سلام حربه - زهرة الخشخاش

لن انس اليوم الذي سكن فيه ذلك الرجل الطويل القامة بيت مراد افندي في مدخل محلتنا القديمة..كان شعره فضيا منسدلا على كتفيه ولحيتة كثة تأكل معظم ملامح وجهه وشاربه الابيض الغليظ يطمر فتحة فمه فقد صُدمنا نحن الاطفال حين رأيناه،قلنا كيف يتناول هذا الرجل طعامه..؟ اسميناه الدرويش نحن ابناء محلة الخسروية ،كانت بصحبته امرأة منقبة يستر هزالها عباءة رمادية اللون اتفقنا ان ندعوها الخالة او وردة النرجس الذابلة حين يستدرجنا قبحها ولونها الداكن اللذان لا يمتان بصلة الى الورد للتندر عليها .. بيت مراد افندي كبير مشيد على مقربة من نهر مدينة الحلة ، حجارته صفراء وقد رسم البناؤون في جدرانه وفوق شبابيكه وعلى سقوفه لوحات فنية بارزة تلتوي عندها ، دون وعي ، رقاب العابرين ..اما شناشيله التي كانت تستحم بنسائم النهر الندية فقد كانت تضمد التهابات الرصيف المزمنة بالافياء وترتكز على اعمدة حجرية تنغرس قريبا من كتف الشارع..البيت تحفة معمارية كنا نحن اطفال المحلة نلهو في وشم طابوقه باسمائنا ورسومنا وعبثنا ونعيد ، بعد ان يهدّنا التعب ،قص الحكايات التي نسمعها من ابائنا وامهاتنا عن الجن الذي يسرح ويمرح في البيت المغلق منذ سنين تُسمع اصواتهم في ساعات الليل المتاخرة مختلطة مع بكاء الاطفال الجائعين او بين فواصل غناء الرجال المخمورين وهم يشكون وجْدِهم الى النساء المحتجبات المتمنعات وراء الابواب الموصدة..يقول اباؤنا ان البيت بناه مراد افندي حين كان يوما وزيرا للداخلية وبقي البيت مقفلا منذ اختفاءه بعد تقاعده من وزارته ولم تفتح بابه الخشبية الكبيرة الا حين قدم الرجل الدرويش بنظراته التائهة وملابسه المتسخة مع المرأة الخالة والتي لم تكن تمشي بل تنغرس عظام قدميها اليابستين كوتدين اسودين في الارض ، كان عمري حينها يقرب من التسعة اعوام ، اخرج الدرويش مفتاح البيت الكبير من صرة ملابس صغيرة وامام انظار ابناء المحلة ورجالها قام بفتح الباب والذي اصدر صريرا قويا فقد تخثر الصدأ في مفاصله سنين عدة ودخل البيت مع المرأة المكسوة بالسواد والتي لم نر منها سوى عينين وقحتين حادتين تنفران من النقاب الذي يغطي وجهها البني المحروق ، وراء الباب المغلق لم يُسمع لهما صوت ولم يخلفا وراءهما اية نأمة ،كان شيخ المحلة يكرر على اسماعنا ان اصوات الجن بلا اصداء فتنتصب شعور رؤوسنا فزعا وهلعا ،تسابقت آذان الصبية الملتصقة بالباب الكبيرة لالتقاط أي همس ضال قد يرشح اليها من الشقوق الضيقة او من الخشب المنخور..لم يخرجا الا بعد عدة ايام كانا خلالها مثار لغط اهل المحلة ونفاذا لصبرهم تورمت له ريّبهم وشكوكهم ..ايعقل ان يكون هذا الرجل الغريب بهيئته القذرة قريبا الى مراد افندي الوزير الانيق والوسيم والذي كان محط اعجاب رجال ونساء البلد على السواء..؟لم يمض اسبوع الا والرجل الدرويش والمرأة الخالة يجلسان عند عتبة البيت وينظران باتجاه الافق بنخيله واسراره وزرقة سمائه التي يشربها سراب الارض منذ شروق الشمس وحتى مغيبها ،لا ينبسان بكلمة مع أي من رجال الحي او نسائه حتى اضطررنا نحن اطفال المحلة ،والذي كنا نتخذ من ظلال البيت الباردة ملعبا نبعثر فيه اوقاتنا بعد المدرسة ، الابتعاد مكرهين عن مرمى بصريهما فقد كانت نظراتهم المعلقة في الفراغ مخيفة توخز ذاكراتنا وتوقظ الجن وحكاياتهم المخيفة التي يرددها اباؤنا على الدوام ..لم يطق ابناء المحلة تسمر العيون في المجهول منذ شهور ، وابتدات الاسئلة والظنون ترفس الاخيلة وتدير الالسن الزلقة في الافواه..من يكن هذا الرجل وهذه المرأة وما علاقتهما بمراد افندي ومن اين حصلا على مفتاح البيت..؟ قد يكون فألهما على المحلة او المدينة او البلد سيئا ويزيد من بلّة طين مِحَنهم التي يتقلبون في أتون ضيمها دهورا طويلة ، فقد تفشى الجهل والفقر بينهم منذ قرون واصبحوا ارضا خصبة للخرافات وواحة دائمة الخضرة للقيل والقال ،لم يهدأ لنا بال الا ان اتفق ابي مع عدد من رجال المحلة بالتنقيب عن سرهما وتلمس معدن حقيقتيهما عن قرب..وقفوا امامهما والصدور تعلو وتهبط من القلق..تكلم ابي وهو يصر على اسنانه..
_ عفوا..هل تنتظران احدا ما..؟ بامكاننا مساعدتكما..
نظر الدرويش الى ابي بعينين باردتين..تكلم بلا مبالاة..
_ اننا جالسون بانتظاره ،سيأتي..نحن نعلم بانه سيأتي وسيجعل من كل ايامنا اعيادا..
مسح ابي وجوه المحيطين به وطيف ابتسامة ساخرة حطت بغتة على شفتيه..قال وهو يكتم ضحكة تتكسر في صدره..
_ من هو الذي سيأتي..؟
اطلقت المرأة تنهدة عميقة ، قالت ونظراتها تنقب في حضنها الذي تتكور فيه عباءتها الرمادية وترسم تفاصيل بطن ضامرة..
_ لقد حملت به سنينا طويلة..حين اتى الى الدنيا كان وجهه كالنور ، كان يملأ بيتنا وروحينا بالسعادة..لكنه..
ابتدات بالتلفت حولها بخوف ، كانت تحس بانفاسه قريبة منها وتلتصق بين طيات جلدها المتغضن..اضافت وقد امتلأت عيناها بالدموع..
_ لقد سافر منذ سنين بعيدة ، لا نعلم اين ذهب حين خرج من باب الدار ولكنه قريب منا ، انا اسمع دقات قلبه الحانية وضحكاته البريئة انها تعزف في اذنيّ ليل نهار..
_ كانت عيون الشرطة تلاحق ابننا ، كان اكثر ذكاءا من ان يقع بمصائدهم ، لقد توارى عن الانظار ،الرسائل تصلنا منه باستمرار ، انها لنا ولكم ،انه يعدنا ، نحن ابوه وامه والجميع ، بسعادة منقطعة النظير يعوضنا فيها عن كل ما فاتنا من ايام تعبنا وشقائنا..
اخرج الدرويش عددا من الرسائل من جيب سترته الحائلة اللون ،تلقفها ابي ورجال المحلة الواقفون وعيونهم مفتوحة على اتساعها..كنا نحن الاطفال نرقب انفعالات الوجوه وهي تمسح ما في الرسائل من كلام ووعود وشفرات..العين مرآة الروح هكذا كان يقول ابي ،تطاير الفرح فراشات حمر حطت على جميع الوجوه وانفرجت الاشداق عن ضحكات جذلى وتراقص في حدقات العيون وميض امل كانت تطمره الخيبات والحرمان..انيرت البيوت المظلمة بهلاهل النسوة المكبوتة في الحناجر وضجت النفوس بتراتيل الرسائل كتهدجات صوفية حفظها المثقفون والطلبة والمتعلمون والمتخرجون من مدارس الامية وحتى الاميون عن ظهر قلب ، وبعد مرور سنين كان ابناء محلة الخسروية وكل احياء مدينة الحلة بصوبيها الصغير والكبير رجالا ونساءا واطفالا جالسين قرب الرجل الدرويش والمرأة الخالة المنقبة ، عيونهم لا ترمش ومصممون على ان يثقبوا رحم الافق بجمر نظراتهم كي ينسل اليهم الابن وهو يحمل البشارة ..لم يعد احد يمارس عملا ما وابواب البيوت مشرعة للصوص الذين وجدوها فرصة لا تفوت كي يفرغوا البيوت من اثاثها ، كما تفرغ البطون من احشائها..اتسخ وجه المدينة وتجعد بالخراب وظهرت جبال من القمامة تسور جلستهم وتطوق ابصارهم وانشغل الحاكم ومساعدوه بافراغ الخزائن والهروب بها الى جزر الخرائط المنسية وتبييض الايادي السود في مغاسل البورصات المعقمة بعد ان سقط العقاب من لائحة القضاء ،فالكل ادمن افيون عودة الابن وتعطلت الحواس وتخدرت وفاحت في الفضاء روائح تزكم الانوف وتسمم الابدان ،وتعرقت جلود الناظرين بالعفونة ولزوجة الصديد..