عُنٌقُكِ
الزاخرٌ بالصّدى المبحوحِ
لشربِ ما يفيضٌ به السّرابُ
من شفتينِ تنفرجانِ عن عسلٍ
وآهةٍ تنبعثُ من الجحيمِ
حيث النّارٌ تسري
في أروقةِ تحسُّري
وأوردةِ قصائدي المستوحشةِ
أحبُّ وميضَ خِنجرِكِ
السّابحِ بأنفاسي
وأريدُكِ أن تُجهزي على انْتظاري.*
إسطنبول
* عباءةّ النّدى..
يتدحرجُ الجوعُ
على بلادٍ
كانت تطعِمُ الأيّام
عسلاً ومجداً
وتُلبِسُ الأفقَ
عباءةَ النّدى
وتَروي عطشَ الصّحراءِ
كرامةً وأماناً
بلادٍ تستلُّ السّحابَ
وتَغيرُ على أسرابِ الخوفِ
وتفتكُ بحيتانِ البَرِّ
إنْ تآمرتْ على ضحكةِ
العشبِ
وثديِّ الفراشةِ المرضعةِ للربيعِ
الصّاخبِ بالعشقِ
وقصائدِ النّوافذِ المفتوحةِ
على السّلامِ
بلادٍ..
َوقعتْ أسيرةَ الكرامةِ
هاجمَها لصوصُ الوباءِ
دهسوا نبضَها
اقتلعوا نضارتَها
اغتصبوا صرختَها
وحطّموا روابيها
وجاعَ كلُّ مَنْ يتمسَّكُ بقامتِها
ويدافعُ عن كُرومِ يديها.*
إسطنبول
* تآكُلُ الفراغِ ..
يتمزَّقُ الفراغُ
تتطايرُ جثثُ الجبالِ
يُبترُ عنُقُ الهواءِ
يسيلُ دمُ النّدى
ويتدفَّقُ دمعٌ التّرابِ
البحرُ يُغرقُهُ القهرُ
والصّحارى تلوذُ بالجهاتِ
الأفقُ محترقُ الوجهِ
والمدى يزحفُ فوق التّلاشي
لا شيءَ سوى العدمِ
يفتحُ فكَّيهِ للزمنِ المخصيَّ
والرّيحُ تكشفُ عن عورتِها
أمام حربِ (البسوسِ)
و(الزّير) يثأرُ من ضلوعِهِ
وينتقمُ من أختِهِ
على مَلِكٍ أذلَّ رعيَّتَهُ
ليعظِّمَ من شأنِ غرورِهِ
(كُلَيبٌ) أسَّسَ مملكةَ الجرائمِ
نقشَ ديمومةَ الاستبدادِ
على تاريخِ العربِ
لكي يحكمَنا حاكمُنا
يستعينُ علينا بالغزاةِ
والدّببةِ
وبالموتِ الصّفيقِ.*
إسطنبول
* أفق البسمة..
تتبعُني خطواتي إليكِ
ويركضٌ خلفي الطّريقٌ
تسابقُني لهفتي
ويتعلّقُ بيَ النّدى
وأنا أجرُّ لهاثي
وأحملُ حنيني
أعاركُ أثقالَ نبضي
أقاومُ احتراقَ روحي
تبكيني الصّحارى
يشفقُ عليّ السّرابُ
الشّمسٌ ترزحُ فوق وهني
والتّعبُ يأكلُ جموحي
الأرضُ تنتفضُ بأجنحتي
والسّماءُ تنكبُّ على دمعتي
البحرُ يموجٌ بصٌراخي
والشطآنٌ تتلألَأٌ بصدى دمي
إنّي أنحَرُ هواجسي
أبقُرُ صدر نيراني
أشدُّ وثاقَ اضطرابي
وأعلنُ انتصارَ احتضاري
عن أفقٍ قادمٍ
من بسمةٍ من ترابِك.*
إسطنبول
* متاريسُ الصَّدى..
قمر يسفُّ النّدى
وسماء تبطشُ بالدّروبِ الصّاعدة
نحو سياج انتظاري
أهزُّ العتمة من أكتافها
وأسأل عن ثقبِ نسمةٍ
أستظلّ بأصبعِ جذعها
لأحظى بانتشارِ الدّفءِ
في أروقةِ المدى
الجامح للإعتزال
واعتدال الرّؤى
والبصيرة الخائرة
خاب قلبي من نيران الحبّ
واعترفت دمعتي بالقنوطِ
حين أُغْلِقَ قبر أيّامي القادمة
على متاريسِ الصّدى
الطّافح بالعزيمة
والقبلات الجامحة
تعبتُ من حبٍّ يناهز الصّبر
ويزرع فوق أسطري
الرّيح العاتية بالحرمان
وأجنحة القهر النّادبة
على النّسيانِ.*
إسطنبول
* أوراقُ الإقامةِ..
تلبَّدَ النّدى
وجفّتِ النّسماتُ
وازدهرَ القتلُ
تدفّقَ الحطامُ
وأينعتِ الحربُ
تدحرجَ النّبضُ
وترامتِ البلادُ إلى الجحيمِ
السّماءُ انكفأتْ على غيمِها
الأرضُ تصاعدتْ أرواحُ جبالِها
وأمطرتِ الدّروبُ بالمشرّدينَ
وأبحرَ الضّوءُ في عتمةِ الهلاكِ
ضحكاتّ مذبوحةَ الوريدِ
وقصائدَ مبتورةَ الأنفاسِ
خرابٌ يتقدّمُ بكلِّ عنفوانٍ
وماءٌ يقطرُ عطشَ المعتقلينَ
فضاءٌ يزدحمُ بأشلاءِ الوردِ
وعالمٌ يفيضُ بالصّمتِ
وبالمساعداتِ المعطوبةِ الوصولِ
حيتانٌ تقطعُ الطّريقَ على المراكبِ
وأشرعةٌ تخفقُ بالدّموعِ المستجيرةِ
جماجمٌ يتقاذفُها الحنينُ
وقلوبٌ ميبّسةٌ عند الجهاتِ
تنقرُها الغربانُ
وتبعثرُها الشطآنُ
ويصطادُها تجارُ الحضارةِ
على سعةِ المدى ينتشرُ الجوعى
وعند قارعاتِ المقابرِ
ينصب اللاجئين خيامهم
مزوّدينَ بالهتافاتِ والأدعيةِ
لمن يستقبلُ رفاةَ أمانيهم
ويستبدلُ تاريخَهم
بأوراقِ الإقامةِ.*
إسطنبول
* استنكار عالي النّبرة..
يندلقُ الموتُ
فوق بسمتي
فيغمرُ الخرابُ روحي
وتنزرعُ شفتايّ
بصحارى الخرسِ
تتدفّقُ المقابرُ مع المطرِ
والماءُ سلسبيلُ النّعوشِ
المشيّعةِ بركامِ الأمنياتِ
وهتافاتِ الدّمِ الهادرِ
ببحّةِ الاختناقِ المسعور
أصادفُ كفني
يبحثُ عنّي ليحميني
من إغواءِ تنهيدةٍ شاردةٍ
ويتقدمُ نحوي الفناءُ
بكلِّ ما فيهِ من شقاوةٍ
يمسكني الدّربُ
يكبّلني الأفقُ
وتحملني خيبتي
إلى حفرةٍ تعبقُ بنهايتي
وفي باطنِ المأساةِ
أستجمعُ أشلائي
لأرسمَ عويلَ مستقبلي
الذي لا يعترفُ
بمحاكمِ الإبادةِ
كلُْ زعيمٍ يزهقُ روحَ شعبِهِ
مدانٌ بقلقٍ أمميٍّ
شديدِ الوطأةِ
واستنكارٍ عالي النّبرةِ
ممكنٌ أن يسفرَ
عن حصارٍ لِلقمةِ الشّعبِ
الثّائرِ
والموالي
والرّماديِّ الملامحِ.*
إسطنبول
* أصقاعُ الجوعِ..
السّحابُ ينهشُ ترابَ الحنينِ
والسّماءُ تستعصي على صرختي
أفقٌ محدودبُ الهواءِ
وضوءٌ يتعثّرُ بعميانِ الابتسامِ
سرابٌ في خضمِّ البحرِ
وأشجارٌ تستجيرُ بالصّواعقِ
الرّيحُ تقشّرُ يباسَها
والقصيدةُ تغدرُ بأحرفِها
الينابيعُ تبتلعُ الجبالَ
وتطفو على سطحِ الجفافِ
والحيتانُ تعاركُ الجياعَ
على لقمةِ الحلمِ
مدينةٌ تعصف بجثثِ السّنابلِ
والموتُ لا يميتُهُ الشّبعُ
النّسمةُ لا تجدُ قوتَها
والفراشةُ سُرِقَ حليبُ رضاعتِها
التّرابُ باتَ طعامَ النّسورِ
والرجالُ يأكلُها عجزُهُم
أمامَ أغصانِهم
المّمتدةِ إلى أصابعِ القبرِ
جوعٌ بدأَ يدوّنُ التّاريخَ
ويوزّعُ الأوسمةَ على الأباطرةِ
وكان لقياصرةِ العربِ
أعظمُ نياشينِ الاستحقاقِ
هم وحدَهم
مَن كرّسوا الجوعَ في بلادِهِم
زرعوا حدودَ ملكِهم بالجوعِ
عمّدوا دساتيرَ بلادِهم بالجوعِ
وأسّسوا حضارةَ الجوعِ
شيَّدوا أبراجَ الجوعِ
في كلِّ الأزقةِ
ورفعوا منارةَ الجوعِ
في كلِّ أصقاعِ الحياة.*
إسطنبول
* الانفجارُ العظيمُ..
اجعلوا قبري
قريباً من قبرِها
ربَّما تضطَّرُ لتصالحَني
وتفكَّ عنّي الحظرَ
ويعودُ الكلامُ بيننا
مرفرفاً باضطِّرابي
سأبذُلُ ما بوسعي
من جُرأةٍ
وأسألُها:
- ما ذنبي إن كنتِ أجملَ منّي؟!
- ما حيلتي إن كنتِ أغنى منّي؟!
- ما بوسع قصائدي
أن تخبرَكِ أكثرَ عن حُبِّي ..؟!
منَ الطبيعيِّ أن تكوني
أبهى من الكونِ
ومن نافلِ القولِ
أنّكِ أغنى وأقوى وأكثرُ
رفعةٍ وقامةٍ
ذلك ياحبيبتي قدَرُكِ
مُحال أن تجدي مَنْ يضاهيكِ
أو مَنْ ينافسَ ظلّكِ
أنتِ الانفجارُ العظيمُ
للأنوثةِ والجمالِ
ولهذا..
تُسبِّحُ باسمِكِ قصائدي
في كلِّ وقتٍ وحين.*
إسطنبول
* موسيقى التَّبتُلِ..
أنتزعُ من السّماءِ مكاناً
يليقُ بجلالةِ ضحكتِكِ
أنتِ طبيبةُ الشّمسِ
إن توعّكتْ بالظّلامِ
النْورُ يولدُ من أنفاسِكِ
تلمسينَ النّدى
فيتفتحُ الكونُ
والنّجومُ تتمسحُ بظلِّكِ
سامقةُ التكوينِ أنتِ
باهظةُ الارتقاءِ
عفيفةُ المدى
ساطعةُ الرّأفةِ
أحبُّـكِ
بقدْرِ ما لدى الحبِّ
من طاقةٍ واتِّساعٍ
تتجلّى أشرعتُكِ في محيطاتِ
أحلامي
عروسُ الزّمانِ أنتِ
أعمدةُ المكانِ هودجُكِ
السّابحُ في رحابِ الأمدِ
أنتِ حوريّةٌ فاضتْ
بها جنةُ الأشعارِ
موسيقى التّبتُّلِ للعرشِ الرّحيمِ
أمُّ الوميضِ المعشوشَبِ
بالحنينِ.*
إسطنبول
* وجعُ العاشقِ..
وجعٌ بحجمِ الكونِ
ينحشرُ بوريدي
ونارٌ أكبرُ منَ الجحيمِ
تتسلّلُ إلى قلبي
وموتٌ أصلبُ من الخنجرِ
ينتشرُ في جسدي
وأنا أسعى لحبٍّ جارفٍ
رماني
على رصيفِ الهلاكِ
وترَكَني أتسوّلُ نهايتي
من قصيدةٍ تحفرُ قبري
على أسطرِ العدمِ
بحـرٌ منَ المرارةِ
في حلقي
وجبالٌ من دمعٍ
تتهاوى منْ بينِ جفنيّ
إنّي تبرّأتُ منَ الحبِّ
وعذابُه يجتاحُ شطآني
ما عدتُ أحبُّكِ
أتركي مقبضَ قلبي
وابحثي
عن ضحيّةٍ أجملَ
وأقوى
وأكثرَ مالاً
ويسخرُ من جنونِ الشّعراءِ
أنا أكرهني لأنِّي أحبُّكِ
تمرّدَت علَيَّ روحي
وانصرفت
وبصقَ عليَّ قلبي
وهامَ على وجهِهِ
وبقيتُ وحيداً
بلا جسدٍ أعتمدُ عليه
بلا بصرٍ أشقُّ عتمتيَ
بلا أحرفٍ لأهجعَ لقصيدتي
بلا أرضٍ تحملُ همومي
ولا سماءٍ تظلّلُ هَواني
ملعونٌ هذا العشقُ
الذي يحتلُّ قدري
ملعونٌ أنا
لأني لمْ أقتلْـكِ
منذُ النّظرةِ الأولى
كان على هاجسي
أن يشهرَ مسدّسَهُ
ويطلقَ النّارَ
ويردي فتنتَكِ
بلا رحمة.*
إسطنبول
* دربُ الشّغفِ..
الأرقُ مهنتي
التي لا أجيدُ غيرَها
والهواجسُ
رفيقةُ عمري
منذ أنْ عرفتُ الحبَّ
والدّمعُ
صديقي الأوحدُ
الذي لا أنامُ دون
أن يحضنَني
والنارُ
ملبسُ قلبي
وسطَ صمتٍ عاصفٍ
وكتابي
الموتُ الذي لا أمَلُّ قراءتَهٌ
الحيرةُ مأكلي
والسّرابّ شرابي
والصّحراءُ قصري
والدّروبُ عنواني
والسّماءُ نافذتي
لبعدِ حبيبتي
وانقطاعِ آخبارِها عنِّي.*
إسطنبول
* الوطنُ القادمِ..
أنا إن أمسكتُ بيدِكَ
سألتصقُ بنبضِكَ
ولن أُفلِتَ منكَ
أبداً
سأحضنُ ما عندكَ
من دفءٍ
وأتوغلُ بنعومةِ جهاتِكَ
وأطوفُ على دروبِكَ
اليانعةِ بتدفُّقِ النّورِ
وأهتفُ ملءَ فرحتي
أنا لا أتخلّى عن وطنٍ
عمَّرَتهُ أيادِ الملائكةِ
وفيه سماءٌ تفيضُ بالابتسامِ
ورياحٌ تومِضُ بالنّدى
وأشجارٌ تورقُ بالحنانِ
وطنٍ متوَّجٍ بالمحبِّةِ
تهزجُ ينابيعُهُ بالسّلام.*
إسطنبول
* بـلادُ اللُّجـوءِ..
حاجزُ الكراهيةِ يستوقفُني
يعتقلُ لغتي
يدهسُها
يطالبُني بإجازةَ تنفّسي
وأوراقِ نبضي
وكان عليَّ أن أُثبتَ لهُ أنِّي
من نسلِ آدمَ
جئتُ إلى الأرضِ
أحملُ جوازَ سفرٍ
من الجنةِ التي طردتني
سأبصمُ لكمْ
بكاملِ دمي
وإبهامِ روحي
أنِّي مستعدٌّ لأسكنَ في
أقذرِ البيوتِ وأهزلِها
وأن، ألتزمَ بسدادِ الآجارِ الفاحشِ
وأن أتعهدَ لكم بالتزامِ الصّمتِ
وتقييدِ حركتي
حرصاً على وقاحةِ جارِي
المتعالي
و أن أقبلَ العملَ
في أخطرِ المهنِ وأشقِّها
مقابلَ أجـرٍ زهيدٍ
معدومِ التوازن
مع الغلاءِ المتوحِّشِ
وسألتزمُ بالقوانينِ
التي لا تعترفُ بحقوقي
وإنِّي وإن تمَّ الاعتداءُ عليّ
من قبلِ مواطنٍ أهوجَ
سأتقبُّلُ ذلك
بصدرٍ رحبٍ
وتسامحٍ كاملٍ
ولن أحتجَّ
أو أتقدّمَ بالشّكوى
وإن فعلتُ، وتجرّأتُ
ُوغامرتُ، وتسرّعتُ
ووقعتُ في ارتكابِ حماقةٍ
سأعرّضُ نفسي
للعودةِ الطّوعيّةِ
غيرِ الآمنة.*
إسطنبول
* تعاليم..
إن متِّ قبلي
قسماً لأقـتلَـنَّـكِ
فأنا لا أطيقُ
العيشَ دونَـكِ
ولماذا يبقى الكونُ؟!
إن أنتِ لم تكوني فيـه؟!
أصلاً
السّماءُ ستتهاوى
والشَّمسُ ستعمى
والأرضُ ستتشرّدُ
والقمرُ
ستهرعُ إليه
سيارةُ الإسعافِ
الوردُ لن تتفتحَ براعمُهُ
والفَراشُ سيتوقفُ
عن قولِ الشِّعرِ
كما أنَّ الماءَ سينتحرُ
ويلقي الأكسجينُ بنفسِهِ
في التّهلكةِ
والبحرُ
سيُنعي موجَـهُ
والدّروبُ ستلتفُّ
حولَ نفسِها
ويشنقُها الغبـارُ
أنتِ إن متِّ
ستبكي عليكِ الملائكةُ
وستضجُّ الجنةُ بالحـزنِ
وسيذرفُ الجحيمُ الدّمعَ
أنتِ
محالٌ أن يقتربَ منكِ الموتُ
ويقدمَ على حماقةٍ
يندمُ عليها طوالَ الأزمنةِ
ستبقينَ عروسَ الدُّنيا
ملهمةَ الأنهارِ بالتّفجرِ
توزّعينَ على الحقولِ
بعضاً من نضارتِكِ
أنتِ
ينتحرُ الموتُ ولا يمسُّكِ
بالسُّوءِ
وهذِهِ تعاليمٌ مقدّسة
يا حبيبتي.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
* فهرس مجموعة: ليلةٌ في وطني
======================= 01 - ليلةٌ في وطني
02 - هالاتُ الجحيمِ
03 - أبوابُ العدمِ
04 - أبجديَّةَ الغفران
05 - سواد إنتصارهم
06 - الفجر
07 - تحوّلات
08 - ملح النّدى
09 - ركبُ السّراب
10 - نُذُر
11 - سراديب الرّؤى
12 - هجيرُ السّرابِ
13 - براعة
14 - كوثر العشق
15 - تحت الفاجعة
16 - ما بالرّوح
17 - عباءة النّدى
18 - تآكل الفراغ
19 - أفق البسمة
20 - متاريسَ الصّدى
21 - أوراق الإقامة
22 - استنكار عالي النّبرة
23 - أصقاع الجوع.
24 - الإنفجار العظيم
25 - موسيقى التّبتّل
26 - وجع العاشق
27 - درب الشغف
28 - الوطن القادم
29 - بلاد اللجوء
30 - تعاليم
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى