أمل إسماعيل - لأجل هذا.. يفوز باسم خندقجي!

لماذا فازت رواية باسم خندقجي (قناع بلون السماء) بجائزة الرواية العربية (البوكر)؟ هل كانت الأجود لغةً وسبكًا أدبيًّا وحبكةً وعُمقًا؟ أم أنها نالت حظها من "ذلك الحبّ القاسي"* الذي يطال الأعمال الأدبية المرتبطة بأدب المقاومة والحروب – ونقصد هنا تحديدًا المقاومة الفلسطينية - باعتبار مؤلفها أسيرًا تحت قبضة الاحتلال الصهيوني منذ نحو عشرين عامًا؟

كوني لم أقرأ من روايات القائمة الطويلة إلا رواية قناع بلون السماء – متوقعةً فوزها أولًا، وبسبب ارتباطي بتدقيق أعمالٍ أدبيةٍ أخرى ثانيًا – فلا يمكنني الحكم حكمًا دقيقًا على الأعمال الأخرى، وليس لي التّشكيك في جدارة لجنة التحكيم ورصانة اختياراتها التي جمعت لنا مجموعة متميزة من الأعمال هذا العام، جعلتنا نقرأُ باستمتاع، وهذا حالي وحال معظم رفاقي من الأدباء والقرّاء على حدٍّ سواء.

لكنني سأحكمُ وفقًا لشرطٍ واحدٍ من المهم توافره للمُشتغِل على سبك عمله الأدبي اشتغالًا مُرهفًا وحسّاسًا وأمينًا: طقوس الكتابة!

أرى عددًا منكم يبتسم، وربما يسخر منّي؛ أنا المُناديةُ دومًا بنَبذِ طقوس الكتابة والقراءة، فأكتب حيثما أريد ووقتما أريد، وأقرأ بالمِثل، مُتحرّرةً من أيّ طقسٍ وأيّ شروطٍ وأيّ ظروفٍ قد تحدّني وتمنعني وتبرّر لي (تسويف) الكتابة أو القراءة.

لكنني هنا سأقفُ بعينٍ فاحصةٍ وأمينةٍ فأقول: إن الاشتغال على عملٍ روائيّ بالذات يتطلب إخلاصًا للعمل، وتوحّدًا معه، وتمحيصًا وفحصًا دؤوبًا لسير الحبكة، وتعايشًا مع الشخصيات، وانصهارًا في جو الرواية المُتخيَّل ورسمه مشهدًأ مشهدًا تعيش معها بكامل تفاصيلها، وتراها رؤيا العين حقيقةً ماثلةً أمامك. ولعل هذه المتطلبات هي ما تَميز الخبيث من الطّيب من أعمال الروائيّين، وتجعل القارئ يشمّ رائحة خيانة الروائيّ لعمله من الصفحات الأولى، فيراه بعيدًا كلّ البعد عن شخصياته، وحبكته، وعالمه المتخيل، كأنه يعجنُ طينًا غير طينه، فلا يتعهّده بالرعاية ولا يُخلِصُ لما بين يديه، فيخرج مشقّقًا هزيلًا سريع العطب والكسر.

فهل توافرت طقوس الكتابة لباسم خندقجي ليخرجَ لنا بمثل هذا العمل الأدبي العميق متعدّد الأبعاد؟ وكيف كان يُنجز عمله؟ أبَعد جلسة الاستجواب أو التعذيب؟ أبَعد انقضاء أيام حبسه الانفرادي وعودته إلى زملائه في عنبر السجن الجماعي؟ أبَعد لُقيماتٍ محسوبةٍ عليه، وأنفاسٍ معدودةٍ عددًا؟

لو سألتَ معظم الكتّاب عن طقوسهم أثناء كتابة أعمالهم لجادوا عليك بأصنافٍ وأشكالٍ من الطقوس، منها ما هو مبالغٌ فيه لاعتباراتِ الشهرة والترويج، ومنها ما هو ضروريٌّ التزامًا وتوجيهًا وتقنينًا، ومنها ما هو عفويٌّ واعتياديٌّ بحكم ظروف بيئتهم وحياتهم الاجتماعية التي والَفوها وألِفوها لتصير ممزوجةً بأجواء أعمالهم وعوالمهم.

فماذا عن باسم؟ ماذا عن المسوّدات الأولى لروايته؟ ناهيك عن تهريبها ورقةً ورقةً في زيارات السجن المحدّدة سلفًا – أو المُلغاة وفقًا لمزاج السجّان – ما نُقل منها وما ضاع وما أُعيدت كتابته مرّاتٍ ومرّاتٍ، وما لم يُتح له أن يكتبه فحدّث به نفسه مرارًا وتكرارًا كي يحفظه في ذاكرةٍ - تكاد تكون ذاكرة وطنٍ بأكمله - إلى أن تحين اللّحظة المناسبة لنقله على الورق. وهل كان ورقًا ما كتب عليه؟ أم قصاصات ورق؟ أم لعله كتب على الجدران، أو غير ذلك مما نجهل في تلك الظروف اللا آدمية الوحشية للسجّان المحتلّ.

فوز باسم خندقجي بالجائزة هذه المرّة بالذات، لم يكن تتويجًا لعملٍ أدبيّ يتحلّى بأفضل معايير الكتابة الروائيّة فحسب، إنما هو تتويجٌ للكتابة باعتبارها فِعل بقاء ومقاومةٍ وتحرُّر. أن تكتبَ لتعيش، أن تكتبَ لتتركَ أثرًا، أن تكتبَ لتُبقي شعلةَ الأمل حيّةً في قلوب أولئك الذين كُتبَ عليهم أن يموتوا أحياء.. دون أن تُتاح لهم فرصةُ التعبير.

بهذا، ولهذا تحديدًا.. فاز باسم خندقجي، ولأجل هذا، ما زلنا نؤمن، ونأملُ، ونكتُب!





_____________________________________________

  • "أنقذونا من هذا الحب القاسي"، عنوان مقالةٍ شهيرةٍ كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش في مجلة الطليعة عام 1968.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى