لقمان ديركي - مقهى القصر - 3 - ابن خالتي محمود درويش

دخلنا كتلة واحدة مكوَّنة من عدة شعراء شباب، وهطل أبو الخير العامل الصباحي على تقديم الإكسبريسو بفناجيننا علينا، وسألنا إذا ما كنا أدباء، واطلَّع شيئاً فشيئاً على دراستنا الجامعية، فصارت كلمة دكتور تسبق اسم بسام حسين طالب الطب وكذلك محمد فؤاد، وللحقيقة فقد كان محمد فؤاد دكتوراً عند أبي الخير قبل بسام بعامين على الأقل، أما أنا فقد كان يضيف على اسمي حكمته فيناديني بسيدنا لقمان، وكم كان هذا النداء يشجِّعني على الجلوس وحيداً إلى طاولة وما حدا قدي، ومرَّت الأيام وكانت قد صارت لنا طاولتنا الخاصة بالشعراء الشباب مضافاً إليها بعض القاصين، ورويداً رويداً صرنا من النسيج، بل وصار واحدنا يتجرَّأ على الجلوس إلى طاولة الكبار، بل وصرنا ندخل في النقاش، وما لمسناه في وليد إخلاصي من ليبرالية كما يحلو لنا أن نقول عنه جعلنا نعيد قراءته من جديد، لم يكن متعصّباً، كان منفتحاً إلى أقصى الدرجات، وكان يستمع إلينا باهتمام، وكان يشجِّعنا على المضي في طريق الحداثة، ولعل صداقته مع فؤاد مرعي اليساري خير دليل على الحوار الذي بدأ يجري بين اليسار والبرجوازية أيام ما كان في برجوازية، وكان وليد إخلاصي لا يأتي إلا مساءً، حيث العامل نمر هو من يوصل القهوة إلينا، جلستُ وحيداً ولفيت رجل على رجل يا شباب بجرأة واضحة، رمقني فيصل خرتش بنظرة من نوعية الزَّوْر البنَّاء عساني أرتدُّ عن قراري الخطر، فالواجب أن أجالس الطاولة التقليدية بعدما أصبحتُ عضواً فعَّالاً فيها، لكنني اكتفيتُ بالتحية من بعيد وتصنَّعت التفكير بأمر مهم، ثم فتحتُ دفتري وبدأتُ أكتب، وفي مقهى القصر لا يجوز أن تكتب، لا يمكنك أن تتفرَّد بطاولة أصلاً إلا لنصف ساعة وذلك لشدة الزحام وصغر المقهى الذي يحتوي عشر طاولات أو أكثر بقليل، جاءني نمر بالفنجان وبحلق في ورقتي باهتمام،
- أنت شاعر؟!. سألني نمر
أجبته بتواضع تعلَّمته من أصدقائي الشعراء:
- بكتب شعر.
- يعني شاعر.. أجاب بحزم.
- شاعر إي والله يا عمي نمر،
ولم أكمل جملتي حتى دخلت مجموعة من شعراء المدينة المخضرمين، قدَّم نمر القهوة لهم بنشافته المعتادة، في مقهى القصر لا داعي لأن تطلب شيئاً، فقط تجلس فيكون فنجان الإكسبريسو قد سبقك بصحبة حبيبته كاسة الماء، عاد نمر إليَّ فأعطيته خمس ليرات حق الفنجان، أشار إلى الشعراء المخضرمين باستخفاف:
- مفكرين حالهم شعراء.
أعجبني رأي نمر المتمرّد، لا بدَّ وأنه يتذوَّق الشعر، مضى ليوصل طلباً ثم عاد إلي بفنجان جديد:
- هادا على حسابي.. لو بيفوت ابن خالتي هلأ عالقهوة رح يهربوا كل هدول الشعراء.
استغربتُ جملته وسألته:
- ليش مين ابن خالتك نمر.. شي مسؤول كبير؟!.
رد نمر:
- لأ مو مسؤول.. شاعر.
سألته:
- وشو اسمه؟!
أجاب وهو ينظر إلى الشارع:
- محمود درويش!!!!..
ومضى حاملاً فنجاني الأبيض الفارغ وكأس الماء السابق تاركاً لي أن أتلذَّذ بدعوته الجليلة على فنجان قهوة اكسبريسو وخبر صاعق من النوع الذي لن تنساه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى