إحسان طالب - المعالجة الواعية للتطرف.. النصوص التاريخية غير قابلة للحذف!

في موضوع ما شاع عن طلب حذف آيات من القرآن بحجة معادات السامية ، تبدو المسألة في غاية السذاجة والسطحية بعيدة عن التحليل الواقعي والتاريخي ، في التاريخ ما قبل الف وأربعمائة سنة ، وضع القرآن اليهود في مكانة معينة باعتبارهم أهل كتاب وذمة ، تآمر اليهود على النبي محمد في المدينة فعاقبهم عقابا شديدا مؤلما ، ولا ابحث هنا عن حيثيات الحدث بقدر ما أفتش عن السرد . عاش اليهود في بلاد المسلمين في ظروف سمحت لهم بالبقاء والاستمرار كأصحاب دين مميز ومختلف بمظاهر سلوكه وأماكن تعبده ، على ما تلك الحالة من تمييز وتباين مفارق لمفهوم المواطنة ، في أوربا سأذكر حادثتين تاريخيتين ، محاكم التفتيش في القرون الوسطى ، وكما هو معروف هي محاكم دينية بحتة معتمدة على النصوص المقدسة ، وهي موجهة قبالة المهرطقين والمبتدعين والسحر ، وكانت حجر زاوية في استئصال المسلمين واليهود من اسبانيا والبرتغال ، الحادثة الأخرى ما عرف تاريخيا بالهولوكوست التاريخ: 30 يناير 1933 – 8 مايو 1945 وهي حالة تطهير عرقي وإبادة جماعية ضد اليهود ابان حكم النازية الألمانية ،
بالعودة للحاضر القريب ننظر في فصيلين من فصائل الإرهاب المنتسب للإسلام وأقصد القاعدة وتفرعاتها وداعش وأمثالها ، لم نعرف أبدا أية وقائع قامت بها تلكما الفرقتان بأعمال ارهابية محددة ضد اليهود ، بل كان جل ارهابهم موجها نحو المسلمين والمسيحيين ، 11/9/2001.
النصوص التي طلب حذفها والموجة حسب الفهم ضد السامية ، موجودة منذ قرن وأربعمائة سنة ولم تتسبب لا بمحاكم تفتيش ولا في هولوكست أما الإرهاب المعاصر فوجه بالمقام الأول ضد المسلمين وسواهم ،
هذا يجعلنا نفكر جليا بتأثير ومفاعيل النص تحديدا ، فأمثال النصوص المتشددة بل وأكثر من التشدد متوفر في كافة الكتب المقدسة حتى في الكتب أو الرسالات غير السماوية ،
لا يصح إنكار تأثير النص ، بيد أن التحقيق يوجب النظر لجملة العوامل المؤثرة في الفعل والسلوك ، وتلك الفواعل في بناء منظومة المدرك كما الا وعي الفردي ، وكما العقل الجمعي والحس المشترك ، بمحاذاة الظرف التاريخي ، سياسيا واجتماعيا ونفسيا في المقام الأول ، وبتقديري يدخل العامل الاقتصادي بتأثيرات محددة ، تتلاشى أحيانا باعتبارها مؤثرا أو عاملا من العوامل المتهيئة لفعل الإرهاب .
هكذا تبدو المطالبة بإقصاء نصوص بعيها سطحية وساذجة ، فالعلاجات تبدأ من بناء العقل وتشييد الوعي وتهيئة الإدراك وإرساء قيم الإنسان والأخلاق في بنية عقل وتفكير الفرد والمجتمع المنعكس تلقائيا سلوكا وتفكيرا ، كما هو سائد كعادات وتقاليد وأقيسة .
العقل المبني بأساليب منطقية ، والوعي المبني بقيم أخلاقية وإنسانية ، والإدراك المهيأ للتحليل المنطقي ، والنفوس المستقرة المترفعة عن الأمراض النفسية ، كما المجتمعات المنتظمة في معترك التقدم والنهضة والحداثة ، لا تحركها النصوص تلقائيا ، ولا تتصرف فرديا دون محاكمات عقلية إدراكية ، وحتى في ردود الأفعال التلقائية تبقى مضبوطة بقيم وتقاليد راسخة في العقل الباطن . فالمعالجة النصية جزء مهم وضروري ؛ لكن التحليل الظاهراتي ـ الفينومينولوجي ـ لوقائع وحوادث وحتى مفرزات الإرهاب كظاهرة ، تستوجب فهم الحدث والواقعة التاريخية أولا دون أحكام مسبقة ، وثانيا بموضوعية وحيادية ، وثالثا بشمولية وجودية ، فتكون ظاهرة التطرف والكراهية قضية بشرية تبحث في الواقع بتجلياتها الكلية ، بدءً من الدراسة النفسية والاجتماعية والحالة الثقافية ثم الظرف السياسي ،بمحاذاة البعد الاجتماعي وتفكيك عناصر الحس المشترك والعقل الجمعي للمجتمعات ، وتأثيرات التربية ومناهج التعليم ، ومؤثرات التنمية البشرية والاقتصادية .
المسألة ليست نصا فقط ، ذلك النص عادة ما يكون مضبوطا بالمفاهيم الشائعة ، وبالتفاسير المستقرة في الثقافة العمومية والوجدان الفردي والجمعي ، كما أنه ذو صلة عميقة بالمؤسسات التاريخية والاعتبارية ـ المرجعيات بكافة أشكالها ـ فبناء معالجة التطرف على تفكيك النص فقط والشحن الديماغوجي ضد أشخاص أو فئة أو مجموعة بذاتها ليس إلا رد فعل متسرع وسطحي ، ودليل عجز عن فهم ومعالجة فكر وثقافة الإرهاب .
الفكر المتشدد والمتطرف المفضي لفكر إرهابي أصبح ظاهرة اجتماعية كامنة ، في البعض من شرائح المجتمعات العربية والإسلامية ، ولا يبدو أنه أنحسر بما فيه الكفاية بعد انحساره بالقوة من رقعة هائلة من سوريا والعراق ولبنان وغيرها من البلاد العربية ، فما فتئت العوامل المحرضة لإنتاج بيئة حاضنة وثقافة رائجة متهيئة ـ بالإمكان ـ لبروز أشكال ومظاهر وصور مختلفة لهيئات منظمة تتحرك بمنظومة عقائدية وفكرية تجير النص لصالح العقل والفعل الإرهابي ، وتظل في كل الظروف المعالجة النصية العلمية المتخصصة عنصرا هاما وضروريا في تفكيك منظومة الإرهاب والتطرف سلوكا وتفكيرا ، ولكن لا يجوز التقليل من أهمية وضرورة تفكيك الظروف المنتجة أيا كانت سياسية ونفسية واجتماعية وثقافية. من المفيد الانتباه إلى آلية التأثير الاقتصادي في مجمل البحث بموضوع الإرهاب والتطرف ،
بالرجوع إلى التحليل الظاهراتي ـ دراسة الظاهرة بالتحليل المنطقي كما هي في الواقع ، أي تفكيك عناصرها كموجود كما هو ـ أنطولوحية ـ نستطيع استظهار تأثيرات معينة تساعد على بروز قيم اجتماعية ذات تأثيرات سلوكية اجتماعية وفردية ، المجتمعات الفقيرة ليس بيئة متهيئة تلقائيا لقبول ثقافة التطرف وما يليه ، كما أن المجتمعات المرفهة أو تلك المستقرة ماديا ، ليست أيضا مستبعدة تلقائيا عن انتاج أفراد أو مجموعات منخرطة بالسلوك والتفكير المتشدد و الإرهابي ،
فالعامل الاقتصادي ليس محركا مباشرا على الإطلاق بل العامل القيمي والأخلاقي والعقل الجمعي والحس المشترك هي المحرضات الداخلية بالمقام الأول ، فأي كانت تلك العوامل متوفرة ـ قيم خيرة أو قيم شريرة ـ تفعل فعلها بصرف النظر عن المستوى الاقتصادي والاجتماعي ، وما هذا إلا بالنظر للأشخاص والمجموعات التي مارست الإرهاب المنتظم والفردي منذ الربع الرابع من القرن الماضي و العقدين الأولين من القرن الحالي .
نحن ننظر للظاهرة بمفرداتها الواعية الموجودة أمامنا ، فنشاهد أشخاص ومجموعات متفاوتة اجتماعيا واقتصاديا تلتحم حول ثقافة تكفيرية متطرفة ، ومن ثمة تنتظم بتنظيمات إرهابية ، طبعا بالتفتيش الأعمق سنجد مجموعة من العوامل تساعد وتساهم في الانقياد نحو السلوك والتفكير أيا كان توجهه ، بالتأكيد لا يصح انكار تأثير الفعل المادي في انتظام مجموعات وأفراد بهيئات إرهابية ، فلولا الرواتب والمعاشات لانفكت أعداد كبيرة عن التنظيمات الإرهابية ، مع ملاحظة أن الفرد قد يضحي بجزء وفير من مستحقاته كتضحية مبررة لفعل وعمل يظن خيريته وصوابه ، أي بدوافع وجدانية ونفسية واجتماعية . بذات السياق لا يصح انكار أهمية التنمية الشاملة والمستدامة والعادلة للمناطق المهمشة والمهملة على صعيد الخطط التنموية والاقتصادية الوطنية ، كجزء من منظومة متكاملة لمكافحة البيئة المواتية لنمو وترعرع بذور التشدد والتطرف ، المتوفرة في المورث ، والحائزة على مكانة مستقرة في الوعي الفردي والعقل الجمعي .
لمزيد من دراسة ظاهرة الإرهاب يرجى مراجعة : تفكيك أصولية التكفير
الحوار المتمدن-العدد: 4847 - 2015 / 6 / 24 - 15:42
أيضا : الإحراق فتوى تخالف النص وتحرق المجتمع معالجة فقهية أصولية



الحوار المتمدن
- العدد: 4711 - 2015 / 2 / 5

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى