صفر 1403/ دجنبر 1982
أخي الاستاذ أحمد السائح: سلام الله عليك.
وبعد: فقد قرأت الخطة واعدت قراءتها مرات عديدة، وقد حاولت من خلال هذه القراءات المتعددة أن أسبر غورها محاولا الاجابة على عدة أسئلة ثارت في ذهني، وساورد لك هذه الاسئلة، ولعلها ستكون هي مفتاح الحوار بيني وبينك أيها الاخ الكريم، ولست أدعي لنفسي القدرة على النفوذ إلى عمق الغاية التي توخيتها من رسالتك هذه، كما أنني لا أجرؤ على الزعم بأني قد أحطت بفلسفة العقاد إلى الدرجة التي اسمح لنفسي معها بابداء بعض الانتقادات لخطة رسالة جامعية (أكاديمية) وأنا أبعد الناس عن التمرس بهذا النوع من الكتابة والبحث.
أما أسئلتي فهي على التوالي:
1 –هل كان العقاد (فيلسوفا) حقا، بالمعنى المتعارف عليه بين الناس بحيث يحق لنا أن نطلق عليه لقب فيلسوف، وأن نكتب عنه انطلاقا من اقتناعنا الكامل بأنه فيلسوف ؟
والحقيقة أنني قبل رسالتك هاته لم أكن أعد العقاد فيلسوفا، وإنما كنت "أعتقد" أن مكانه "الحق" هو بين "الادباء" بالمعنى الذي كان متداولا بين القدماء، أي (الذي يأخذ من كل فن بطرف)، وكنت " أعتقد" أن حظه من الفلسفة أقل حظوظه، ويشاطرني هذا الرأي كثير من الناس الذين يحبون العقاد ويدمنون على قراءته كما أحببته وأدمنت على قراءته.
وعند محاولتي ايجاد جواب عن تساؤلي هذا، اعترف لك انني احترت وتزعزع (اعتقادي) الذي كنت مطمئنا اليه راضيا قانعا به، ولاعيد الراحة الى نفسي أسرعت الى كتب الفلسفة التي بين يدي باحثا عن أدق تعريف بسيط جميل مقنع أجمله لك: "الفيلسوف انسان له كل صفات بني الانسان، وهو ليس عقلا باردا صلبا يبرا من كل ما يمت الى العواطف البشرية بصلة، أنه انسان يحب الحقيقة بعقله وقليه وكل أحاسيسه ويبحث عنها ويعي للوصول اليها بعقله وقلبه وكل أحاسيسه، ولكنه يعمل جاهدا ليجعل من عقله موجها وقائدا لقلبه على الا يلغيه ويطغى اليه".
وقد وجدت هذا التعريف يكاد ينطبق تمام الانطباق على الصورة التي أرسمها للعقاد في ذهني، وعاد سؤال آخر يتوارد على ذهني ويلح علي الحاحا شديدا :
2- هل كانت للعقاد (فلسفة متكاملة) أو عقيدة تنتظم جميع مؤلفاته ومبادئه وسلوكه في الحياة وهو الرجل الذي جال في مجال وخاض في كل مخاض ؟
أخذت بعض كتب للعقاد كانت في متناول يدي وقبلت فيها تقليبا خاطفا وإذا بي أقع على الجواب صدفة كانت أحسن من ألف تدبير مسبق:
"...وسيعلم الناس في العصر الحديث – أن لم يكونوا قد علموا حتى اليوم – أن عقيدة الانسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنا عليه، ولكنها هي ضميره وقوام حياته الباطنية يصلحه، أن أحتاج الى الاصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب وهو لا يمتن عليه ولا يرى أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الانسان، لا شأن للانبياء بها الا لانها مسألة الانسان، وعليه اذا عالج اصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءا من نفسه، بل كما يعالج قوام نفسه، ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها الى صاحبها ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة الى آخر الزمان (1)
وبتمعين في هاته السطور (القليلة للعقاد، ظهر لي البناء التسامح المكين المتين لفلسفة العقاد (المتكاملة) وفهمت سر (فرديته) و ( ارادته) و (عبقرياته) و(حيويته) و (ضراوة عداوته للشيوعية والاستعمار).
وتراءى لي وجه العقاد بين السطور باسما في رحمة وفهم.
3- ان الكثير من قراء العقاد يتوهمون انه يمثل المدرسة الانكلوسكسونية في الفكر العربي المعاصر، في حين ان طه حسين يمثل المدرسة اللاتينية وتحليل عميق لفلسفة العقاد يضعه في مكانه الصحيح كمفكر أصيل وفيلسوف حق ينطلق من منطلق فريد لا يشاركه فيه أحد ويشارك فيه أحدا، وان ثقافته الانكلوسكسونية ليست الا رافدا من روافده المتعددة الغزيرة، فما دور (الرسالة ) في القضاء على هذا الوهم ؟
لقد عدت فاجلت النظر في (الخطة) فلم أستطع استخلاص جواب شاف كاف لتساؤلي هذا، واعتقد ان (الرسالة) في تفاصيلها ستعمل على ازالة هذا الوهم من نفوس الناس وأذهانهم، فليس كل كبار مفكرينا وخصوصا من كان في منزلة العقاد، وفي حرارة دفاعهم عن الاسلام والحرية في كل مجالاتها وميادينها مجرد ناقلين لجانب من جوانب الحضارة الغربية....
4- ان للعقاد (موقفا) خاصا من المرأة، يحتاج ممن يبحث في فلسفته الى (وقفة) خاصة، فما مكان هذه الوقفة من الرسالة ؟. أنني موقن من انها لم تفتك ولن تفوتك خصوصا وأن (روح العصر) الآن السائدة بين الناس، تحملهم على وضع المرأة في غير مكانها الطبيعي، محتجين بحجج واهية، خلقت لها ظروف سياسية واجتماعية ونفسية لتدعيمها في نفوس الناس ممن يسارعون الى التصديق بكل ما يستورده أو يصدره ذوو الاغراض الهدامة الى أسواقنا الفكرية والاجتماعية من (موضات) فكرية ظاهرها فيه لرحمة وباطنها من قبله العذاب، وقد ترتبت عن هذه الحالات والاوضاع والموضات الفكرية عواقب وخيمة نخرت كياننا كمجتمعات وأفراد وهي لا تزال تعمل فينا تخريبا وتدميرا...
أنني قرأت (خطة الرسالة ) وهي ليست الا مشروعا احتفظت فيه بحق التعديل حسب ظروف البحث، ومع ذلك فقد أثارت في نفسي تساؤلات عديدة، اكتفيت منها بما أوردته في جوابي الأول.
هذا وصححت لي مفاهيم كنت أعتقد أنني قد انتهيت منها (ورسوت فيها على بر) كما تعبرون في لهجتكم المصرية، وجاءت رسالتك فقلبتها في ذهني رأسا على عقب.
وأنني في انتظار أخبار سيرك في بحثك هذا الموفق ان شاء الله والذي لا أكتمك – في غير مجاملة أو محاباة – أنه جاء في حينه وأنه جديد، وأنه قد يثير بعض المناقشات الحادة وقد تلقى فيه بعض العقبات الكأداء، ولكني على يقين أنك ستذللها بعزمك وحزمك وبعون الله لك وبتسديده لخطاك.
أما في شأن تعاطفك مع آراء العقاد في أطوار العقيدة الالهية فأنت أدرى بأن (التعاطف) في البحث العلمي لا يغني عن الحق شيئا، وأهنئك أخي على ما رزقك الله من سلامة الفطرة وفراسة المومن، فقد رجعت الى ما بين يدي من كتب للعقاد وتفحصها بشي من الاناة والتمعن فعرفت أن تعاطفك مع المفكر الاسلامي الكبير المرحوم العقاد كان يضعك في أقرب نقطة الى الصواب بإذن الله تعالى، فلو استعرضنا الأطوار التي تدرجت فيها (العقيدة الالهية) عند البشرية كما يراها العقاد لوجدنا أنها سارت في قناتين مختلفتين على مسار التاريخ الانساني: قناة الفلسفة وقناة الديانات المحرفة سواء كانت سماوية أم وضعية وهي في كلتا القناتين لم تكن تتدرج في صعود دائم بل كان مسارها يتمثل في خط بياني بين صعود وارتقاء الى قمة التوحيد والتنزيه في أغلب العقاد أمثلة واضحة لا يمكن أن تغيب الا عمن يغفل عن الحقيقة بحسن نية أو يتغافل عنها لغرض في نفسه.
أما العقيدة الاسلامية في الاله فهي عند العقاد رأس العقائد الدينية بجملتها وتفصيلها وهي أسمى عقيدة في الالاه الواحد الاحد صححت أخطاء الفلاسفة في شطحاتهم النظرية كما قومت تحريفات وتشويهات معتنقي الديانات القديمة السماوية والوضعية.
والعقيدة حين يومن بهذا التطور في العقيدة الالهية عن البشر انما يقرر أمرا واقعا لا يمكن اغفاله أو انكاره، وأنني لاستغراب وأعجب لمن يهاجم العقاد رأيه هذا، مع أنه لا يخالف الحق في قليل أو كثير فاذا كانت العقيدة الالهية في الاسلام قمة واحدة – والحقيقة دائما واحدة لا تعدد ولا تتجدد- تطورت اليها أفكار كثيرة موزعة في عقائد دينية ومذاهب فلسفية شتى، فهذا لانها هي المثل الاعلى في تصورها لذات الله سبحانه وتعالى، وصفاته وأفعاله صححت الضمائر وقومت العقول.
فاذا كان الاسلام هو ما جاء به جميع الانبياء والرسل منذ آدم الى سيدنا محمد عليهم السلام أجمعين، وهو الحق من عند الله لا يتغير ولا يتبدل، فالذي يتغير ويتبدل هو تصور الناس له، وتحريفهم وزيغهم وضلالهم عنه بقصد أو بغير قصد، وهم في سعيهم نحوه كمثل أعلى يتعثرون وينهضون ويدركهم الله عز وجل ليقيل عثراتهم على فترات بأن يرسل اليهم الرسل الى أن أدركهم سبحانه بآخر رسالاته وخاتم أنبيائه، فما اظلم من يخطئ العقاد في رأيه الصحيح السليم هذا، ناسيا أو متناسيا أن أحدا لن يستطيع أبدا أن يأتي بدليل سواء من دراسة الأديان البدائية، أو من علم الاجتماع الديني أو من أي علم أو مذهب من المذاهب طبيعيا كان أو حيويا، على أن الأولين قد عرفوا العقيدة الالهية الحقة كما جاء بها الاسلام والقرءان... أن هي الا مجرد تخرصات وافتراضات بعضها قد يصل الى درجة النظريات، ولكن اذا كانت النظريات في العلوم التطبيقية الخالصة يأبى لها العلماء أن تصل الى درجة اليقين أو الحقيقة المطلقة الثابتة، ولا يرضوا لها بغير النسبية رغم ما تقوم عليه من البراهين والتجارب، فكيف يمكن لعاقل أن يسمح باطلاق وتثبيت نظرية من نظريات العلوم الانسانية التي لا زالت آراء الناس تتأرجح بين اعتبارها حقائق فلسفية أو عدها حقائق علمية، لان اللحظة العلمية فيها لا زالت حاضرة الى جانب اللحظة الفلسفية.
والحق أنه لسوء أدب في حق العقاد وغمط لحقه كمفكر وفيلسوف مسلم نعتز به أن نعتبره واهما غي حقيقة بسيطة واضحة لكل ذي عينين فيما أنه قد اعتبر أن الاسلام جاء بعقيدة " مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية..."
" ودين يصحح العقائد الالهية ويتممها فيما سبقه من ديانات الامم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها، تراه من أين أتى ومن أي رسول كان مبعثه وهداه ؟.
من صحراء العرب ! ومن الرسول الامي بين الرسل والمبعوثين بالكتب والعبادات، أن لم يكن هذا وحيا من الله فكيف يكون الوحي من الله ؟".
فاذا كان هذا الوحي من الله، وهو مصدق لكل وحي سبقه ومهيمن عليه وخاتم له وهو حق واحد لا يتجزأ ولا يتعدد ولا يتغير بتغير المكان ولا يتطور بتبدل الزمان، فمحال أن ينظر العقاد اليه نظره الى ما يمكن أن يقع فيه تغير أو تبدل....
فالذي يتبدل ويتغير ويتطور هو (فكر الناس) الذي يستعملونه كوسيلة من وسائل الوصول الى معرفة الله، وهي وسيلة يقرها الاسلام ويعترف بها، ويدعو اليها ويأمر بها ويفرض استعمالها، ولكن مع اعتبار أن الهداية لحلها من الله، فان اغتر الانسان واستغبى فوسائله الخاصة عن هداية الله (وحيه والهامه وتسديده وتوفيقه) كان مآله حتما ان يزيغ ويتخذ الاهه هواه فيضله الله على علم...
وما عليه أخي الا أن ترجع الى كتاب العقاد (حقائق الاسلام وأباطيل خصومه) فصل " العقيدة الالهية" ففيها مبتغاك أن شاء الله.
أما كتاب (الله) فما هو الا بسط وتفصيل لكل ما سبق أن ذكرته لك، فالعقاد رحمه الله يستعرض في هذا الكتاب مراحل تطور العقيدة الالهية في الفكر البشري، وفي الاديان السماوية المحرفة، موضحا مكان العقيدة الاسلامية بين هذا الركام من المعتقدات...
والتطور أو التدهور هو في عقائد البشر حين ينحرفون ويحرقون، أو حين يعرضون عن هدي ربهم ووحيه مكتفين ومستغنين بفكرهم الذي يشوبه ويشوهه الهوى....
أما ما يزعمه الاخ الاستاذ محمد العربي الناصر(2) من أن المرحوم "العقاد" يحتج بعلم الاديان المقارن فهي خزية لا أساس لها من الصحة، وقد أطلقها صاحبها سامحه الله ويسره كما يطلق الكلام على عواهنه، والدليل الدامغ يمكنك أن ترجع اليه في كتاب العقاد القيم- وكل كتبه قيمة- " ما يقال عن الاسلام" ص 34 فصل (الله في العقيدة الاسلامية وفي أقوال علماء المقارنة بين الاديان) وفي أوله يقول بالحرف: "علم المقارنة بين الاديان" يسمى علما مع الحيطة المتفاهم عليها بين الباحثين والقراء لأنه من المعارف التي يقيمها المشتغلون به على أسس مختلفة كاختلافهم في العقيدة الدينية وفي النظر اليها...".
وعلم هذا حاله....وهذا وصف العقاد له، كيف بربك يمكن أن يعده حجة وهو المفكر العملاق الذي لا تمر كلمة على شباة قلمه الا بعد أن يمحصها ويدقق فيها... وفي هذا الفصل الممتاز يتحدث عن تطور الاديان كما يراها كبار رجال هذا العلم مؤيدا بعضهم ومفندا البعض الآخر، ولكني أقولها وبكل صراحة: اني لم أجد فيما قرات ولا أظن أنني أو غيري سنجد أي فكرة تدل على أن العقاد يرى أن الاسلام تطور عن غيره من الاديان أو المذاهب الفلسفية، والاسباب ذكرها العقاد وأوجزها لك:
1- الاسلام عقيدة كاملة هي رأس العقائد الدينية وقمتها بجملتها وتفصيلها.
2- الاسلام عقيدة (صححت وتممت) عقائد الفلاسفة في غلوهم وافراطهم في التجديد والتنزيه الى حد العدم.
3- الاسلام عقيدة (صححت تممت) عقائد ديانات الامم السابقة له.
4- الاسلام عقيدة مبعثها ومدعاها قلب صحراء العرب.
5- الاسلام عقيدة بعث بها ودعا اليها رسول أمي لا يقرأ ولا يكتب.
6- الاسلام عقيدة هي وحي من الله الواحد الاحد الفرد الصمد
والسلام عليك أخي ورحمة الله وبركاته.
(1) عن كتاب (حياة قلم) ص 294 من سلسلة كتاب الهلال.
(2) في مقالة التطور والتصور الاسلامي ص 63 في مجلة دعوة الحق، السنة 10، عدد 5.
أخي الاستاذ أحمد السائح: سلام الله عليك.
وبعد: فقد قرأت الخطة واعدت قراءتها مرات عديدة، وقد حاولت من خلال هذه القراءات المتعددة أن أسبر غورها محاولا الاجابة على عدة أسئلة ثارت في ذهني، وساورد لك هذه الاسئلة، ولعلها ستكون هي مفتاح الحوار بيني وبينك أيها الاخ الكريم، ولست أدعي لنفسي القدرة على النفوذ إلى عمق الغاية التي توخيتها من رسالتك هذه، كما أنني لا أجرؤ على الزعم بأني قد أحطت بفلسفة العقاد إلى الدرجة التي اسمح لنفسي معها بابداء بعض الانتقادات لخطة رسالة جامعية (أكاديمية) وأنا أبعد الناس عن التمرس بهذا النوع من الكتابة والبحث.
أما أسئلتي فهي على التوالي:
1 –هل كان العقاد (فيلسوفا) حقا، بالمعنى المتعارف عليه بين الناس بحيث يحق لنا أن نطلق عليه لقب فيلسوف، وأن نكتب عنه انطلاقا من اقتناعنا الكامل بأنه فيلسوف ؟
والحقيقة أنني قبل رسالتك هاته لم أكن أعد العقاد فيلسوفا، وإنما كنت "أعتقد" أن مكانه "الحق" هو بين "الادباء" بالمعنى الذي كان متداولا بين القدماء، أي (الذي يأخذ من كل فن بطرف)، وكنت " أعتقد" أن حظه من الفلسفة أقل حظوظه، ويشاطرني هذا الرأي كثير من الناس الذين يحبون العقاد ويدمنون على قراءته كما أحببته وأدمنت على قراءته.
وعند محاولتي ايجاد جواب عن تساؤلي هذا، اعترف لك انني احترت وتزعزع (اعتقادي) الذي كنت مطمئنا اليه راضيا قانعا به، ولاعيد الراحة الى نفسي أسرعت الى كتب الفلسفة التي بين يدي باحثا عن أدق تعريف بسيط جميل مقنع أجمله لك: "الفيلسوف انسان له كل صفات بني الانسان، وهو ليس عقلا باردا صلبا يبرا من كل ما يمت الى العواطف البشرية بصلة، أنه انسان يحب الحقيقة بعقله وقليه وكل أحاسيسه ويبحث عنها ويعي للوصول اليها بعقله وقلبه وكل أحاسيسه، ولكنه يعمل جاهدا ليجعل من عقله موجها وقائدا لقلبه على الا يلغيه ويطغى اليه".
وقد وجدت هذا التعريف يكاد ينطبق تمام الانطباق على الصورة التي أرسمها للعقاد في ذهني، وعاد سؤال آخر يتوارد على ذهني ويلح علي الحاحا شديدا :
2- هل كانت للعقاد (فلسفة متكاملة) أو عقيدة تنتظم جميع مؤلفاته ومبادئه وسلوكه في الحياة وهو الرجل الذي جال في مجال وخاض في كل مخاض ؟
أخذت بعض كتب للعقاد كانت في متناول يدي وقبلت فيها تقليبا خاطفا وإذا بي أقع على الجواب صدفة كانت أحسن من ألف تدبير مسبق:
"...وسيعلم الناس في العصر الحديث – أن لم يكونوا قد علموا حتى اليوم – أن عقيدة الانسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنا عليه، ولكنها هي ضميره وقوام حياته الباطنية يصلحه، أن أحتاج الى الاصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب وهو لا يمتن عليه ولا يرى أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الانسان، لا شأن للانبياء بها الا لانها مسألة الانسان، وعليه اذا عالج اصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءا من نفسه، بل كما يعالج قوام نفسه، ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها الى صاحبها ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة الى آخر الزمان (1)
وبتمعين في هاته السطور (القليلة للعقاد، ظهر لي البناء التسامح المكين المتين لفلسفة العقاد (المتكاملة) وفهمت سر (فرديته) و ( ارادته) و (عبقرياته) و(حيويته) و (ضراوة عداوته للشيوعية والاستعمار).
وتراءى لي وجه العقاد بين السطور باسما في رحمة وفهم.
3- ان الكثير من قراء العقاد يتوهمون انه يمثل المدرسة الانكلوسكسونية في الفكر العربي المعاصر، في حين ان طه حسين يمثل المدرسة اللاتينية وتحليل عميق لفلسفة العقاد يضعه في مكانه الصحيح كمفكر أصيل وفيلسوف حق ينطلق من منطلق فريد لا يشاركه فيه أحد ويشارك فيه أحدا، وان ثقافته الانكلوسكسونية ليست الا رافدا من روافده المتعددة الغزيرة، فما دور (الرسالة ) في القضاء على هذا الوهم ؟
لقد عدت فاجلت النظر في (الخطة) فلم أستطع استخلاص جواب شاف كاف لتساؤلي هذا، واعتقد ان (الرسالة) في تفاصيلها ستعمل على ازالة هذا الوهم من نفوس الناس وأذهانهم، فليس كل كبار مفكرينا وخصوصا من كان في منزلة العقاد، وفي حرارة دفاعهم عن الاسلام والحرية في كل مجالاتها وميادينها مجرد ناقلين لجانب من جوانب الحضارة الغربية....
4- ان للعقاد (موقفا) خاصا من المرأة، يحتاج ممن يبحث في فلسفته الى (وقفة) خاصة، فما مكان هذه الوقفة من الرسالة ؟. أنني موقن من انها لم تفتك ولن تفوتك خصوصا وأن (روح العصر) الآن السائدة بين الناس، تحملهم على وضع المرأة في غير مكانها الطبيعي، محتجين بحجج واهية، خلقت لها ظروف سياسية واجتماعية ونفسية لتدعيمها في نفوس الناس ممن يسارعون الى التصديق بكل ما يستورده أو يصدره ذوو الاغراض الهدامة الى أسواقنا الفكرية والاجتماعية من (موضات) فكرية ظاهرها فيه لرحمة وباطنها من قبله العذاب، وقد ترتبت عن هذه الحالات والاوضاع والموضات الفكرية عواقب وخيمة نخرت كياننا كمجتمعات وأفراد وهي لا تزال تعمل فينا تخريبا وتدميرا...
أنني قرأت (خطة الرسالة ) وهي ليست الا مشروعا احتفظت فيه بحق التعديل حسب ظروف البحث، ومع ذلك فقد أثارت في نفسي تساؤلات عديدة، اكتفيت منها بما أوردته في جوابي الأول.
هذا وصححت لي مفاهيم كنت أعتقد أنني قد انتهيت منها (ورسوت فيها على بر) كما تعبرون في لهجتكم المصرية، وجاءت رسالتك فقلبتها في ذهني رأسا على عقب.
وأنني في انتظار أخبار سيرك في بحثك هذا الموفق ان شاء الله والذي لا أكتمك – في غير مجاملة أو محاباة – أنه جاء في حينه وأنه جديد، وأنه قد يثير بعض المناقشات الحادة وقد تلقى فيه بعض العقبات الكأداء، ولكني على يقين أنك ستذللها بعزمك وحزمك وبعون الله لك وبتسديده لخطاك.
أما في شأن تعاطفك مع آراء العقاد في أطوار العقيدة الالهية فأنت أدرى بأن (التعاطف) في البحث العلمي لا يغني عن الحق شيئا، وأهنئك أخي على ما رزقك الله من سلامة الفطرة وفراسة المومن، فقد رجعت الى ما بين يدي من كتب للعقاد وتفحصها بشي من الاناة والتمعن فعرفت أن تعاطفك مع المفكر الاسلامي الكبير المرحوم العقاد كان يضعك في أقرب نقطة الى الصواب بإذن الله تعالى، فلو استعرضنا الأطوار التي تدرجت فيها (العقيدة الالهية) عند البشرية كما يراها العقاد لوجدنا أنها سارت في قناتين مختلفتين على مسار التاريخ الانساني: قناة الفلسفة وقناة الديانات المحرفة سواء كانت سماوية أم وضعية وهي في كلتا القناتين لم تكن تتدرج في صعود دائم بل كان مسارها يتمثل في خط بياني بين صعود وارتقاء الى قمة التوحيد والتنزيه في أغلب العقاد أمثلة واضحة لا يمكن أن تغيب الا عمن يغفل عن الحقيقة بحسن نية أو يتغافل عنها لغرض في نفسه.
أما العقيدة الاسلامية في الاله فهي عند العقاد رأس العقائد الدينية بجملتها وتفصيلها وهي أسمى عقيدة في الالاه الواحد الاحد صححت أخطاء الفلاسفة في شطحاتهم النظرية كما قومت تحريفات وتشويهات معتنقي الديانات القديمة السماوية والوضعية.
والعقيدة حين يومن بهذا التطور في العقيدة الالهية عن البشر انما يقرر أمرا واقعا لا يمكن اغفاله أو انكاره، وأنني لاستغراب وأعجب لمن يهاجم العقاد رأيه هذا، مع أنه لا يخالف الحق في قليل أو كثير فاذا كانت العقيدة الالهية في الاسلام قمة واحدة – والحقيقة دائما واحدة لا تعدد ولا تتجدد- تطورت اليها أفكار كثيرة موزعة في عقائد دينية ومذاهب فلسفية شتى، فهذا لانها هي المثل الاعلى في تصورها لذات الله سبحانه وتعالى، وصفاته وأفعاله صححت الضمائر وقومت العقول.
فاذا كان الاسلام هو ما جاء به جميع الانبياء والرسل منذ آدم الى سيدنا محمد عليهم السلام أجمعين، وهو الحق من عند الله لا يتغير ولا يتبدل، فالذي يتغير ويتبدل هو تصور الناس له، وتحريفهم وزيغهم وضلالهم عنه بقصد أو بغير قصد، وهم في سعيهم نحوه كمثل أعلى يتعثرون وينهضون ويدركهم الله عز وجل ليقيل عثراتهم على فترات بأن يرسل اليهم الرسل الى أن أدركهم سبحانه بآخر رسالاته وخاتم أنبيائه، فما اظلم من يخطئ العقاد في رأيه الصحيح السليم هذا، ناسيا أو متناسيا أن أحدا لن يستطيع أبدا أن يأتي بدليل سواء من دراسة الأديان البدائية، أو من علم الاجتماع الديني أو من أي علم أو مذهب من المذاهب طبيعيا كان أو حيويا، على أن الأولين قد عرفوا العقيدة الالهية الحقة كما جاء بها الاسلام والقرءان... أن هي الا مجرد تخرصات وافتراضات بعضها قد يصل الى درجة النظريات، ولكن اذا كانت النظريات في العلوم التطبيقية الخالصة يأبى لها العلماء أن تصل الى درجة اليقين أو الحقيقة المطلقة الثابتة، ولا يرضوا لها بغير النسبية رغم ما تقوم عليه من البراهين والتجارب، فكيف يمكن لعاقل أن يسمح باطلاق وتثبيت نظرية من نظريات العلوم الانسانية التي لا زالت آراء الناس تتأرجح بين اعتبارها حقائق فلسفية أو عدها حقائق علمية، لان اللحظة العلمية فيها لا زالت حاضرة الى جانب اللحظة الفلسفية.
والحق أنه لسوء أدب في حق العقاد وغمط لحقه كمفكر وفيلسوف مسلم نعتز به أن نعتبره واهما غي حقيقة بسيطة واضحة لكل ذي عينين فيما أنه قد اعتبر أن الاسلام جاء بعقيدة " مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية..."
" ودين يصحح العقائد الالهية ويتممها فيما سبقه من ديانات الامم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها، تراه من أين أتى ومن أي رسول كان مبعثه وهداه ؟.
من صحراء العرب ! ومن الرسول الامي بين الرسل والمبعوثين بالكتب والعبادات، أن لم يكن هذا وحيا من الله فكيف يكون الوحي من الله ؟".
فاذا كان هذا الوحي من الله، وهو مصدق لكل وحي سبقه ومهيمن عليه وخاتم له وهو حق واحد لا يتجزأ ولا يتعدد ولا يتغير بتغير المكان ولا يتطور بتبدل الزمان، فمحال أن ينظر العقاد اليه نظره الى ما يمكن أن يقع فيه تغير أو تبدل....
فالذي يتبدل ويتغير ويتطور هو (فكر الناس) الذي يستعملونه كوسيلة من وسائل الوصول الى معرفة الله، وهي وسيلة يقرها الاسلام ويعترف بها، ويدعو اليها ويأمر بها ويفرض استعمالها، ولكن مع اعتبار أن الهداية لحلها من الله، فان اغتر الانسان واستغبى فوسائله الخاصة عن هداية الله (وحيه والهامه وتسديده وتوفيقه) كان مآله حتما ان يزيغ ويتخذ الاهه هواه فيضله الله على علم...
وما عليه أخي الا أن ترجع الى كتاب العقاد (حقائق الاسلام وأباطيل خصومه) فصل " العقيدة الالهية" ففيها مبتغاك أن شاء الله.
أما كتاب (الله) فما هو الا بسط وتفصيل لكل ما سبق أن ذكرته لك، فالعقاد رحمه الله يستعرض في هذا الكتاب مراحل تطور العقيدة الالهية في الفكر البشري، وفي الاديان السماوية المحرفة، موضحا مكان العقيدة الاسلامية بين هذا الركام من المعتقدات...
والتطور أو التدهور هو في عقائد البشر حين ينحرفون ويحرقون، أو حين يعرضون عن هدي ربهم ووحيه مكتفين ومستغنين بفكرهم الذي يشوبه ويشوهه الهوى....
أما ما يزعمه الاخ الاستاذ محمد العربي الناصر(2) من أن المرحوم "العقاد" يحتج بعلم الاديان المقارن فهي خزية لا أساس لها من الصحة، وقد أطلقها صاحبها سامحه الله ويسره كما يطلق الكلام على عواهنه، والدليل الدامغ يمكنك أن ترجع اليه في كتاب العقاد القيم- وكل كتبه قيمة- " ما يقال عن الاسلام" ص 34 فصل (الله في العقيدة الاسلامية وفي أقوال علماء المقارنة بين الاديان) وفي أوله يقول بالحرف: "علم المقارنة بين الاديان" يسمى علما مع الحيطة المتفاهم عليها بين الباحثين والقراء لأنه من المعارف التي يقيمها المشتغلون به على أسس مختلفة كاختلافهم في العقيدة الدينية وفي النظر اليها...".
وعلم هذا حاله....وهذا وصف العقاد له، كيف بربك يمكن أن يعده حجة وهو المفكر العملاق الذي لا تمر كلمة على شباة قلمه الا بعد أن يمحصها ويدقق فيها... وفي هذا الفصل الممتاز يتحدث عن تطور الاديان كما يراها كبار رجال هذا العلم مؤيدا بعضهم ومفندا البعض الآخر، ولكني أقولها وبكل صراحة: اني لم أجد فيما قرات ولا أظن أنني أو غيري سنجد أي فكرة تدل على أن العقاد يرى أن الاسلام تطور عن غيره من الاديان أو المذاهب الفلسفية، والاسباب ذكرها العقاد وأوجزها لك:
1- الاسلام عقيدة كاملة هي رأس العقائد الدينية وقمتها بجملتها وتفصيلها.
2- الاسلام عقيدة (صححت وتممت) عقائد الفلاسفة في غلوهم وافراطهم في التجديد والتنزيه الى حد العدم.
3- الاسلام عقيدة (صححت تممت) عقائد ديانات الامم السابقة له.
4- الاسلام عقيدة مبعثها ومدعاها قلب صحراء العرب.
5- الاسلام عقيدة بعث بها ودعا اليها رسول أمي لا يقرأ ولا يكتب.
6- الاسلام عقيدة هي وحي من الله الواحد الاحد الفرد الصمد
والسلام عليك أخي ورحمة الله وبركاته.
(1) عن كتاب (حياة قلم) ص 294 من سلسلة كتاب الهلال.
(2) في مقالة التطور والتصور الاسلامي ص 63 في مجلة دعوة الحق، السنة 10، عدد 5.