ناصر الجاسم - سلفية قصصية تتأسس على ما في الثلاجة الأكاديمية قراءة في قصص عبد الحفيظ الشمري وعلي زعله*

1- نوعية الكتابة :

تندرج قصص القاصين عبدالحفيظ الشمري وعلي زعله موضع الدراسة فيما اصطلح على تسميته بالسلفية القصصية أو الحساسية التقليدية أو القديمة , وذلك لأنها كُتبت حسب المنهج التشيكوفي أو المنهج الموباساني في سرد القصة القصيرة , وهذه السلفية أو هذا المنهج قد استخلصت واستنتجت مواصفاتهما , و الطريقة البنائية فيهما بعد أن استقرت ردحاً طويلا ً من زمن التاريخ الأدبي لجنس القصة القصيرة ؛ مما حدا بالنقد الأدبي أن يحتفظ بهذه المواصفات الفنية والخصائص البنائية فيما يطلق عليه مجازاً بالثلاجة الأكاديمية , وهذا يعني أن قصص الشمري وزعله تتسم بسمة الأصالة القصصية ولم تتغيا الحداثة القصصية أو الحساسية الجديدة .

ولكي لا تلتبس علينا الرؤية بسبب كثرة المصطلحات والمفاهيم نضع الشيء في مقابل ضده حتى تتميز الكتابة , والشيئان المتقابلان هنا الحساسية القديمة والحساسية الجديدة فماذا نعني بالاثنتين ؟

الحساسية القديمة هي (( السرد المرتب بحيث تبدأ القصة القصيرة إما بفرشة أو مفاجأة ثم الحبكة وتنتهي بالحل أو ما يسمى بلحظة التنوير , وسنرى كذلك الاهتمام بما يسمى ((شريحة من شرائح الحياة )) تقتطع ويقع عليها تركيز محدد موضوع على أسس يمكن أن تسمى معقلنة بحيث يتلمس الفنان , واعياً أو غير واع بشكل مباشر أو غير مباشر , تفسيراً لهذه الشريحة لأنه يفترض , في خلفية هذا التفسير , أن العالم معقول تحكمه قوانين يمكن أن تدرك وفقاً لخطة عقلية , و أن تفسر , و أن توضع في إطار محكوم سلفاً , بما يمكن أن يسمى برنامجاً عقلياً , يمكن في النهاية تحليله و إرجاعه إلى أصوله في فلسفة أو رؤية فلسفية محددة , مرتبطة بالتسويغ العقلي .

من القوانين الأخرى في قصة الحساسية التقليدية مسألة الشخصية : أن توضع في لحظة أزمة و أن يسعى القاص إلى تلمس أسباب الأزمة من حيث المستوى النفسي ومن حيث ما يسمى بالصدمة في الطفولة أو غيرها من مراحل العمر , إلى آخر هذه التقنيات , ووضع هذا كله في خلفية اجتماعية , أو الضغط على النواحي الاجتماعية )) .

أما الحساسية الجديدة فهي (( كسر الترتيب السردي الاطرادي , فك العقدة التقليدية , الغوص إلى الداخل لا التعلق بالظاهر , تحطيم سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم , تراكب الأفعال : الماضي والمضارع والمحتمل معاً , وتهديد بنية اللغة المكرسة , ورميها - نهائياً- خارج متاحف القواميس , توسيع دلالة « الواقع» لكي يعود إليهما الحلم والأسطورة والشعر , مساءلة- إن لم تكن مداهمة- الشكل الاجتماعي القائم , تدمير سياق اللغة السائد المقبول , اقتحام مغاور ما تحت الوعي , واستخدام صيغة «الأنا» لا للتعبير عن العاطفة والشجن , بل لتعرية أغوار الذات , وصولاً إلى تلك المنطقة الغامضة , المشتركة التي يمكن أن أسميها « ما بين الذاتيات» والتي تحل –الآن- محل « موضوعية» مفترضة , وغيرها من التقنيات )) .

ويجدر بنا الآن أن نكشف في القصص الست عن الحساسية القديمة مستضيئين بالتعريف السابق لها , وهو تعريف جامع إلى حد ما , لنبرهن على اتسام القصص بالأصالة , آخذين في الاعتبار البعد عن العبارات الانزلاقية , والعمل بمقولة:« ثق بالقصة ولا تثق بالقاص», لأن القصة بعد الانتهاء من كتابتها تبدو ثابتة , أما القاص بعد الانتهاء من كتابة القصة يكون عرضة لتغيير منهجه القصصي لعوامل شتى .

أ‌- قصة م 33 :

ابتدأ القاص قصته بمفاجأة « مؤكد أن هذا الرجل الذي يحييني كل صباح بحياد له وجهان ... الخ » , ثم حبك القاص حبكته السهلة من خلال ازدواجية السلوك للبطل « المستخدم» , واضعاً هذه الشريحة في أزمة نفسية « امتهان رجال الحاضرة له وإعلاء رجال البادية من شأنه» , و الامتهان عبّر عنه السارد بقوله : « تناهبته أصوات وقحة ليافعين التحقا بالخدمة حديثاً :-

يا كثر بربرتك – ول – رح – جب – خذ – ود – أنت بالع مسجل – يا ثقل دمك يا مأخوذ .. مع نفحة بعض الألقاب المجانية , ونعته بالصفاقة والادعاء.»

والإعلاء عبّر عنه السارد بقوله أيضاً: « وجوده هنا في هذه الهجر النائية معكوس تماماً, شيخ عام , يأمر فيطاع , يطلب فتلبى مطالبه , نزق لا يصغي لوصايا من حوله , في المساء توقد النار أمامه في الخباء , يحتل صدر المجلس , يساق له الفنجان في الغالب أولاً , ويقدم في الدخول على المائدة», ولم يقم القاص بحل هذه الأزمة أو يقدم للقارئ لحظة التنوير , إنما جعل صراع الشخصية معلقاً مستمراً « لكنه في كل ليلة يهم فيها بالانصراف للنوم يتذكر وجه أول يومه » , فالضغط المسلط على البطل من أبناء الحاضرة من الموظفين لم يضعفه تقديس وإجلال رجال البادية له .

(م 33 ) تصنف ضمن إطار الشخصية « النموذج » , أي الشخصية التي اعتادت سلك سلوك معين لا تفارقه ولا تحيد عنه , وهي يمكن أن تكون جزءاً من متوالية قصصية , ونلمس الروح الكافكية في تجريد البطل من الاسم والاكتفاء بالحرف والرقم .

ب- رقصة السُكر :

ابتدأ القاص قصته بفرشة «العالم أمامي يتمايل , يترنح , يظنه البعض حولي أنه يرقص», ثم يظهر بطله في حالة إعياء وتعب حابكاً حبكته لا غموض فيها ولا تعقيد, « من تهالك شيخ بسمرته الداكنة لا يقوى على مجاراتهم , كان سيفه الذي هوى في الدائرة هو المنبئ بتداعيه نحو الأرض المتربة تحت أقدامهم » , ثم يقدم القاص لحظة التنوير مع التسويغ العقلي لسقوط بطله , « لا الحق ما أكده هذا الطبيب الذي يساعد في نقله عن المكان, فهو لم يصب بالزار , أو نشوة الرقص , إنما أصيب المسكين بالإغماء لفرط انخفاض السكر فيه » .

بنى القاص قصته في جو ميتافيزيقي , ومنح الأسطورة والخرافة حرية التغلغل في فكر بعض الشخصيات , والجريان في جسد النص ولكنه في النهاية يرفض البناء الأسطوري ويرفض الحساسية الجديدة معه , ويتشبث بالواقعية حين يحلل سقوط البطل تحليلا ً واقعياً بانخفاض نسبة السكر في دمه , ليعود بقصته إلى الانتماء إلى الحساسية التقليدية .

جـ- سينما الإرشاد الزراعي :

ابتدأ القاص قصته بمفاجأة أيضاً « أعلن في قريتنا النائية جداً عن كل شيء عن قرب لقائنا الموعود بسينما الإرشاد الزراعي » , ثم يضع مجتمع السرد القروي التفكير في حالة رفض وذهول واستغراب فيما يشبه الصدمة , « - سألناه : ما هي السينما يا أخانا سعد؟!

- هيه .. ألا تعرفون السينما يا قرويون ؟ صور فاتنة وقصص حب ونساء وغناء وأشجار , ركض ومطاردات عنيفة ... »

« قال أحد العقلاء وهو يلفظ اسمها معوجاً : - لو لم تفدنا هذه « السيماء» ما جلبها لنا سيد القرية »

« لكم أن تتصوروا مقدار الوساوس التي داهمتني والتخمينات التي آذتني , حتى أمي تيقنت من قرب جنوني عندما أخذت بالهذيان وأنا نائم على الأرض خارج فراشي , كنت أغمغم وأتمتم بكلمات مبهمة لم تستوضح أمي منها سوى سينما »

« سينما.. يا رب ماذا فعلنا لتعاقبنا .. كان الرجل يهذي ويكرر هذه العبارة محاولاً إفزاع أبنائه بعد أن قرر منعهم من الحضور , فهو سيقفل بيته قبل الغروب, ولن يخرج منه حتى ينقشع هذا البلاء الذي سيحل مع المساء»

« انتزعت الموافقة من أبي من أجل الحضور, وإمعاناً بالموافقة وتقليلاً من رأي أمي المعارض لحضوري, قرر الذهاب معي بنفسه»

« الشيء الذي لم يتجادلوا حوله كثيراً وكان رأيهم فيه بالإجماع هو إبعاد النساء عن الحضور هذه الليلة ».

« ما أن ارتفع الصوت عالياً كالمذياع العملاق حينما يصدح في الفناء حتى انهزم من الحشد ثلاثة, هربوا يلهثون ويستعيذون بالله من هذا الشيطان الرجيم, ورابع انسحب متذرعاً بأنه بحاجة للخلاء ».

ثم يعمل القاص على إزالة الصدمة أو حلحلة العقدة تدريجياً, وما أن تحل حتى يضع في خاتمة القصة مفاجأة أخرى لم يفصح عنها قد تكون عقدة جديدة لقصة ثانية في مجتمع قروي ,« قال أنه يخبئ مفاجأة أخرى قد لا تكون على هيئة سينما الإرشاد الزراعي إنما ترك للمخمنين أن يحدسوا»

القصة قصة حدث, إذ بالغ القاص في كلاسيكيته أو في حساسيته التقليدية وعاد بفن القصة القصيرة إلى بدايته , حيث كانت القصة آنذاك قصة حدث وليست قصة شخصية, وإن حاول أن يجعل من شيخ القرية بطلاً لقصته لكنه لم يكن فاعلاً نصياً , إذ ظل الحدث مهيمناً ومسيطراً في القصة على كل شيء .

د- نشرة لتضاريس الرخام:

يفتتح القاص قصته بفرشة« مستديرة, حكوا أنها بيضاوية, وتدور» ثم ينتقل بالقارئ إلى حبكة غامضة يتخللها الضغط النفسي على مجتمع السرد الذي اختزله السارد في نا الدالة على الفاعلين أو الضمير الغائب المستتر« نحن» الذي يقوم بدور الفاعل النصي, « نتلمسها , نسهر بانتظارها, نلقي نظرة...الخ», ويستمر خيط السرد في انتظامه وترتيبه إلى أن تأتي لحظة الحل أو التنوير في الجملة الفعلية التي قفل بها السارد القصة « تستعر» ولأن الفعل المضارع يشير هنا إلى الاستمرارية فمعنى ذلك أن العقدة لم تحل و أن القصة لم تنتهِ, وأن مجتمع السرد ظل معذباً بالنشرة يبحث عن حل لم يقدمه له السارد.

نشرة لتضاريس الرخام كسينما الإرشاد الزراعي؛ فهي قصة حدث أيضاً , ذلك أن حدث النشرة الإخبارية اليومية بما يتضمنه من كوارث استأثر بالسرد كله وهيمن على الشخصيات المغيبة عمداً, إذ أنها لا وجود لها إلا من خلال تخيلها جالسة أمام شاشات التلفزة, تشاهد وتستمع إلى ما يجري على كوكب الكرة الأرضية , وبالتالي فإن هذا الوجود السلبي يجعلها غير فاعلة نصياً.

هـ- المقصلة:

يستهل القاص قصته بفرشة قصيرة « ما أن فتح باب صالون الحلاقة مخترقا حجب الروائح المكتظة بغبار الشارع القريب وأنفاس القاعدين» , ثم يقدم بطله «الطفل » ويدخله إلى المشهد القصصي , ثم يجعل الأفعال التي يقوم بها الطفل تتعاضد مع بعضها لنسج الحبكة , ويبقي الطفل منذ زمن دخوله الحلاق إلى زمن حلق شعره الذي كان الحل أو لحظة التنوير في أزمة نفسية سببها النواحي الاجتماعية, « يريد التخلص من قهر جدته التي تعيره بأنه مثل البنات , بل أنها تناديه في أحيان كثيرة بأسماء مؤنثة يمقتها, أمه هددته بعنف أكثر هذه المرة بأنها لن تتردد في حز شعره بسكين المطبخ , هذا الشعر سبب له مشاكل كثيرة , نقطة ضعف في عراكه مع أولاد الجيران », وهذه الأزمة النفسية انتهت بحلق شعر الطفل , وينتهي معها صراعه النفسي , وصراعه مع مجتمعه الخاص « الجدة والأم وأولاد الجيران», وينتهي خيط السرد المستقيم بخروج الطفل من الحلاق .

هذه القصة تدخل ضمن قصة الشخصية, ركز فيها المؤلف على شريحة من شرائح المجتمع بشكل واع, وتلمس معاناتها عن قرب, فبدأ كأنه عالم بقارة أعماق الطفل!!

و- اشتعال:

يبدأ القاص قصته بمفاجأة«هراء أن كل هذه السنين برغم طولها قد فرقت بينهما», فالفراق هنا بين الطفلين الحبيبين اللذين قد كبرا هو المفاجأة التي يفاجئ بها السارد القارئ, والتي من خلالها يعلن انضمام قصته إلى الحساسية التقليدية , ثم يستعين المؤلف السارد بالسرد الشعري والسرد الخبري العادي لصنع حبكته الجميلة, وأنعتها بالجميلة لأنه بناها على لعبة الكبريت , ويتوالى السرد المرتب في القصة وينمو عبر الأفعال الماضية ولكنه يقف عند نقطة معينة ليست هي لحظة التنوير , أو لحظة الحل للعقدة, أو انتهاء القصة وبلوغ السرد ذروته و إنما هي نهاية تشبه نهاية قصة نشرة لتضاريس الرخام , نهاية جعلت القصة معلقة زمنياً و أن أعطت الجملة الفعلية « يزداد اشتعالها» إيحاءً بالاستمرارية, «اليوم , كان الزمان قد استدار, الأجساد تباعدت البراءة انطفأت وغابت , الجذوة يزداد اشتعالها ».

القصة تصنف ضمن قصة الشخصية حتى وأن احتوت على شخصيتين اثنتين, ذلك أن المؤلف السارد وزع حصص المعاني على البطلين بالتساوي وذلك من خلال صهرها في حالة وجد طفولي دفعتهما إلى الاشتراك في الفعل , وفعل الفعل نفسه , فصارت علاقة الحب بين الطفلين هي البطل في هذه القصة , « ناولها عود ثقاب وأخذ الآخر , اشتعلت النار ثم أطفأ كل منهما شعلته بنفخة من فم صاحبه , غرس عوده في فمها , وأطبق هو على عودها, برهة صغيرة من الزمن , تلاقت نظراتهما , وأنفاسهما مكتومة , بانفراجة الشفاه الصغيرة تدافعت دوائر الدخان بزهو وهدوء , تضاحكا, واستلقيا على الأرض الندية مفسدين بعض ما صنعا من مكعبات الطين».

وبعد هذا الكشف النقدي لمعمار القصص الست , وهياكلها البنائية , وبالاستضاءة أيضاً بتعريف الحساسية الجديدة يتضح جلياً لنا انتماء القصص إلى السلفية القصصية إلى حد كبير, ويبرز بوضوح اقتدار القاصين الشمري وزعله على نهج المنهج التشيكوفي أو الموباساني وإنتاج قصص تتسم بسمة الأصالة .

2- العنوان في القصص الست :

العنوان في القصة القصيرة ليس زينة يزين بها الكاتب قصته ، أو دالة لفظية للفهرسة أو الترقيم المكتبي ، إنه أكثر من ذلك بكثير ، فهو من صلب العمل القصصي ، ذلك أنه «عتبة يلج منها القارئ إلى عالم الخطاب ودسائسه غير الممكنة , أن العنوان يُعَدّ « مُرسلةّ »مُشّفرة بين النّاص والنّص من جهة , والقارئ والنص من جهة أخرى , وبالتالي فإن رصد العنوان وتفكيكه من شأنه الكشف عن دلالات الخطاب وأسراره »

وقد يكون صنع شخصية قصصية حية أسهل عند القاص من صنع عنوان ذي دلالة ومشبع بالإحالات ويبعث على الإعجاب بتركيبه , ولذلك لا غرابة حين نجد بعض القاصين يحار كثيراً في عنونة قصته , أو يؤجل عنونتها, أو يسقط العنوان منها , أو ربما ترك للناشر حرية صياغته !!!

ومن شروط العنوان الجيد في القصة القصيرة , أن يكون لاحماً بجسد القصة , ومتقاطعاً أو متماساً مع ركن من أركانها, وقد تتحقق له صفة الشعرية إذا حمل اسم المكان ولا ينبغي أن تغفل العلاقة بين المضمون وشكلية العنوان , وهو « يحمل إلى جانب ذلك وظيفة إعلانية مرسلة إلى المتلقي . فهو أول رسالة يواجهها القارئ ليكون المنظم المركزي لكافة عمليات التلقي التالية, كما أنه يتيح إمكانات التأويل الذي ينبني على ثقافة المتلقي )),ومن وظائف العنوان في القصة القصيرة (( أنه يشكل بداية الحكاية , ويحدد مضمونها , ويختصر مسارها , وبه تنهض وتتكون , وتلم شتات أجزائها , فهو جبهتها ومحركها الأول .)).

أ‌- م 33:

عند الوقوف عند المظهر التركيبي لهذه العتبة النصية نجد أنها توازي الشخصية الرئيسة في القصة, وتمثلها في الوجه الأول منها , وغير منفصلة عن سياق النص الفكري , وتتجاور وتتحاور مع مكون من مكونات القصة وهي الشخصيات الهامشية في الوجه الأول (( الموظفون في المصلحة الحكومية)) , والوجه الأول الذي ظهرت به الشخصية هو وجه المستخدم المهان المحتقر المعين على بند الأجور بالدرجة 33 , أما الوجه الثاني الذي ظهرت به الشخصية فهو وجه شيخ القبيلة المهاب المطاع المعين أيضا , والذي يفترض أن يحمل الرقم «1» , وهذا ما قصرت العتبة النصية عن تمثيله في تركيبتها التي أحسن المؤلف صياغتها رغم هذا النقص , على أنه قد يكون مقصد المؤلف من حذف الوجه الثاني من العتبة النصية إحداث مفارقة نصية , وهذا ما تحقق له باقتدار بيّن .

ب‌-رقصة السكر:

عند تحليل هذه العتبة النصية نستنتج أن السلوك الطربي للشخصية الرئيسة((الرقص الحربي )) أضيف إلى سلوكها المرضي (( الترنح من داء السكري )), وبسبب هذه الإضافة الناجعة دخل الانزياح كمكون من مكونات الشعرية إلى هذه العتبة النصية , فأصبح العنوان شعرياً, ولم يخل العنوان من مفارقة ؛إذ أن الصلة وشيجة بين المفارقة والانزياح .

ومن طبيعة هذا العنوان أنه توليدي تناسلي , إذ من الممكن أن يولد منه أو يأتي من نسله عناوين أخرى كرقصة السُّكْر ورقصة الزار , وهذه الصفة التوليدية التناسلية تنسحب على القصة ؛فهي تحرك شهية القارئ لكتابة قصة قد تأتي متناصة معها .

جـ - سينما الإرشاد الزراعي :

هذا العنوان تضمن الحدث ,وهيأ القارئ لمضمون الحكاية , وضيق مساحة الخيال عليه وحصرها, وبواسطته استطاع المؤلف أن يجعل منه بؤرة أو مركزاً لعناصر قصته كلها , ولكنه خلا من أي إمكانية للتأويل أو القراءة .

د- نشرة لتضاريس الرخام:

بنى المؤلف عتبته النصية على خاصية المفارقة ,وطرح فيه إمكانية التأويل ,والدعوة إلى قراءة مقاصده ,أما المفارقة فيتم القبض عليها من خلال وعينا بأن النشرة حدث إخباري يقدم للعاقل وهو "الإنسان " وفارق المؤلف المألوف وغايره فقدم النشرة الإخبارية للجماد وهو "تضاريس الرخام ", وفي هذا الجماد ((الرخام)) أي الحجر الأملس البارد الذي لا يتأثر بالحرارة يكون التأويل , وكشف مقصد المؤلف ,فكأن المؤلف أراد أن يقول من خلال عنوانه :إن المجتمع الإنساني بات كالتضاريس الطبيعية وكالرخام لا يحس ولا يشعر , ولا يصدر عنه أية ردة فعل تجاه الغليان والظلم والقهر الحادث في مناطق معينة من العالم .

العنوان مواز لسياق القصة النقدي والفكري , ويحيل إلى الواقع السياسي العربي , وينفتح على الخطاب الاجتماعي العربي أيضا , ومن الصعوبة إيجاد عنوان كهذا العنوان لقصة بهذا المضمون.

هـ - المقصلة :

بفحص الحوض الدلالي لهذه العتبة النصية نجد الآتي : ((القصل : القطع, وقيل : القصل قطع الشيء من وسطه أو أسفل من ذلك قطعاً . . . , وقصل عنقه: ضربها )), والمقصلة اسم آلة على وزن مفعلة , وهو من الأسماء المستحدثة, وبالرجوع إلى سياق النص لا نجد مقصلة حقيقية , ولا نجد فعلا يدل على القتل أو الضرب , ولم يتبق لنا من دلالة العنوان إلا فعل قطع الشعر, وهو فعل كاف لتمثيل العنوان للقصة ,ولكن هذا الفعل وحده لا يرتقي بالعنوان , ولا يمده بإمكانات للتأويل ,ونظلم المؤلف إذا أوقفنا مقصده عند هذه المباشرة من المعنى, أو هذه المجانية.

فهذه العتبة النصية تقرأ في مستوى الكناية والمجاز, ذلك أن القصل هنا معنوي أكثر من كونه حقيقياً ,ذلك أن الجلوس على كرسي الحلاقة أو الجلوس للحلاقة ارتبط في الثقافة الشعبية المحلية بالخنوع وطأطأة الرأس واستلاب الإرادة لمن هو أحقر شأناً واقل منزلة اجتماعية وهو شخص الحلاق أو الحجام , والحلاقة والحجامة من المهن المبتذلة عند عرب شبه الجزيرة العربية , فكان أن تركت لغيرهم من العجم لامتهانها ,فامتهنها الهنود خاصة, فصار في حكم المثل أن يعير من خنع أو تنازل عن رأي أو مبدأ بالمقولة التالية : حلق شعره الهندي,ولكن هذا التأويل يصطدم بمستوى عمر الشخصية الرئيسة وثقافتها ويضعف,ويقوم مقامه تأويل آخر ,أو تنهض قراءة أصدق ,فالطفل جلس مرغما على الكرسي الأحمر الموازي للكرسي الكهربائي لقصل حريته في الاحتفاظ بطول شعره ,وبذلك تقتصر إحالة العنوان على النفسي ولا تتعدى إلى الواقعي الاجتماعي .

و- اشتعال :

عنوان إحالي , ولكن إحالته محدودة, فهو لا يحيل إلا إلى النفسي فقط , ولا يقرأ إلا كسابقه في مستوى الكناية والمجاز ,إذ بفحص الحقل الدلالي لهذه العتبة النصية نجد الآتي : (( قال اللحياني:اشتعلت النار تأججت في الحطب .

وقال مُرَّة: نار مشعلة ملتهبة متقدة. والشعلة :ما اشتعلت فيه من الحطب أو أشعَلَه فيها ؛ قال الأزهري : الشعلة شبه الجذوة وهي قطعة خشب تشتعل فيها النار )) واشتعال مصدر للفعل اشتعل , وحين نفتش في النص لا نجد اشتعالا حقيقياً لنار في حطب أو في قطعة خشب :إنما نجد اشتعالاً معنوياً ,وهو اشتعال عاطفة الحب بين الطفل والطفلة اللذين قد كبرا , وانتقلا إلى طور الشباب,ومكان هذا الاشتعال في النفس ، وفي النفس لا تتقد شعل حقيقية ,وهذا ما قاله النص وما لم يقله العنوان .

3- البيئة النصية في القصص الست:

يقصد بالبيئة النصية (( المحيط الذي توضع فيه باقي عناصر العمل الفني القصصي , وهي التي تعطي الكاتب شخصية مستقلة توصله إلى العالمية عن طريق المحلية التي يكتسبها من خلال حسن تعامله مع بيئته في القدرة على التعبير عنها قصصيا بحيث تكشف عن الخصائص المميزة لمجتمعه وما للمكان والزمان من خصوصية تختلف عن البيئات المقاربة لبيئته )) .

وبإطالة النظر والإكثار من التفحص والتأمل في القصص الست نكتشف أنها فائضة بالعناصر البيئية إلى الحد الذي أكسبها مزية خاصة,ذلك أنها توافرت لها خاصية نسب نفسها إلى بيئة معينة دون الحاجة إلى أن يقوم باحث بفعل النسبة هذا , وليس هناك أدنى شك في أن هذه القصص تنتسب إلى بيئة المملكة العربية السعودية , فالمكان والزمان في القصص سعوديان , والفاعل النصي سعودي ببعديه الخارجي والداخلي , أضف إلى ذالك ما طرحته القصص من مفردات أخرى تقوي وتعضد هذا الحكم وتجزم بأن القاصين ينتميان إلى البيئة السعودية بحدودها الجغرافية السياسية الآنية .

أ – قصة م 33 :

في هذه القصة مكانان وزمانان , المكان الأول مصلحة حكومية , وهو مكان مغلق ومحدود بحدود معينة حيز مجّتزأ من مدينة أفقد الفضاء النصي شاعريته , فضاق الفاعل النصي به وكرهه , أما الزمان الأول الذي حدده القاص بالصباح فهو زمن عمل الفاعل النصي بالمصلحة الحكومية, أي الزمن الذي يستغرقه الدوام الرسمي , وهو زمن بغيض , ضاغط على الصدر , مذل ، المكان الثاني هجرة نائية , حيز مفتوح غير محدد بحدود , مجتزأ من فضاء واسع لا متناهي هو الصحراء , أما الزمان الثاني فهو ما تبقى من اليوم بليله كله , في هذا المكان والزمان الشعريين يمارس الفاعل النصي شاعريته ويطلق عنان أخيلته , ويقول الشعر ويتزّوج ويجتمع بمريديه ويشعر بالألفة والمحبة ويسترد ما سلبه منه المكان الأول والزمان الأول .

الوضع الوظيفي للفاعل النصي مستخدم في الصباح وأمير هجرة باقي اليوم وضع كائن وموجود في بيئة المملكة العربية السعودية , وهو ماثل بعينه خاصة في الهجر, إذ دأب أمراء الهجر على الاستئثار لأنفسهم بوظيفة المستخدم في المدارس التي أنشأتها الدولة لأبناء البادية إضافة إلى قيامهم بواجب الإمارة , عدا أن الألفاظ التي دارت على ألسن الشخصيات الهامشية هي ألفاظ مستعملة في البيئة السعودية وربما اختصت بها دون غيرها من البيئات الأخرى : (( يا كثر بربرتك , ول , رح , جب , ود , أنت بالع مسجل , يا مأخوذ , يا طويل السلامة , يا زين قصيدك , يا حلو نباك , لا عدمناك )).

ب - رقصة السكر :

المكان ساحة ترابية مهيأة لأداء الرقصة النجدية " العرضة " والزمان هو الليل الذي يستدل عليه بالقرينة اللفظية " الزار " إذ لا زار في نهار كما هو شائع ومألوف , فالحيز المكاني هنا رغم انفتاحه إلا أنه خضع لقانون استدارة الرقصة الحربية , وهذه الاستدارة هي التي منحت هذا الفضاء سمة الشاعرية, ورغم قوانين تلك الرقصة الصارمة التي تحد من حرية الفواعل النصية أو الفاعل النصي الأول وتقيد خياله إلا أن في الشعر والرقص مجالات رحبة لاستعادة الذكريات وتداعي الأمجاد واستعراض الفحولة الرجولية وانبثاق الرؤى الجميلة , ولكن سقوط الفاعل النصي الأول وهو يرقص بسبب داء السكر أسقط الشاعرية كلها معه , ومعروف أن العرضة النجدية باتت فناً عالمياً , وأن منشأها المملكة العربية السعودية , وأن السيف جزء من فخر الإنسان السعودي بسلاحه وهويته العربية , واحتلال السيف نصف شعار المملكة العربية السعودية عدا أنه يرمز للعدل , وللحكم بما أنزل الله , فهو يشير أيضاً إلى جزء أثيل من مقتنيات الإنسان السعودي,فتمنطق الفاعل النصي بالسيف والرقص به عامل بيئي إضافي يؤكد الخصوصية البيئية التي تقدمها القصة.

جـ- سينما الإرشاد الزراعي :

المكان قرية زراعية في أحضان جبل يتفرع منه مكان أصغر هو ساحة في وسط القرية أعدت للحدث الكبير " مشاهدة السينما " , والزمان فحمة الليل " الصفرة " , كان المكان أليفاً مؤنساً قبل مجيء السينما , ولم يكن للزمان " الصفرة " حيث النواهي و الزواجر أي تهديد لأهل القرية قبل مجيء السينما التي دفعتهم للتعرض لإيذائه , ولكن السينما حولت المكان والزمان الطبيعيين إلى مكان وزمان موحشين مرعبين , إلى مأوى ومناخ للشياطين والسحرة فانتفت منهما الشاعرية , هذه قصة تعرض تاريخ دخول المنجز التكنولوجي الحديث إلى بيئة المملكة العربية السعودية , وتعكس رد الفعل الاجتماعي والديني تجاه الآلة الناطقة , أو الحديد الناطق , كالمذياع , والهاتف, والسينما, والتلفزيون, والسيارة, وبالتحديد في فترة حكم الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله , حيث تعرض المجتمع لهذه الصدمة الحضارية , وهذا التسجيل التاريخي الذي تم بطريقة فنية لم ينتزعه أو يستورده المؤلف من بيئة غريبة عنه إنما أتى به من بيئته .

د – نشرة لتضاريس الرخام :

المكان غير معلن في القصة , ولكن يمكن تخيله على أنه غرفة في بيت سعودي , أما الزمان فهو الليل ويستدل عليه بالقرينة اللفظية " نسهر بانتظارها " ولأن الحدث " النشرة الإخبارية " ساخن ملتهب يتميز بالاستعار فقد أحال الغرفة إلى موئل للضجر والتبرم والسخط والقلق ففقدت خاصيتها الشاعرية الحميمة , وبالرغم من أن العناصر البيئية واهية في هذه القصة فقد قدم المؤلف بعض القرائن اللفظية التي تبرهن على انتماء النص إلى بيئة المملكة العربية السعودية كـ" تفاصيل النشرة الأخيرة " , " الفاصل الإعلاني" .

هـ - المقصلة :

المكان محل حلاقة , وهو حيز مكاني ضيق , قذر , أثاثه متهالك , والزمان حيز قصير وضيق أيضاً من بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب , هذا الفضاء الباعث على القرف والاشمئزاز ولّد في وجدان الفاعل النصي " الطفل " وبعث في مخيلته الرؤى المرعبة والمحاذير القاطعة من جدته وأمه , واستحضر له صورة الدم في رؤوس الأطفال , ما يؤكد أن هذا المكان ينتمي إلى البيئة السعودية تلك القرينة اللفظية (( يؤذن للمغرب فيقفل المحل للصلاة)) , وقفل المحلات للصلاة ظاهرة طيبة لا وجود لها في أي بقعة في العالم إلا في المملكة العربية السعودية , بينما يمكن أن ينتمي الفاعل النصي الثاني " الرجل الهندي " إلى بيئات مجاورة لبيئة المملكة العربية السعودية .

و- اشتعال :

المكان حارة في قرية جنوبية من قرى المملكة العربية السعودية , الأجواء فيها ممطرة باستمرار , والزمان زمن الطفولة للفاعلين النصيين , وهو فضاء شعري أليف مولد للأحلام وفاتح الشهية للعب والغزل الطفولي البريء , ومن القرائن اللفظية التي لحمت النص ببيئة المملكة العربية السعودية إزار الولد المبلل وثوب الوالدة العابق برائحة البخور والعنبر ولعبة مكعبات الطين , فالإزار جزء من زي الإنسان السعودي في جنوب السعودية , وكذلك الثوب العسيري جزء من زي المرأة السعودية في جنوب السعودية , ولعبة مكعبات الطين لعبة شائعة هناك .



* قدمت هذه القراءة في الأمسية التي أقامها نادي المدينة المنورة الأدبي في 11/1/1425هـ .


1- قصص الشمري : دم 33 , رقصة السكر , سينما الإرشاد الزراعي , وقصص زعله : نشرة لتضاريس الرخام , المقصلة , اشتعال .
2- أدوار الخراط : الكتابة عبر النوعية , القاهرة , دار شرقيات , 1994م ص 9 .
3- أدوار الخراط : الحساسية الجديدة , بيروت , دار الآداب , 1993م ص 11- 12 .
4- خالد حسين حسين: شعرية المكان في الرواية الجديدة, الرياض, مؤسسة اليمامة الصحيفة, 200م ص 368
5- انظر:صدوق نور الدين : البداية في النص الروائي , دار حوار للنشر , اللاذقية , 1994م , ص71
6- معجب العدواني : تشكيل المكان وضلال العتبات , جدة , النادي الأدبي الثقافي ,1423هـ,ص25
7- فريد الزاهي: الحكاية والمتخيل,أفريقيا الشرق ,الدار البيضاء , 1991م,ص12
8- ابن منظور : لسان العرب . مادة (قصل ) .
9- المرجع السابق : مادة (شعل) .
10 - نورة المري : ملامح البيئة السعودية في روايات إبراهيم الناصر الحميدان , مخطوط , رسالة ماجستير , جامعة أم القرى , ص1



* منقول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى