توفيق الحكيم - التعادلية في الأدب والفن..

.. نجد “التعادلية” تقيم الأدب والفن على أساس قوّتين يجب أن تتعادلا.. هما: قوّة التعبير، وقوة التفسير. فالأثر الأدبي أو الفنّي لا يكتمل خلقه، ولا ينهض بمهمّته، إلا إذا تم فيه التوازن بين القوّة المعبّرة والقوّة المفسّرة.

ما المقصود بالتعبير هنا؟ أ هو الشّكل؟ لا. إنه ليس الشكل فقط، إنه شيء أكثر من ذلك، ولأضرب لك مثلا بسيطًا: فلنفرض أنك سمعت نادرة من النوادر يلقيها شخصان، أحدهما متكلم عادي، والآخر محدّثٌ لبق موهوب. هذه النادرة الواحدة تتخذ عندئذ مظهرين مختلفين، فهي في الحالة الأولى تبدو مجرد حادثة، أما في الحالة الثانية فتبدو هذه الحادة نفسها وكأنها لوّنت أو أضيئت وتحرّكات بحياة نابضة، لا تدري من أين أتتها ولا كيف نفخت فيها. تلك هي قوة التعبير، إنها ليست فقط طريقة الإبراز والإظهار، لأن هذه الطريقة لا تقوم وحدها بغير الحادثة التي في جوفها، فالتعبير إذن ليس مجرد الشكل؛ بل هو الشكل والموضوع معًا، هو الشكل والشيء الذي يتشكل فيه، هو النادرة والأسلوب الذي رويت به. فالأسلوب وحده بغير النادرة لا يعني شيئًا في ذاته، ولا يعبّر عن شيء. فالتعبير إذن يستوجب وجود الأسلوب وموضوعه معًا، لأن التعبير عن شيء يحتّم وجود الشيء.

وقوّة التعبير هي أيضًا توازن وتعادل بين قوة الأسلوب وقوة الموضوع.

فإذا طغى أحدهما على الآخر، فإنك تشعر في الحال أن الوضع غير طبيعي، فالأسلوب البارع والموضوع التافه يثيران في النفس إحساسا بالتكلّف، وكلمة “التكلّف” هنا ليست مجازا ولا مجرد وصفٍ أدبي، بل هي ذات مدلول يكاد يكون ماديًا. فإن الأديب أو الفنان الذي يحتفل احتفالا بالغا بإبراز موضوع، إنما يتكلف فعلا أمرًا لا لزوم له، كمن يرتدي لباس السهرة ليجلس بمفرده في حجرته يتعشى بكسرة خبز! فعدم مراعاة مقتضى الحال تكلف، والتكلف في الأسلوب قبحٌ كما هو في الحياة، لأن شرط الجمال الفني أن يثير في النفس إحساسًا بأنه منبثقٌ من نبعٍ طبيعيّ، ومهارة الفنان هي في إحداث هذا الشعور الطبيعي دائمًا، فإذا أحسّ الناس منه أن جماله خارجٌ من نبعٍ صناعي؛ فقد أخفق.
الأثر الأدبي أو الفنّي لا يكتمل خلقه، ولا ينهض بمهمّته، إلا إذا تم فيه التوازن بين القوّة المعبّرة والقوّة المفسّرة.

كذلك الحال إذا طغى الموضوع على الأسلوب، فالموضوع العظيم في الشكل السقيم يثير في النفس إحساسًا بالتحسّر، كمن يصوغ اللؤلؤة في خاتم من الصفيح. اختلال التعادل إذن في الحالتين بين قوة الأسلوب وقوة الموضوع يحدث الشعور كذلك بأن الوضع غير طبيعي.

قد تسأل: ما هو الأسلوب في الأدب والفن؟ وما هو الموضوع؟ الأسلوب هو طريقتك الخاصة في الظفر بإعجاب الغير وشعوره وفكره؛ ليرى ما ترى، ويحس ما تحس، ويفهم ما تفهم.

وهذه الطريقة في الأدب والفن مردها إلى الاستعداد الفطري والدرس الاكتسابي والاجتهاد الشخصي، فلا بد من بعض الهبة، ولا بد بعد ذلك من الدرس الطويل لمعارف الأعلام وأساليبهم من الأقدمين والمحدثين، و لابد أخيرا من تصرّفك الخاص لتلائم وتوازن بين المحاكاة والابتكار. فإن المحاكاة إذا غلبت عليك فأنت لم تضف شيئًا إلى ما سبقوك، وإذا أسرفت في الابتكار فقد قطعت الصلة بينك وبين الآخرين، وانفصلت حلقتك من سلسلة التطورات الطبيعية في حياة الأدب أو تاريخ الفن. هكذا فعل “شكسبير” و”بتهوفن” فيما قاما به من محاكاة وابتكار.

أما الموضوع في الأدب والفن؛ فهو كل ما تستطيع أن تثير به اهتمام الناس، على نحوٍ غير مسف ولا فارغ ولا مبتذل.

وليس للموضوع العظيم أو التافه شروط معيّنة أو معالم محدّدة، فتقديره متروك لعبقرية الأديب أو الفنان، فقد يتناول بمواهبه السحرية موضوعًا نحسبه تافهًا، فإذا هو يخلق منه بقلمه أو ريشته أو مطرقته أو ألحانه شيئًا يثير اهتمام الناس في جيله، وفي جميع الأجيال.

فالموضوع لا تتحدد صفته العظيمة أو التافهة إلا بعد أن يصب فعلا في الأثر الأدبي أو الفني، فالوردة أو الآنية أو التفاحة قد تكون موضوعًا تافها أو عظيما؛ تبعًا للفنان الذي يتناولها، أي تبعًا لدرجة خبرته وإحساسه وقدرته على النفوذ إلى حقائق الأشياء، أو تبعا للطريقة التي يختارها الفنان. فموضوع “هاملت” كان من الممكن أن يبقى موضوعًا تافهًا عاديًا لو عالجه شاعرٌ عادي، وموضوع “هاملت” نفسه كان يمكن أن يصبح في خفة موضوع “زوجات وندرسور المرحات” لو أن شكسبير اختار أن يجعل منه مسرحية ضاحكة عابثة بدلا من تلك المسرحية الفكرية الجليلة، وشكسبير كان يدرك بسليقته الفنية معنى التعادل بين الأسلوب والموضوع؛ فكان إذا أراد الجد اتخذ أسلوبه ما يناسب ذلك من العمق، وإذا أراد الهزل خف أسلوبه فلم يثقله بكنوز فكره. كان إذا أراد للفكر أن يتألق كالجوهرة كي يضيء حقائق الكون صاغه في معدنٍ نفيس من أسلوب عميق، وإذا أراد للنفس أن تضحك لتلهو ساعة عن تعب الحياة استخدم معدنًا رقيقًا من أسلوبٍ خفيف.

ولو أنه صنع العكس، وكتب “هاملت” بأسلوب “زوجات وندرسور المرحات” لكان كالصائغ الذي لا يستطيع أن يلائم بين الجوهر والخاتم. والمقصود بالأسلوب هنا ليس بالطبع اللغة وحدها، بل ما تحمله اللغة في جوفها من ألوان الصور والأفكار، وأسلوب الفنان، بمعنى الطابع، واحد بلا شك في سِمتِهِ العامّة. ولكنه يتغير في درجة الدسامة أو الكثافة تبعًا لألوان الطعام الفني التي ينتجها، فطابع “شكسبير” واحدٌ في فنّه، ولكن درجة الدسامة في أسلوبه تختلف باختلاف أنواع مسرحياته، كذلك طابع “بتهوفن” واحد في موسيقاه، ولكن درجة الدسامة تختلف في بعض السيمفونيات عنها في بعض السوناتات.

وهذه الدسامة والرقة والعمق والخفة؛ حالات تتعاقب على الفنان، تعاقب الليل والنهار، والخريف والربيع، دون أن تخضع لترتيب منطقي، فقد يرى البعض أن المنطق يقضي أن يبدأ الفنان حياته بالخفة وينتهي إلى العمق، ولكن هذا المنطق لا يخضع له الفنان، فـ “شكسبير” بعد أن أبهرنا بعمقه في “هاملت” أضحكنا بخفته في “العبرة بالخواتيم”. و”بتهوفن” بعد أن وضع في سيمفونيته الخامسة العظيمة روح الفلسفة، تجده قد مزج سيمفونيته الثامنة الرقيقة بنسيم الخفة، فالفنان لا يسير دائمًا في خطٍ مستقيم، والتطور عنده ليس الانتقال المباشر من حسنٍ إلى أحسن، أو من عميق إلى أعمق، ولكنه كالطبيعة يتطور من خلال التجربة الذاتية تبعا لقانون الفعل ورد الفعل، أي من خلال تجارب متباينة تكشف عن إمكانيات الذات اتجاهاتها المختلفة، والفعل ورد الفعل هما أداة التجربة الكاشفة عن الإمكانية، لا عند الإنسان وحده، بل عند الكائنات جميعًا.
قوّة التعبير هي توازن وتعادل بين قوة الأسلوب وقوة الموضوع.



ومع ذلك، من يدري حقيقة ما نسمّيه النور والظلام، والارتفاع والانخفاض، والعمق والخفة، والدسامة والرقة؟ لعلها كلها على اختلافها، حركات ضرورية لتكون الحياة حياة، ولعلها كذلك في محيط الأدب والفن، هي العناصر الضرورية التي يتألف منها “التعبير”.

فملكة التعبير عند الأديب أو الفنان لا يمكن أن تظهر كل أشعتها وألوانها وأنغامها إذا لعب بها على وترٍ واحد مهما يكن هذا الوتر قويًا بليغًا صافيًا نقيًّا. ماذا كنا نفضل وماذا كان يفضل الفن والإنساني؟ أن يخرج لنا شكسبير كل مسرحياته على نسق “هاملت” أسلوبًا وفكرا وارتفاعًا؟ أو يلون لنا كل هذا التلوين في التعبير، فيجدُّ مرة ويهزل أخرى، ويعبس ثم يبتسم، ويرتفع ثم يتبسّط، ويطرق متأملاً ثم يقهقه ضاحكًا، ويكون تارة فيلسوفا وتارة مهرّجا، وحينا شاعرا وحينا ساخرًا؟ إن عظمة شكسبير هي في أنه استطاع أن يكون كل ذلك، وقدرته هي في أنه ملك من أوتار التعبير مقدارا أخرج كل الألوان وكل الأنغام وكل الأصوات وكل الضحكات.

ذلك هو “التعبير”. قوته ليست في مجرد ارتفاعه، بل أيضًا في اتساعه، والتعبير من غير شك هو كل شيءٍ في نظر الفن، ولكن “التعبير” ليس كل شيء في نظر “التعادلية”، فقوّة التعبير يجب أن تقترن في الأدب والفن بقوة “التفسير”.

ما هو التفسير؟

هو الضوء الذي يلقى على موضوع الإنسان في الكون والمجتمع. فالأدب أو الفن التعادلي يجب أن تتوازن فيه القوة المعبرة والقوة المفسّرة. فالقوة المعبرة وحدها لا تكفي، لأنها قد تكشف عن مجرد وجودها، ولكنها قد لا تشع ضوءا يكشف عن وجود غيرها. القوة المعبرة قد تكون جميلة في ذاتها كاللؤلؤة، ولكنها مثلها؛ حبيسة جمالها، لا تضيء غيرها، إنها ليست كالماسة المتألقة التي تشع في الظلام أضواءً تكشف عن وجود أشياء أخرى.

والأديب أو الفنان قد يعبر عن الحياة، ولكنه لا يفسرها، أي أنه قد يجيد وصفها بالحالة التي هي عليها، أو يجمّلها بوشى مصطنع، أو يقبّحها بتشويه مقصود، وهو في كل هذه الأحوال يريد اللهو بأداة التعبير تارة، أو استخدامها للدعاية تارة أخرى.

ولكن الوقوف عند حدود التعبير ليس كل مهمة الأديب أو الفنان التعادلي، لأن التعبير وحده على علو قيمته الأدبية والفنية قد يحبس أهداف الأدب والفن في نطاق التهذيب الروحي والإمتاع النفسي، ومهما يكن نبل هذه الأهداف وكفايتها، فإن المطلوب من الأديب أو الفنان –خصوصا في العصر الحديث – أن تمتد رسالته إلى أبعد من هذا النطاق.

المطلوب منه هو أن يهذب ويمتع، ثم يلقي في نفس الوقت ضوءا كاشفا موجها في طريق الإنسانية. فالأدب أو الفن يجب أن يكون معبّرا ومفسّرا؛ أي أن تتعادل قوة التعبير وقوة التفسير في الأثر الأدبي أو الفنّي، إذا طغت قوة التعبير طغيانا بالغا، فإن قسطا هامًّا من رسالة الأديب أو الفنان لم يبلغ للناس، وإذا طغت قوة التفسير حتى كادت تتلاشى بجانبها قوة التعبير، فإن صفة الأدب أو الفن ذاتها تهدد بالانهيار، إذ لا بدّ لوجود أي أدب أو فن من ضمان قوة التعبير قبل كل شيء، فموهبة التعبير الأدبي أو الفني، أي بالاختصار: الأديب أو الفنان يجب أن يوجد أولا بأداة أسلوبه الرائعة البارعة القوية قبل النظر في أمر الرسالة التي سيحملها.
التعبير يشمل الأسلوب والموضوع: أي الشكل والمضمون، وبه يمكن أن يتم الأثر الأدبي أو الفنّي في ذاته. أما التفسير؛ فهو الرسالة التي يحملها الأثر الأدبي أو الفني بعدئذ للبشرية، ليقول فيها كلمته عن وضع الإنسان في كونه وفي مجتمعه.
الفن للفن هو حبسٌ للفنان في هيكل الشكل، والفن الملتزم هو حبسٌ للفنان في سجنِ المضمون.

وليس كل أثر أدبي أو فني يحمل تفسيرا أو رسالة في هذا الشأن. فكثير من الآثار رسالته هي في مجرد روعة تعبيره، فالبحتري مثلا هو تعبير، في حين أن أبا العلاء تعبير وتفسير معًا، لأن الكثير من شعره يحمل إلينا رأيه في وضع الإنسان ومصيره، وشكسبير هو في شعره الغزلي تعبيرًا، أما في مسرحياته – مثل “هاملت” وغيرها – فهو تعبير وتفسير معًا.

وبتهوفن في “سوناتا ضوء القمر” هو تعبير، بينما هو في السيمفونية الثالثة يحمل إلينا كلمته في الإنسان والبطولة، وفي السيمفونية الخامسة ينقل إلينا قولته في الإنسان والقدر، وكذلك في السيمفونية التاسعة وفي كثير من كونسبرتاته يريد أن يقول لينا شيئا أكثر من مجرد اللحن الجميل.

والتعبير وحده قد يؤدي بنا إلى “الفن للفن”، إذا أسرف في الهيام بجمال الشكل والتأنق في المبنى على حساب المعنى والمضمون. والتفسير وحده كذلك قد يؤدي إلى “الفن الملتزم” إذا أسرف في التقيّد بمعنى خاص و مضمون معين ليس إلى التحرر والاستقلال عنهما من سبيل.

فالفن للفن هو حبسٌ للفنان في هيكل الشكل، والفن الملتزم هو حبسٌ للفنان في سجنِ المضمون. والسجن في الحالين يمنع الفنان من تبليغ رسالته كاملة.. تلك الرسالة التي تنبع من الحرية دائمًا، لتبشّر بالحريّة.

المصدر: كتاب (التعادلية في الإسلام) لـ توفيق الحكيم، دار الشروق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى