حينما كنتُ صبياً
نائماً في المهدِ
كانتْ مَدني تفتحُ عينيَّ على أعيُنِها
و تُناغيني بلطفٍ
و تُغنيني..تهدهدُني على أُرحوجةِ الإيناسِ
و الدفئِ مليا،
ثم تدعوني إلى الرقصِ على إيقاعِ هُدْبيها
على غمازةِ البنتِ الغريرةْ
التي كانَ لها وقعٌ ربيعيٌ بقلبي
وهي تُدعَى لتعاطي تلكُمُ (الكيكةْ) الشهيةْ،
فتراني بالغَ الرغبةِ مشدوداَ إلى نكهتِها
وإلى بَشَرَتِها الورديةِ..الناعمةِ ..الرطبةِ طوراً
ثم أطواراَ إلى زهوِ البنفسجْ
و نَدَى النّوارِ و البُرعُمِ
يجلو سَحنةْ البنتِ
و يغزو وجْنتيْها،
شارداً..مستغرقاً في صَبْوتي
في عالمي السحريِّ
أو في نزواتِي المَخْمَلِّيةْ.
مدني كانت تهاديني
المناديلَ
القناديلَ
المراياَ
في انسيابِ الأُفُقِ عبرَ وُشاحِها النيليِّ
صبحاً..و عشيِّا،
و تُعريني
و تكسوني من الأحلامِ ثوباً
طالما كانَ قشيباَ
و غريباً
و هلامِيِّاً
و مسكوناً بسحرِ الرعشةِ العشقيةِ الأولَى،
و سحرِ الأنتشاءِ الإحتفائِيِّ
الإنتشاءِ الشاعريِّ
المترعِ الأكمامِ باللهفةِ
و النبضِ الأمومِيْ
الإنشاءِ الأريحيِّ الأخضرِ
المحفوفِ بالأزهارِ
و اللؤلؤِ
و الوجدِ الشفيفْ.
في رؤَى (حنتوبَ) تخْضَوْضِرُ من بُعدٍ
و حفلاتِ المدارسْ
في افتتاحِ المسرحياتِ الصغيرةْ،
و على وقعِ الأناشيدِ الأثيرةْ
و هي تأتيني كأنغامِ اليمامْ
و ترانيمِ الحفيفْ
في بساتينِ (الجزيرةْ).
و انا انظرُ من برجِ الحمامْ
بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ و منارةِ العهدِ التليدِ
كانتِ اللهفةُ تُلقيني
على خَفْقِ جناحينِ من الأَذكارِ و (الدوبيتْ)
تُلْقيني بعيداً
بينَ أحزانِ و أَخطارِ الرصيفْ،
في مهاوِي شُرطةِ الأمنِ الغفيرةْ
و هي تُلقي بدخانِ السُلُطاتِ الأَجنبيةْ،
فإذا بي شاخصاً في موقِفي
لاهثاً ما بينَ أَشتاتِ الرؤَى
مالئاً قلبي و عينيَّ
من الأطيافِ
و الدهشةِ
و الرهبةِ
شجواً ..و انخطافاً
و حنيناً..و انبهامْ،
ثم تُلقينيَ حيناً
بينَ أمطارِ أناشيدِ الخريفْ.
كانتِ الأشجارُ من نخلٍ و (نيمْ)،
كانتِ الأطيارٌ من (ودَ النعيمْ)،
تعبُرُ الشارعَ يومياً
على أوتارِ قلبي
و هو يرتجُ و يعتادُ الصهيلْ،
تحتَ إيقاعِ النساءِ البارعاتِ النقرِ في قلبِ الطبولْ
النساءِ الماهراتِ اللمسِ في ثغرِ الدفوفْ
و التغني بِبِشاراتِ الفرحْ
و نداءاتِ (العديلْ).
(يا عديله يا بيضا
يا ملايكا سِيري معا
الليله شويم بي قُدُرْةَ الله
و الليله العديله تقدموو تَبْراه
و الليله العديله ساهله ليلكْ بيضا)
و على وقع ِاهازيجِ العذارَى
البناتِ الضَّامراتِ الخَصْرِ
يا ...
و الضَّارباتِ اللَّونِ للسُمْرَةِ
في النهرِ.. و في رُطَبِ النخيلْ،
البناتِ العالياتِ الصدرِ
و الأحلامِ
و النشوةِ
و الصوتِ الجميلْ!
و هو يفترَّ كأقواسِ القُزَحْ
في أغاني العُرسِ
(و السيرةِ) في وقتِ الأصيلْ،
زَيْنِ أوقاتِكَ يا و عدَ البديلْ
يا مزاميرَ الخليلْ،
يا امتدادَ النهرِ.. و(البركلِ)... في (عبدِ الفضيلْ)
(يا حْليلْ حِليلْ شخصو النبيلْ
يا حْليل ْحِليلْ محيوْ الجميلْ
تعالْ نعيدْ أيامنا ديلْ
أيام نقيِّل في الخميلْ
ويا السني عادْ يرجعْ يميلْ
و يفرِّح القلبَ الرهيفْ
و يجمِّلْ الوطنَ الجميلْ)
قلتُ يا مولايَ
ما هذا الجناحُ الرطبُ
ما هذا الأسى و الحزنُ
هذا الإشتهاءُ السرمديُّ
الإشتهاءُ اللا نهائيُّ.. الخُرافيُّ.. النبيلْ؟
جاوبتني غزلياتُ الرياحِ البكرِ
صبراً
يا أخا الأحلامِ
يا ولدَ الأغاني
يا سليلَ النهرِ
و التاريخِ
و المنفى
يا وعدَ التنائي
و التسامي
و الرحيلْ!
أَدخُلِ الآن إلى هذا النهارِ الإستوائيِّ
الذي عتَّقَ ضوءَ الشمسِ
في وجهِ.. و في أسيافِ (تِهْراقا)
و أعناقِ الجيادِ.. الذائعاتِ الأصلِ و المَسعَى
تزوّدْ من لِقاح ِالوجدِ
في قيثارةِ الأعرابِ و الزَنجِ..الخُلاسيينَ
حيِّ صولةِ الثوَّارِ و الفقراءِ
و الإيثارِ و الحكمةِ
في أمثالِ..(ودْ تكتوكَ)
أو في غَضْبةِ( المَكِّ) و (ودْ حبوبةْ)
و (القرشي) و( طه)
وهُمو يمشونَ للموتِ
كما يمشي العريسُ... إلى احتفالاتِ الزفافِ..الإفتتاحِيِّ
عريسٌ من بلادي،
و هو يُلقي بيديهِ
لندى الحنَّاءِ في أيدي النَّدى و الفتياتِ
ثمَ في سيلِ الزغاريد.. و مسكِ الأغنياتِ
و طبلِ إيقاعِ الأيادي:
(الوافرْ ضُراعو
أمَّنتو الرسول
مامون للوِداعه
بريت دار أبوك)
(نورةَ الموت عليك زي نورةَ العريس الساير وكتين العُمُر عاريَّه خَلْو يسافر)
ثمَ حيِّ شُعلةَ الأجيالِ و الأشبالِ
ما تفتأُ تخضرُ وتزهو
فوقَ تيجانِ الحروفِ
وفوقَ صرحِ العبقرياتِ
و تزدادُ بنارِ الطَلقِ و الحمَّى إتِّقاداً
و اشتعالاً
و سُعاراً
و اختزانْ!
ثم خُذْ نارنْجَةَ التحريمِ و اسبحْ
عبرَ هذا النهرِ في مِصْلاةِ شيخٍ
إسمُهُ (السُنيُّ) أو (يُوسُفُ)
و اضربْ بعصاكَ القصبيةْ
ذلكَ التِمساحَ حَوِّلْهُ إلى حجرٍ
ليشهدَ ثُمَّ يبقى
أبدَ الدهرِ مثالاً
لامتدادِ الروح ِفي جسمِ المكانْ
ووقوعِ الأرضِ في أسرِ الزمانِ
اللازمانْ!
الزمانِ الدائريِّ
الإنكساريِّ
الزمانِ الغامضِ الأخبارِ
في مدني و أسرارِ الهوى،
الزمانِ الضاربِ الأغوارِ
في مدني
و أسرارِ النَّدى والعشقِ
أسرارِ النزيفْ.!
* المصدر:
أشعار معتصم الإزيرق: أسرار الندى والعشق - سودانيات .. تواصل ومحبة
نائماً في المهدِ
كانتْ مَدني تفتحُ عينيَّ على أعيُنِها
و تُناغيني بلطفٍ
و تُغنيني..تهدهدُني على أُرحوجةِ الإيناسِ
و الدفئِ مليا،
ثم تدعوني إلى الرقصِ على إيقاعِ هُدْبيها
على غمازةِ البنتِ الغريرةْ
التي كانَ لها وقعٌ ربيعيٌ بقلبي
وهي تُدعَى لتعاطي تلكُمُ (الكيكةْ) الشهيةْ،
فتراني بالغَ الرغبةِ مشدوداَ إلى نكهتِها
وإلى بَشَرَتِها الورديةِ..الناعمةِ ..الرطبةِ طوراً
ثم أطواراَ إلى زهوِ البنفسجْ
و نَدَى النّوارِ و البُرعُمِ
يجلو سَحنةْ البنتِ
و يغزو وجْنتيْها،
شارداً..مستغرقاً في صَبْوتي
في عالمي السحريِّ
أو في نزواتِي المَخْمَلِّيةْ.
مدني كانت تهاديني
المناديلَ
القناديلَ
المراياَ
في انسيابِ الأُفُقِ عبرَ وُشاحِها النيليِّ
صبحاً..و عشيِّا،
و تُعريني
و تكسوني من الأحلامِ ثوباً
طالما كانَ قشيباَ
و غريباً
و هلامِيِّاً
و مسكوناً بسحرِ الرعشةِ العشقيةِ الأولَى،
و سحرِ الأنتشاءِ الإحتفائِيِّ
الإنتشاءِ الشاعريِّ
المترعِ الأكمامِ باللهفةِ
و النبضِ الأمومِيْ
الإنشاءِ الأريحيِّ الأخضرِ
المحفوفِ بالأزهارِ
و اللؤلؤِ
و الوجدِ الشفيفْ.
في رؤَى (حنتوبَ) تخْضَوْضِرُ من بُعدٍ
و حفلاتِ المدارسْ
في افتتاحِ المسرحياتِ الصغيرةْ،
و على وقعِ الأناشيدِ الأثيرةْ
و هي تأتيني كأنغامِ اليمامْ
و ترانيمِ الحفيفْ
في بساتينِ (الجزيرةْ).
و انا انظرُ من برجِ الحمامْ
بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ و منارةِ العهدِ التليدِ
كانتِ اللهفةُ تُلقيني
على خَفْقِ جناحينِ من الأَذكارِ و (الدوبيتْ)
تُلْقيني بعيداً
بينَ أحزانِ و أَخطارِ الرصيفْ،
في مهاوِي شُرطةِ الأمنِ الغفيرةْ
و هي تُلقي بدخانِ السُلُطاتِ الأَجنبيةْ،
فإذا بي شاخصاً في موقِفي
لاهثاً ما بينَ أَشتاتِ الرؤَى
مالئاً قلبي و عينيَّ
من الأطيافِ
و الدهشةِ
و الرهبةِ
شجواً ..و انخطافاً
و حنيناً..و انبهامْ،
ثم تُلقينيَ حيناً
بينَ أمطارِ أناشيدِ الخريفْ.
كانتِ الأشجارُ من نخلٍ و (نيمْ)،
كانتِ الأطيارٌ من (ودَ النعيمْ)،
تعبُرُ الشارعَ يومياً
على أوتارِ قلبي
و هو يرتجُ و يعتادُ الصهيلْ،
تحتَ إيقاعِ النساءِ البارعاتِ النقرِ في قلبِ الطبولْ
النساءِ الماهراتِ اللمسِ في ثغرِ الدفوفْ
و التغني بِبِشاراتِ الفرحْ
و نداءاتِ (العديلْ).
(يا عديله يا بيضا
يا ملايكا سِيري معا
الليله شويم بي قُدُرْةَ الله
و الليله العديله تقدموو تَبْراه
و الليله العديله ساهله ليلكْ بيضا)
و على وقع ِاهازيجِ العذارَى
البناتِ الضَّامراتِ الخَصْرِ
يا ...
و الضَّارباتِ اللَّونِ للسُمْرَةِ
في النهرِ.. و في رُطَبِ النخيلْ،
البناتِ العالياتِ الصدرِ
و الأحلامِ
و النشوةِ
و الصوتِ الجميلْ!
و هو يفترَّ كأقواسِ القُزَحْ
في أغاني العُرسِ
(و السيرةِ) في وقتِ الأصيلْ،
زَيْنِ أوقاتِكَ يا و عدَ البديلْ
يا مزاميرَ الخليلْ،
يا امتدادَ النهرِ.. و(البركلِ)... في (عبدِ الفضيلْ)
(يا حْليلْ حِليلْ شخصو النبيلْ
يا حْليل ْحِليلْ محيوْ الجميلْ
تعالْ نعيدْ أيامنا ديلْ
أيام نقيِّل في الخميلْ
ويا السني عادْ يرجعْ يميلْ
و يفرِّح القلبَ الرهيفْ
و يجمِّلْ الوطنَ الجميلْ)
قلتُ يا مولايَ
ما هذا الجناحُ الرطبُ
ما هذا الأسى و الحزنُ
هذا الإشتهاءُ السرمديُّ
الإشتهاءُ اللا نهائيُّ.. الخُرافيُّ.. النبيلْ؟
جاوبتني غزلياتُ الرياحِ البكرِ
صبراً
يا أخا الأحلامِ
يا ولدَ الأغاني
يا سليلَ النهرِ
و التاريخِ
و المنفى
يا وعدَ التنائي
و التسامي
و الرحيلْ!
أَدخُلِ الآن إلى هذا النهارِ الإستوائيِّ
الذي عتَّقَ ضوءَ الشمسِ
في وجهِ.. و في أسيافِ (تِهْراقا)
و أعناقِ الجيادِ.. الذائعاتِ الأصلِ و المَسعَى
تزوّدْ من لِقاح ِالوجدِ
في قيثارةِ الأعرابِ و الزَنجِ..الخُلاسيينَ
حيِّ صولةِ الثوَّارِ و الفقراءِ
و الإيثارِ و الحكمةِ
في أمثالِ..(ودْ تكتوكَ)
أو في غَضْبةِ( المَكِّ) و (ودْ حبوبةْ)
و (القرشي) و( طه)
وهُمو يمشونَ للموتِ
كما يمشي العريسُ... إلى احتفالاتِ الزفافِ..الإفتتاحِيِّ
عريسٌ من بلادي،
و هو يُلقي بيديهِ
لندى الحنَّاءِ في أيدي النَّدى و الفتياتِ
ثمَ في سيلِ الزغاريد.. و مسكِ الأغنياتِ
و طبلِ إيقاعِ الأيادي:
(الوافرْ ضُراعو
أمَّنتو الرسول
مامون للوِداعه
بريت دار أبوك)
(نورةَ الموت عليك زي نورةَ العريس الساير وكتين العُمُر عاريَّه خَلْو يسافر)
ثمَ حيِّ شُعلةَ الأجيالِ و الأشبالِ
ما تفتأُ تخضرُ وتزهو
فوقَ تيجانِ الحروفِ
وفوقَ صرحِ العبقرياتِ
و تزدادُ بنارِ الطَلقِ و الحمَّى إتِّقاداً
و اشتعالاً
و سُعاراً
و اختزانْ!
ثم خُذْ نارنْجَةَ التحريمِ و اسبحْ
عبرَ هذا النهرِ في مِصْلاةِ شيخٍ
إسمُهُ (السُنيُّ) أو (يُوسُفُ)
و اضربْ بعصاكَ القصبيةْ
ذلكَ التِمساحَ حَوِّلْهُ إلى حجرٍ
ليشهدَ ثُمَّ يبقى
أبدَ الدهرِ مثالاً
لامتدادِ الروح ِفي جسمِ المكانْ
ووقوعِ الأرضِ في أسرِ الزمانِ
اللازمانْ!
الزمانِ الدائريِّ
الإنكساريِّ
الزمانِ الغامضِ الأخبارِ
في مدني و أسرارِ الهوى،
الزمانِ الضاربِ الأغوارِ
في مدني
و أسرارِ النَّدى والعشقِ
أسرارِ النزيفْ.!
* المصدر:
أشعار معتصم الإزيرق: أسرار الندى والعشق - سودانيات .. تواصل ومحبة