تمحّن الاطباء في تشخيص المرض الجديد وعقدوا حوله الندوات والمؤتمرات وتوصلوا اخيرا الى ان ارواح هؤلاء الجالسين قد تعفنت..لقد ماتت ارواحهم لان اقفاصها انغلقت على عصفور للوهم واي موت وان كان في كلام فأن يد الغنغرينيا تمتد اليه ، لم يقنط الجالسون وقد كلّت عيونهم في تملي الافق باشباحه وسرابه ونوادر اكاذيبه على الرغم من علمهم بان ما يرتكزون عليه في هذا المستنقع الذي يترجرج تحتهم ببهتان القناعات يسحبهم نحو هاوية العدم والضياع ،ويوما بعد يوم يزداد اصرارهم وما يعصف بهم من اطياف مستحيل في اخيلتهم تتجسد رؤى واحلام امام اعينهم وحتى حين حضرت مفرزة للشرطة والقت القبض على الدرويش والمرأة الخالة لم يحرك الناظرون والمحيطون بهم ساكنا..وقف الجميع حول الشرطة دون ان ترمش اعينهم عما قد يفاجئهم به ، على حين غفلة ، الافق الساكن ..سألهم ابي وقد تحجرت ملامحه من الحيرة..
_ مالذي اقترفه هذا السيد وهذه السيدة..؟
ضحك الضابط وانشطرت ضحكته في وجوه اتباعه..هز راسه بالم..
_ السيد والسيدة..! هذان مجرمان..لقد قتل هذا الرجل وهذه المرأة الوزير مراد
افندي..
صرخ الرجل الدرويش بالم..
_ هو الذي قتلنا..كان ظالما..لقد لاحق احلامنا وقذف بنا في السجن والذي لم نخرج منه الا الى مستشفى المجانين..
ازاحت المرأة النقاب عن وجهها..وجهها المتقعر الطاعن السمرة فيه بقايا جمال غابر..اقتربت من الرجل الدرويش امسكت وجهه بكلتا يديها..
_ كان حلمنا ان نتزوج لكن الجنون الذي زرعه مراد افندي في رأسينا افسد حياتنا والى الابد..
_ وابنكما كيف انجبتماه..؟
سأل ابي وقد اندلق لسانه وتخشّب بين فكيه ..الضابط اطلق ضحكة مجلجلة داعرة..
_ ابنهما..انهما لم يتزوجا ولم ينجبا ابنا..كان هذا مرضا في راسيهما وهو الذي دفعهما الى الهرب من مستشفى المجانين وقتل مراد افندي والاستيلاء على مفتاح بيته..
اجهش الدرويش بالبكاء..قال وهو ينشغ دمعه..
_ كم تمنينا ان يكون لنا ابنا ، نرعاه وننتظره حين يخرج من البيت ونفرش نحن والاخرون ارضه بالورود في زمن القحط حين يكون محملا بالهدايا ..مراد افندي قتل افكارنا حين لاحقنا بسجونه ومات معها حلمنا الكبير..
_ في مستشفى المجانين ستزدهر هناك احلامكما ثانية..
عقب الضابط واشار الى الشرطة الذين امسكوا بالدرويش والمرأة الخالة واصعدوهما في سيارة الشرطة..لم يعر الذاهلون التفاتة اليهما ولم يفكروا بوداعهما حين انطلقت السيارة بهما فقد كان الجميع منهمكا هناك حيث تطوق اذرع السماء جسد الارض ويلتحمان في عناق ابدي عذري ،قد يولد من سريرهما الدافىء ابن قد لا نراه متوارِ وراء حجب من العدم يحمل رسائل خلاص لهم جميعا طال انتظارها..



عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى