عباس محمود العقاد - الأدب بين الوجدان والتفكير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. إن القارئ يفهم من بعض الكتب الحديث أن الأدب فن، والفن يختص بالوجدان، فعلى ذلك ماذا يكون حكمنا على الإنتاج الذي يغلب عليه الطابع الفكري؟ أرجو أن اقرأ ردكم على صفحات الرسالة، ولكم وافر الشكر والسلام

فتحي السمن محمد

إذا قلنا الأدب (يختص) بالوجدان ففي هذا القول جانب كبير من الصواب.

ولكننا إذا قلنا هذا وسكتنا عليه فقد يفوتنا أكثر الصواب، يجمع الفائدة من المعني المقصود في هذا الباب.

فأي وجدان هو هذا الوجدان للذي يعتمد عليه الأدب أو يعتمد عليه الفن أو الفنون على التعميم؟

أن الإنسان الهمجي له وجدان وشعور، ولكن وجدانه يكتفي بما يكفي غريزة الحيوان أو يزيد قليلا على غريزة الحيوان.

والإنسان (الصوفي) له وجدان وشعور، ولكنه إذا عبر عن وجدانه وشعوره دق تعبيره على عقول الكثيرين أو الأكثرين

فليس شرط الوجدان أن يكون مقصورا على أجهل الناس وأعجزهم عن التفكير.

لأننا لا نرادف بين معني الجهل ومعني الوجدان في اللغة ولا في مصطلحات الفنون والعلوم.

هذه حقيقة من الحقائق التي يحسن بنا أن نحضرها في إخلادنا حين نعرض لحديث الفن والجدان.

وحقيقة أخرى ينبغي أن نحضرها في إخلادنا أبداً لأن إغفالها يفسد كل تعريف مفيد في هذا الباب، وهي أن الأدب الرفيع لم يخلو قط من عنصر التفكير، وشاهدنا على ذلك أدب الفحول من شعراء الأمم العالمين، ومنهم أمثال شكسبير وجيتي والخيام وأبو الطيب.

ونخص الشعراء بالذكر لأن صدق هذه الملاحظة فيهم يجعلها أقمن بالصدق على الأدباء الناثرين.

فأغاني شكسبير مثلا سلسلة من الأفكار التي يمزج فيها الفهم بالشعور، ودع عنك قصائده التي نظمها في الروايات أو أجراها على السنة الرجال والنساء. فأن شعر الأغاني أحق شعر أن يقصر عليه (الوجدان) إذا صح ما يفهمه بعضهم من الأغراض الوجدانية وخلوها من التفكير.

وقصة (فاوست) الكبرى - وهي أعظم أعمال جيتي - هي فلسفة الحياة والبقاء، وفلسفة الخير والشر، وفلسفة المعرفة والضمير.

وليس فهمها بأيسر من فهم قضايا المنطق أو معادلات الرياضة والكيمياء.

ورباعيات الخيام يصح أن تسمى (فكر الخيام) لأن الرباعية منها تدور على فكرة أو خلاصة أفكار ولا يمنعها الشعور أن تكون شعور إنسان من المفكرين.

والحكم على المتنبي ميسر لمن يقرأ العربية وحدها ولا يقرأ غيرها من اللغات.

وليس في قصائد المتنبي قصيدة واحدة يقول القائل إنه أهمل الفكر فيها، أو إنها وجدان بغير تفكير.

ومن أمثلة ذلك هذه (القضية) التي صاغها في بيت من الشعر حيث يقول:

وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا

أو هذه القضية التي صاغها في هذا البيت:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل

أو هذه التقسيمات الوافية التي يقول فيها.

تصفو الحياة للجاهل أو الغافل ... عما مضي منها أو ما يتوقع

ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع

فأن التفكير إذا ذهب في هذا المعني إلى غايته لم يأتي فيه بمزيد بعد الجهل والغفلة والمغالطة في الحقائق. وهي شروط صفاء العيش في حكمة هذا الحكيم، أو في شعور هذا الإنسان.

وندع الشعر إلى الغناء والموسيقي، وقد يخلوان من اللفظ ولا يخلوان من التفكير.

فنشيد الرعاة وجدان.

والحان فاجنر وجدان.

ولكن الفرق بين الوجدانيين كأبعد فرق بين شيئين يوجدان في طبيعة إنسان.

ومن الحقائق التي تحضر في هذا السياق أن نقص الفكر ليس بزيادة في الحس والوجدان، وان زيادة الفكر لا تمنع الإنسان أن يحس وان يتسع وجدانه لأوسع آفاق الحياة.

فقد ينقص فكر الإنسان وينقص حسه على السواء، وميزة الإنسان دائما أن يحس إنه يفكر وان يفكر إنه يحس، وان يكون نصيبه من الإنسانية على قدر نصيبه من الفكر والإحساس، فليس هو بإنسان كامل إذا خلا من التفكير، ولا يكون الأدب كاملا وهو يعبر عن إنسان ناقص في الزم مزاياه.

وللأدب بحوث غير بحوث العلم والدراسات الاجتماعية أو الاقتصادية.

فهل تحسب هذه من الأدب أو لا تحسب منه لأنها تحتاج إلى تفكير؟ وهل يمكن أن يتم بحث بغير تفكير ولو كان من البحوث في الشعر والإحساس؟

فالبحوث الأدبية أدب وليست علما بالمعني المعروف للعلوم التجريبية، لأن البحوث العلمية تتفق في النتيجة ولو جرت على أيدي مئات من العلماء. وقد يبحث ألف ناقد في ديوان واحد ثم يخرجون منه وكل منه ينقض أقوال الآخرين أو لا يلتقي بهم في موقع لقاء. وإنما يفعلون ذلك لأن الباحث منهم يعتمد في فهم المعني على مرجعه من الإحساس، فيفهم الإحساس على وجه ويفهمه غيره وجوه. ولا يقال من اجل ذلك أنهم ينبغي أن لا يفهموا أو لا يفكروا لأنهم يحسون!

وبعد، فأن الإحساس طبقات وليس بطبقة واحدة بين جميع الناس.

وكل طبقة من هذه الطبقات فهي لغز مغلق بالنسبة إلى من يقفون دونها ولا يرتفعون إليها، فإذا عبر أحد منها عن شعوره ولم يفهمه الذين يقصرون عنها ويهبطون دونها فليس ذلك بمخرجه من أفق الشعور الذي هو فيه، ولكنه يخرجهم من ذلك الأفق الرفيع.

ولعلنا بحاجة إلى التنبيه إلى سخافة شائعة في مصر والشرق بين أدعياء الإحساس ممن لا يحسون ولا يفكرون، وهي اعتقادهم أن الإحساس والتخنث مترادفان. ويوشك أن يموت الإنسان عندهم من فرط الإحساس، لأنه يحس في زعمه بمقدار ما يتراخى ويتخاذل ويئن وينوح!.

وأحوج ما يحتاج إليه هؤلاء المتأنثون (مزعج) قوي ينقذهم من (فرط الإحساس) على مذهبهم الذي لا فرق فيه بين فرط إحساسهم وبين الموت. . . أو الإغماء على أهون تقدير: صفعة على القفا هي (جرعة) نافعة ناجعة في علاج هذا الداء. صفعة على القفا بقلم الكاتب، أن لم تكن بالقلم المعهود في لغة الأكف والأقفاء!

ونخلص من هذا جميعه إلى قول واحد يجمل جميع الأقوال في الفن والأدب، وهو أن الفن والأدب وجدان ولكنه وجدان إنسان، ولا يكمل الإنسان بغير الارتفاع بطبقة الحس والارتفاع بطبقة التفكير فلا يخلو الأدب المعبر عنه من هذا وذاك، ولا يقاس نصيبه من الحس بمقدار نقصه في التفكير، ولا يقال أن أحس تماماً لأنه لم يفكر تماماُ؛ بل يقال أن التمام في مزاياه الإنسانية أن يتم له الحس ويتم له التفكير.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 733
بتاريخ: 21 - 07 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى