مها حسن - خذ الكتاب بقوة

صديقي الذي دخل حياتي من باب الكتاب؛ الباب الأوسع ، الأقوى، الأوضح، إلى درجة أنني أستطيع أن أعدّد صفات الكتاب الحسنى ولا أنتهي، أي صفات باب الكتاب، الأحسن. الباب الذي إن دخلت منه، تضمن الذهاب إلى مناطق أجمل، تخالها أحياناً مُظلمة، كئيبة، مُخيفة، مُششكة، مُتعبة (وهنا أيضاً قد تأخذني اللغة في تعداد لامتناهٍ لصفات المناطق الموهومة)، إلا إنك بصحبة الكتاب ذاته، وكتاب آخر، وكتاب مضادّ للأوّل، أو مكمّل له، ستكتشف، أن خلف العتمة والكآبة والخوف والشك والتعب، تكمن المتعة، المتعة الأعلى، المتعة القمّة: المعرفة.
المعرفة هي الضوء الكاشف الذي يحلّل العتمة، الكآبة، الخوف، الشك، التعب، القلق، الضعف، والحرب. نعم، الحرب.
المعرفة هي الإقنوم الأعلى، الأرقى، الذي يجمع البشر بكافّة اختلافاتهم، مهما كانت: فطرية أم مكتسبة، بيولوجية أم فكرية، إثنية، جنسانية.
المعرفة تضع البشر جميعاً في صفّ واحد، لا قيمة لأحد على الآخر، ولا تراتبية، الكلّ متساوٍ أمام المعرفة، ينهل منها، ويكبر. كلّما نهل أكثر، كبُر. علاقة طردية غير قابلة للجدل. تتعلّم أكثر، تكسب فرص النجاة.
الكتاب هو أحد المصادر الأساسية للمعرفة، وربما الأسهل. في زمن انتشار الشبكة العنكبوتية، ووصولها إلى أكثر الجغرافيات المُنسية في الأرض. المعرفة في بيتك، فقط، مدّ يدك والتقطها. الكتاب أمامك، داخل الشبكة. أجل، هو تحريض على المشاركة في لعبة القنص الفكري، فأنت لست صاحب الجريمة، ومن قال إن الكتاب جريمة؟.
حسناً، هذا موضوع آخر، مواقع الانترنت تعجّ بعناوين مرعبة، مكتبات فخمة، تفوح منها روئح مداد كتّاب القرون الآفلة، خذ ما تشاء، من نيتشه إلى لوتريامون إلى ديستويفكسي إلى ساباتو إلى سيوران إلى كافكا إلى كونديرا إلى مالارميه...
أف، لماذا أعدّد لك؟ انظر بنفسك، وخذ الكتاب الذي تهوى: فلسفة، علم نفس، تاريخ سياسي، نقد ديني، رواية، اعترافات، شعر.... خذ الكتاب!
في زمن السلم، الكتاب هو المعرفة الهادئة، التي تزوّدك بالبصيرة، فتحلّل نفسك والعالم من حولك. الكتاب الذي، أحياناً، تستوقفك فيه جملة، لتشرد في عوالمك ساعات. الكتاب الذي قد يكون أحد وسائل "اعرف نفسك"، الأزلية.
أمّا في زمن الحرب، لماذا الكتاب، ونحن نرى الموت بهذه الكثافة والمجانية؟ ـ إلهي أكان الموت يوماً غير مجاني؟ ـ لماذا الكتاب؟ بينما، في اللحظة التي يقرأ فيها سوري أو يمني أو ليبي او مصري، تقتله قذيفة أو رصاصة؟! لماذا القراءة وقد أطاحت قذيفة في مدرسة بحلب، برأس المعلمة أمام تلاميذها؟ لماذا القراءة؟ لماذا الكتاب؟
الكتاب هو المعرفة، اتفقنا! لكنه أيضاً طريق لخزن الذاكرة، لمّها من المدارس والطرقات والجغرافيات المنسية.
خذ الكتاب بقوّة، لا شيء يأتي مصادفةً، كما يظنّ أندريه بروتون وصحبه، المصادفة الموضوعية، في حال شكّكنا بها، لم تأتِ. "خذ الكتاب بقوّة" مصادفة في سورة مريم، حيث النساء محرّضات المعرفة، حيث حواء، المُسبب الأزلي للمعرفة، المعرفة التي تطردنا غالباً من يقين النعيم، وتأخذنا إلى متعة الشك، حيث الحياة الأغنى والأثرى، حيث : "أنا أفكّر إذن أنا موجود"، هذا هو الكوجيتو الخالد إذن، الذي يحطّم الثوابت، فكّر تخلد.
لكن :فكِّر، ليست فعل أمر ثابتًا، فأنت حين تفكّر، تتنقّل من حالة لأخرى. الصيرورة التي حدّثنا عنها الفلاسفة، حيث لا يمكنك السباحة في النهر مرتين، هذه هي جدلية فكِّر، القانون المعرفي الثابت، الذي يجلب معارف متجددة. لأنك لن تفكّر بالأمر نفسه، فما أن تنوجد نتيجةً لتفكيرك بمسألة، حتى يجتاحك النهم الوجودي، لإعادة التفكير، لتنوجد. فتتعدّد حالاتك الوجودية، ويتعدّد موقعك في الكون.
صديقي الذي دخل حياتي من باب الكتاب، في كلّ يوم أو ليلة، حسب قرارنا للإقلاع، نأخذ الكتاب ونمضي، ندخل غابات الساحرات، نفتّش عن بيوتهن وقصصهن في العتمة، نوجّه الضوء، نكتشف العالم، ذواتنا، ونضحك.
من الألم نضحك، من المعرفة نضحك، من الحرب نضحك. المعرفة تتحدّى الحرب، تتحدّى الموت. إنه الكتاب، الوصفة الأزلية للبقاء، الوصفة العظيمة لأرشفة الذات والعالم.
خذ الكتاب بقوّة، في كلّ يوم، أنت في موعد مع المعرفة، الاكتشاف، العيش، التحقّق، موعد مع الكون والوجود، لأن تكون!

(روائية سورية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى