وأخيراً تحققت أُمنيتي بالسكنى في ضاحية (مصر الجديدة). كنت قد زرتها مرة وأُعجبت بأبنيتها المتشابهة الطراز والألوان، وسحرت بشوارعها النظيفة الهادئة. وتلك صفات لا تتوفر في (باب اللوق) الذي أقطن فيه. قصدت إلى (مكتب السماسرة) وعرضت على الموظف المختص شروطي. نقر الموظف على المنضدة متأملاً، ودس قلم الرصاص في شعره يبعث به مفطراً، ثم رفع رأسه وقال متسائلاً: غرفة هادئة في (شقة) تسكنها أرملة قبطية توفي زوجها منذ شهراً مخلفاً بنتاً في السابعة من عمرها، والإيجار خمسة جنيهات شهرياً... أتعجبك؟!
- اتفقنا.
ونقلت متاعي إلى المنزل الجديد. وعلى بابه وقفت امرأة وطفلة المرأة في مقتبل العقد الثالث متوسطة القامة على شيء من البدانة. عيناها السوداوان جميلتان، وكذلك أنفها الأقنى الصغير، لكن فمها يميل إلى الاتساع، والطفلة جميلة مرحة ذات وجه بشوش وهيئة ضاحكة.
- سعيدة.
- سعيدة! أهلاً وسهلاً.
واجتزت الباب يتبعني الحمال. تلفت ورائي فرأيت الطفلة ترسل إلى نظرات فرحة. ابتسمت لها فقفزت نحوي وتعلقت بأذيال سترتي. ثم رفعت إلى وجهها الضاحك وهتفت جذلة:
- أنت طويل مثل بابا.
- صحيح؟!
وامتدت يدي إلى رأسها تلاطف شعرها في حنان. وفجأة انطلقت كالقذيفة. انحنيت على حقائبي أُفرغ محتوياتها في الصِّوان والمكتب.
- يا أستاذ. . . يا أستاذ. . .
سمعت صوت الطفلة فتحولت بأنظاري إلى الباب أرقبها في شغف. تقدمت نحوي تتعثر في مشيتها وذراعاها تنوءان بحملهما. (عروسة) عاجية وحصان خشبي وسيارة صغيرة، وضعتها على الأرض في عناية وشرعت تناولني واحدة بعد أُخرى في زهو واعتزاز. قلت وأنا أقلّبها بين يدي في إعجاب:
من أهدى إليك هذه اللعب الجميلة؟!
فلمعت عيناها ببريق الغبطة وهتفت في حماس: بابا اشترى لي هذه اللعب كلها. . . بابا يحبني كثيراً.
فرنتّ على خدها في لطف وقلت: طيب. . . غداً سأشتري لك لعبة جميلة.
فتطلق وجهها وبان السرور في عينيها وهمست في مسودة: أنت تحبني كبابا.
ربما!. . . وبمضي الأيام اشتدت محبتي لها. ما سبب تلك المحبة؟! الله أعلم. قد يكون مبعثها رثاء لطفلة يتيمة الأب. قد يكون مصدرها إعجاب بروحها الأليفة، روح يفيض حيويته على البيت فيملؤه بهجة وحركة ونشاطاً.
وفي كل مساء كنت أخرج إلى شرفة الدار وأتمدد على مقعد الراحة، (المترو) يزفر في الشارع تحتي كأنه يضيق بحمله. وكمساري (الترام) ينفخ في زمارته بملل، ونفير السيارة يعوي بين حين وآخر، والناس يروحون ويجيئون، وفريدة تقبل على قفزاً بصحبة دُماها لتسألني مشاركتها في اللعب كعادتها كلما رأتني منفرداً في الشرفة.
- هالو! فيفي.
وكومت لعبها على الأرض وتربعت إزاءها. ثم شرعت تملأ السيارة الصغيرة. وفجأة توقفت يدها عن الحركة وبدت كأن أمراً يشغل بالها، ماذا يقلقها؟! رفعت عينيها إلى وسألتني في استعطاف.
- هل تشترك معي في اللعب عندما يعود بابا؟! سنلعب ثلاثتنا معاً.
سرت في جسدي رعدة خفيفة وأنا أحدق في وجهها البرئ وأصغي إلى سؤالها الساذج، ألا تعلم بموت أبيها؟! وسمعت لساني يهمس في تردد: حسناًـ سأفعل.
صفقت فرحاً وهرعت إلى الغرفة أُمها وتركت السيارة الصغيرة تدور حول نفسها، وترامى إلى مسامعي صوتها وهي تسأل الأم في لهفة: ماما. . . متى يعود بابا؟! تأخر صوت الأم في الرد ثم تتاهى إلى يغمغم في بطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي.
وظهرت أمامي ثانية (تتنطط) كالعفريت!
- بابا سيعود قريباً من الإسكندرية وسنلعب ثلاثتنا معاً.
- إن شاء الله.
قضيت تلك الأمسية موزع النفس بين شتيت من العواطف والأحاسيس؛ ألم وسخط وضيق وحزن. ثم أوتفريدة إلى فراشها فانطلقت إلى الأم.
- ألا تعلم فريدة بموت أبيها المرحوم؟!
سألت الأم، فأجابتني بنغمة كئيبة تفيض بالحزن والألم: كلا. لقد بعثتها إلى بيت عمتها في (المنصورة) أثناء مرض أبيها، ولما توفي استدعيتها ثانية وزعمت لها أنه سافر إلى الإسكندرية لمهمة تتعلق بعمله.
وقرأت معاني التوسل العميق في عينيها وهي تضيف قائلة: أرجو أن تساعدني على إخفاء الحقيقة عنها، فهي تحب أباها حباً عظيماً، وأخشى أن تصيبها صدمة نفسية إن اكتشفت الحقيقة
في هذه المرة أدركت لماذا تضاعف حبي لها واشتد شغفي بها. وكالنهر حين تزدحم مياهه فتتدفق على جوانبه فاضت عواطفي على فريدة. فيفي، احتفظي بعلبة الشوكولاتة لك وحدك. . . فيفي، أعطيني قبلة في عينيك. . . فيفي، أتعجبك هذه العروسة الصغيرة؟! فيفي، هيا نلعب لعبة القط والفار. فيفي، سأصحبك غداً إلى مدينة الملاهي
وسارت الحياة، وانطوى الزمن، وبدأت الأم تتخلى عن تحفظها شيئاً فشيئاً وتتقرب إلى اشتراكنا أول الأمر في عاطفة واحدة؛ حب فريدة. ثم تطور الاشتراك في العواطف وتعددت جلساتنا وطال انفرادنا. في الأسبوع الأول راحت تنتهز فرص غيبة فريدة لتجلس إليّ وتحدثني عن موضوع يتعلق بزوجها مبتدئة بعبارة تقليدية: لقد كان مثال الزوج المخلص رحمه الله. الحمد لله الذي عوض فريدة بشاب مثلك يعوضها من حنان أبيها ومحبته
وفي الأسبوع الثاني تحررت من قيد البيت فتأبطت ذراعي وهمست في حياء: هيا بنا يا سي زكي نقضي الأمسية في أحد المقاهي.
وفي الأسبوع الثالث، في عصر ذلك اليوم دعتني إلى السينما قائلة: في سينما (كايروبالاس) فلم ممتاز لتيرون باور. . . فلنشهده هذه الليلة يا زكي.
وعدنا في الساعة العاشرة والدار يغمرها الظلام وفريدة والخادمة الصغيرة نائمتان أو المفروض أنهما نائمتان. خلعت بدلة السهرة واستبدلت بها لباس النوم. ودسست جسدي بين طيات الفراش فتناهى إلى صوت فريدة تسأل أمها في ضيق وقلق: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وجمجم صوت الأم في تردد وبطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي. خيَّم الصمت لحظة ثم ارتفع صوت فريدة في لهجة المرتاب: ولكن متى يعود؟! في كل مرة تقولين قريباً، وأنتظر فلا يعود!
- سيعود قريباً يا فيفي وسيجلب لك هدايا كثيرة. والآن يجب أن تنامي وإلا فإنه لن يحبك إذا علم أنك ظللت ساهرة حتى هذا الوقت المتأخر.
حلَّ السكون ثانية فأغمضت عيني ومشاعر الألم والسخط والضيق والحزن تمور في صدري. إلى متى يستمر جهلها بمصير أبيها؟! إلى متى يدوم تضليلها؟! ما أحوجها إلى محبة تعوضها حنان أبيها وتلقى على ذكراه رداء النسيان.
في اليوم التالي ابتعت لها (عروسة) كبيرة ذات عينين تُفتحان وتُغلقان كلما تحرك جسدها.
- فيفي. . . تعالي هنا أتيتك بهدية ظريفة.
دقيقة ودقيقتان وثلاث. . . لماذا تأخرت؟! ثم ظهرت على عتبة الغرفة تخطو في تمهل وتردد.
- خذي هذه (العروسة) يا فيفي. . . أتعجبك؟
وحدقت فيها ملّاً والتردد يشيع في صفحة وجهها النقية، حركت الدمية يميناً وشمالاً فانفتحت عيناها وأغلقتا. وفي لمح البرق اختطفتها من يدي وعدت خارج الغرفة. . ماذا أصابها؟! خرجت وراءها مذهولاً فعالجني بكاؤها منبعثاً من غرفة الاستقبال، مددت رأسي من الباب فرأيتها منبطحة على الأريكة ورأسها مدفون بين الوسائد والدمية مضمومة إلى صدرها، فتهافت على الأريكة بجانبها ومررت بكفّب على شعرها في حنان وأنا أهمس في رقة:
- لا تبكي يا فيفي. . . ما الذي يضايقك؟! فرفعت إلى عينين مخضلتين بالدموع ودمعت بصوت مخنوق وهي تشهق: ألا يعود بابا ليشتري (عروسة) كهذه؟
- بالطبع سيعود يا فيفي. . . سيعود بعد أيام قليلة.
ولم يعد الأب بعد أيام قليلة، وأصبحت في مقامه لدى الأم. اليوم نخرج إلى المنتزه وغداً إلى المقهى وبعد غد إلى السينما، وفي (كازينو سفير) نالت إعجابنا مائدة منزوية في الزاوية اليسرى المطلة على شارع عثمان بن عفان، واعتادت فريدة أن تمر على رصيف هذا الشارع بصحبة الخادمة الصغيرة في طريقها إلى المنزل عمتها فترانا منهمكين في الحديث أو الضحك وتتوقف قليلاً وترمقنا بنظرات جامدة وتواصل سيرها مكفهرة الوجه. ثم تلتفت نحونا مرة ومرتين وثلاثاً حتى تختفي عن أنظارنا!.
وأصبحت فريدة اليوم غيرها بالأمس! كل شيء تغير فيها. أضحى الصمت طابعها المميز والكآبة سمتها الدائمة! واختفى الضجيج والمرح من البيت، وخيم عليه جو من الكآبة الثقيلة. فيفي، لماذا لا تضحكين؟! فيفي، لماذا لا تجرين في ساحة الدار؟! سلبت البيت بهجته ونشاطه؟!
وتحمل فريدة لعبها وتتخير ركناً منعزلاً وتنفرد بها وتمضي الوقت معها في صمت، وأقبل عليها ضاحكاً وأهتف مرحاً: أتسمحين لي بمشاركتك في اللعب يا فيفي؟
وتجمع دماها في هدوء وتنسل إلى غرفتها في سكون. . . لماذا أضربت عن مشاركتي في اللعب؟ ما الذي يبعث في نفسها الكآبة والصمت؟!
وفكرت هنيهة. دمية جميلة تعيد علاقتنا إلى صفائها. واشتريت (عروسة) كبيرة من الجنس تضع على رأسها طرطوراً وتجلس في هيئة المتأمل؛ الرأس بين الكفين والمرفقان على الركبتين
- فيفي. . . اشتريت لك (عروسة) عظيمة. . . تفضلي.
- لا أريدها.
ولبثت ترنو إليها في جمود دون أن تمد إليها يداً.
- كوني عاقلة يا فيفي. خذيها.
- قلت لك لا أريدها.
وانفلتت ذاهبة، ثم عادت بعد حين. نظرت إليها مشدوهاً وهي تكوِّم أمامي اللعب التي أهديتها إليها ووجهها عابس وشفتاها ملتويتان. واستدارت لتعود أدراجها فتشبثت بذراعها.
- ماذا بك يا فيفي؟! لماذا خاصمتيني؟!
حاولت أن تتملص من قبضتي فخابت، وعندئذ انفجرت بالبكاء. وصرخت في غضب حزين:
- أنت كذاب. لا أنت لا تحبني. . . وأنا لا أحبك أيضاً. أنا أحب بابا. سيعود بابا وسيضربك أنت وماما.
وتركت قبضتها مذهولاً فمرقت من الباب كأنها تفر من سجن: وتحولت إلى كوم الدمى أرقبه في لوعة وأسف. ما الذي غير قلبها عليّ؟! وما شأني في الأمر إن كان غياب أبيها مصدر لوعتها؟! ولماذا باتت تحس نحوي بهذا النفور الشديد؟!
وأصبح مرآي يثير الاشمئزاز والكراهية في نفسها، ما تكاد عينها تنالني حتى تفيض بنظرة مقت. وتتقلص ملامح وجهها ويغمره فيض من عواطف البغض. وبدأت تعيش كالغريبة في الدار. ما تكاد تعود من مدرستها حتى تلجأ إلى غرفتها لتناجي لعبها في صمت. ولم تعد تسأل أمها عن أبيها، وأخذت تمضي معظم ساعات النهار في بيت عمتها، فأمسى المنزل كئيباً موحشاً. واقتنعت بتلك اللحظات القصيرة التي تتهيأ لي فيها رؤيتها حين تجلس إلى مائدة الفطور. وفي تلك الدقائق كانت تثبت عينيها المتألقتين ببريق الحقد على وجهي وتتأملني في وجوم. حاولت مرة أن أحدق في عينيها لأستشف من ورائهما ما يدور في فكرها. ولشد ما دهشت حين قفزت من مقعدها في صمت وحملت كوب الشاي وانسلت إلى غرفتها بهدوء. وجرت أمها خلفها لتعيدها إلى مقعدها فواجهتها بالصراخ والنحيب حتى أفلحت في الذهاب. وصار من المألوف أن تسبقني إلى الفطور، فإذا رأتني مقبلاً على المائدة تركت الفطور واختفت في غرفتها بسكون. . لماذا تكرهيني يا فيفي، لماذا؟!
ودب النحول في جسمها وغمر الشحوب وجهها وانطفأ بريق عينيها سوى بصيص من الحزن والمقت. والأم حزينة لحال ابنتها مسرورة بحبها الجديد. أنا مهموم محزون لا أدري ماذا أفعل وكيف أستعيد محبة الطفلة ثم حدث أن عدت من (السينما) ذات مساء في الساعة الثانية عشرة والنصف بصحبة الأم. فتحت الأم الباب فراعنا أن تبصر فريدة منطرحة على أحد مقاعد الصالة في وضع مهمل، اتجهت إليها الأم وهزت جسدها في رفق فهبت من رقادها تصرخ في جنون. وحملتها الأم بين ذراعيها في اضطراب، لكنها انطلقت ترفس الهواء برجليها محاولة التملص منها
- ماذا بك يا فيفي؟. . . لماذا تبكين يا فيفي؟!
لا جواب سوى الصراخ. صراخ يصل عنان السماء. . ثم انحلت عقدة لسانها واندفعت صائحة:
أنت تكذبين عليَّ يا ماما. . . بابا لن يعود إلا حين يترك سي زكي دارنا. . . أنت بعثته إلى الإسكندرية لكي تحضري سي زكي هنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لماذا يعيش في دارنا بدل بابا؟. أنا لا أحبه، لا أحبه. . . بابا أحسن منه. بابا أحسن منه يا ماما. . .
انسللت إلى غرفتي في صمت وأنا أشعر بقبضة قوية تعصر قلبي. وتهالكت على المقعد ووضعت رأسي بين كفي وأغمضت عينيَّ مُفكراً، وقبل أن ألجأ إلى الفراش كانت حقائبي معدة للرحيل
وقفت الأم في الصباح التالي في ركن من ساحة الدار ترقب الحمال في وجوم وهو يروح ويغدو حاملاً متاعي. واختفت فريدة وراءها تخلس إلى النظرات في ابتهاج. وتمَّ كل شيء فأقبلت عليهما مودعاً وابتسامة باهتة ترفرف على ثغري شددت على يد الأم في حرارة فاستبقت كفي بين كفَّيها وحدَّقت في وجهي بعينين تحيَّرت فيهما الدموع. ولم تفه بكلمة واحدة وقبل أن أستدير مولِّياً الأدبار رنوت إلى فريدة بنظرات تجمعت فيها عواطف الحب والحزن والألم، فابتسمت في سرور وتشفَّ، وهبت السلم متمهلاً ثم توقفت حين سمعت فريدة تسأل أمها في فرح: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وواصلت هبوطي ثانية ولساني يجمجم في أمسىً: قريباً إن شاء الله يا فيفي!
(القاهرة)
شاكر خصباك
03 - 10 - 1949
- اتفقنا.
ونقلت متاعي إلى المنزل الجديد. وعلى بابه وقفت امرأة وطفلة المرأة في مقتبل العقد الثالث متوسطة القامة على شيء من البدانة. عيناها السوداوان جميلتان، وكذلك أنفها الأقنى الصغير، لكن فمها يميل إلى الاتساع، والطفلة جميلة مرحة ذات وجه بشوش وهيئة ضاحكة.
- سعيدة.
- سعيدة! أهلاً وسهلاً.
واجتزت الباب يتبعني الحمال. تلفت ورائي فرأيت الطفلة ترسل إلى نظرات فرحة. ابتسمت لها فقفزت نحوي وتعلقت بأذيال سترتي. ثم رفعت إلى وجهها الضاحك وهتفت جذلة:
- أنت طويل مثل بابا.
- صحيح؟!
وامتدت يدي إلى رأسها تلاطف شعرها في حنان. وفجأة انطلقت كالقذيفة. انحنيت على حقائبي أُفرغ محتوياتها في الصِّوان والمكتب.
- يا أستاذ. . . يا أستاذ. . .
سمعت صوت الطفلة فتحولت بأنظاري إلى الباب أرقبها في شغف. تقدمت نحوي تتعثر في مشيتها وذراعاها تنوءان بحملهما. (عروسة) عاجية وحصان خشبي وسيارة صغيرة، وضعتها على الأرض في عناية وشرعت تناولني واحدة بعد أُخرى في زهو واعتزاز. قلت وأنا أقلّبها بين يدي في إعجاب:
من أهدى إليك هذه اللعب الجميلة؟!
فلمعت عيناها ببريق الغبطة وهتفت في حماس: بابا اشترى لي هذه اللعب كلها. . . بابا يحبني كثيراً.
فرنتّ على خدها في لطف وقلت: طيب. . . غداً سأشتري لك لعبة جميلة.
فتطلق وجهها وبان السرور في عينيها وهمست في مسودة: أنت تحبني كبابا.
ربما!. . . وبمضي الأيام اشتدت محبتي لها. ما سبب تلك المحبة؟! الله أعلم. قد يكون مبعثها رثاء لطفلة يتيمة الأب. قد يكون مصدرها إعجاب بروحها الأليفة، روح يفيض حيويته على البيت فيملؤه بهجة وحركة ونشاطاً.
وفي كل مساء كنت أخرج إلى شرفة الدار وأتمدد على مقعد الراحة، (المترو) يزفر في الشارع تحتي كأنه يضيق بحمله. وكمساري (الترام) ينفخ في زمارته بملل، ونفير السيارة يعوي بين حين وآخر، والناس يروحون ويجيئون، وفريدة تقبل على قفزاً بصحبة دُماها لتسألني مشاركتها في اللعب كعادتها كلما رأتني منفرداً في الشرفة.
- هالو! فيفي.
وكومت لعبها على الأرض وتربعت إزاءها. ثم شرعت تملأ السيارة الصغيرة. وفجأة توقفت يدها عن الحركة وبدت كأن أمراً يشغل بالها، ماذا يقلقها؟! رفعت عينيها إلى وسألتني في استعطاف.
- هل تشترك معي في اللعب عندما يعود بابا؟! سنلعب ثلاثتنا معاً.
سرت في جسدي رعدة خفيفة وأنا أحدق في وجهها البرئ وأصغي إلى سؤالها الساذج، ألا تعلم بموت أبيها؟! وسمعت لساني يهمس في تردد: حسناًـ سأفعل.
صفقت فرحاً وهرعت إلى الغرفة أُمها وتركت السيارة الصغيرة تدور حول نفسها، وترامى إلى مسامعي صوتها وهي تسأل الأم في لهفة: ماما. . . متى يعود بابا؟! تأخر صوت الأم في الرد ثم تتاهى إلى يغمغم في بطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي.
وظهرت أمامي ثانية (تتنطط) كالعفريت!
- بابا سيعود قريباً من الإسكندرية وسنلعب ثلاثتنا معاً.
- إن شاء الله.
قضيت تلك الأمسية موزع النفس بين شتيت من العواطف والأحاسيس؛ ألم وسخط وضيق وحزن. ثم أوتفريدة إلى فراشها فانطلقت إلى الأم.
- ألا تعلم فريدة بموت أبيها المرحوم؟!
سألت الأم، فأجابتني بنغمة كئيبة تفيض بالحزن والألم: كلا. لقد بعثتها إلى بيت عمتها في (المنصورة) أثناء مرض أبيها، ولما توفي استدعيتها ثانية وزعمت لها أنه سافر إلى الإسكندرية لمهمة تتعلق بعمله.
وقرأت معاني التوسل العميق في عينيها وهي تضيف قائلة: أرجو أن تساعدني على إخفاء الحقيقة عنها، فهي تحب أباها حباً عظيماً، وأخشى أن تصيبها صدمة نفسية إن اكتشفت الحقيقة
في هذه المرة أدركت لماذا تضاعف حبي لها واشتد شغفي بها. وكالنهر حين تزدحم مياهه فتتدفق على جوانبه فاضت عواطفي على فريدة. فيفي، احتفظي بعلبة الشوكولاتة لك وحدك. . . فيفي، أعطيني قبلة في عينيك. . . فيفي، أتعجبك هذه العروسة الصغيرة؟! فيفي، هيا نلعب لعبة القط والفار. فيفي، سأصحبك غداً إلى مدينة الملاهي
وسارت الحياة، وانطوى الزمن، وبدأت الأم تتخلى عن تحفظها شيئاً فشيئاً وتتقرب إلى اشتراكنا أول الأمر في عاطفة واحدة؛ حب فريدة. ثم تطور الاشتراك في العواطف وتعددت جلساتنا وطال انفرادنا. في الأسبوع الأول راحت تنتهز فرص غيبة فريدة لتجلس إليّ وتحدثني عن موضوع يتعلق بزوجها مبتدئة بعبارة تقليدية: لقد كان مثال الزوج المخلص رحمه الله. الحمد لله الذي عوض فريدة بشاب مثلك يعوضها من حنان أبيها ومحبته
وفي الأسبوع الثاني تحررت من قيد البيت فتأبطت ذراعي وهمست في حياء: هيا بنا يا سي زكي نقضي الأمسية في أحد المقاهي.
وفي الأسبوع الثالث، في عصر ذلك اليوم دعتني إلى السينما قائلة: في سينما (كايروبالاس) فلم ممتاز لتيرون باور. . . فلنشهده هذه الليلة يا زكي.
وعدنا في الساعة العاشرة والدار يغمرها الظلام وفريدة والخادمة الصغيرة نائمتان أو المفروض أنهما نائمتان. خلعت بدلة السهرة واستبدلت بها لباس النوم. ودسست جسدي بين طيات الفراش فتناهى إلى صوت فريدة تسأل أمها في ضيق وقلق: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وجمجم صوت الأم في تردد وبطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي. خيَّم الصمت لحظة ثم ارتفع صوت فريدة في لهجة المرتاب: ولكن متى يعود؟! في كل مرة تقولين قريباً، وأنتظر فلا يعود!
- سيعود قريباً يا فيفي وسيجلب لك هدايا كثيرة. والآن يجب أن تنامي وإلا فإنه لن يحبك إذا علم أنك ظللت ساهرة حتى هذا الوقت المتأخر.
حلَّ السكون ثانية فأغمضت عيني ومشاعر الألم والسخط والضيق والحزن تمور في صدري. إلى متى يستمر جهلها بمصير أبيها؟! إلى متى يدوم تضليلها؟! ما أحوجها إلى محبة تعوضها حنان أبيها وتلقى على ذكراه رداء النسيان.
في اليوم التالي ابتعت لها (عروسة) كبيرة ذات عينين تُفتحان وتُغلقان كلما تحرك جسدها.
- فيفي. . . تعالي هنا أتيتك بهدية ظريفة.
دقيقة ودقيقتان وثلاث. . . لماذا تأخرت؟! ثم ظهرت على عتبة الغرفة تخطو في تمهل وتردد.
- خذي هذه (العروسة) يا فيفي. . . أتعجبك؟
وحدقت فيها ملّاً والتردد يشيع في صفحة وجهها النقية، حركت الدمية يميناً وشمالاً فانفتحت عيناها وأغلقتا. وفي لمح البرق اختطفتها من يدي وعدت خارج الغرفة. . ماذا أصابها؟! خرجت وراءها مذهولاً فعالجني بكاؤها منبعثاً من غرفة الاستقبال، مددت رأسي من الباب فرأيتها منبطحة على الأريكة ورأسها مدفون بين الوسائد والدمية مضمومة إلى صدرها، فتهافت على الأريكة بجانبها ومررت بكفّب على شعرها في حنان وأنا أهمس في رقة:
- لا تبكي يا فيفي. . . ما الذي يضايقك؟! فرفعت إلى عينين مخضلتين بالدموع ودمعت بصوت مخنوق وهي تشهق: ألا يعود بابا ليشتري (عروسة) كهذه؟
- بالطبع سيعود يا فيفي. . . سيعود بعد أيام قليلة.
ولم يعد الأب بعد أيام قليلة، وأصبحت في مقامه لدى الأم. اليوم نخرج إلى المنتزه وغداً إلى المقهى وبعد غد إلى السينما، وفي (كازينو سفير) نالت إعجابنا مائدة منزوية في الزاوية اليسرى المطلة على شارع عثمان بن عفان، واعتادت فريدة أن تمر على رصيف هذا الشارع بصحبة الخادمة الصغيرة في طريقها إلى المنزل عمتها فترانا منهمكين في الحديث أو الضحك وتتوقف قليلاً وترمقنا بنظرات جامدة وتواصل سيرها مكفهرة الوجه. ثم تلتفت نحونا مرة ومرتين وثلاثاً حتى تختفي عن أنظارنا!.
وأصبحت فريدة اليوم غيرها بالأمس! كل شيء تغير فيها. أضحى الصمت طابعها المميز والكآبة سمتها الدائمة! واختفى الضجيج والمرح من البيت، وخيم عليه جو من الكآبة الثقيلة. فيفي، لماذا لا تضحكين؟! فيفي، لماذا لا تجرين في ساحة الدار؟! سلبت البيت بهجته ونشاطه؟!
وتحمل فريدة لعبها وتتخير ركناً منعزلاً وتنفرد بها وتمضي الوقت معها في صمت، وأقبل عليها ضاحكاً وأهتف مرحاً: أتسمحين لي بمشاركتك في اللعب يا فيفي؟
وتجمع دماها في هدوء وتنسل إلى غرفتها في سكون. . . لماذا أضربت عن مشاركتي في اللعب؟ ما الذي يبعث في نفسها الكآبة والصمت؟!
وفكرت هنيهة. دمية جميلة تعيد علاقتنا إلى صفائها. واشتريت (عروسة) كبيرة من الجنس تضع على رأسها طرطوراً وتجلس في هيئة المتأمل؛ الرأس بين الكفين والمرفقان على الركبتين
- فيفي. . . اشتريت لك (عروسة) عظيمة. . . تفضلي.
- لا أريدها.
ولبثت ترنو إليها في جمود دون أن تمد إليها يداً.
- كوني عاقلة يا فيفي. خذيها.
- قلت لك لا أريدها.
وانفلتت ذاهبة، ثم عادت بعد حين. نظرت إليها مشدوهاً وهي تكوِّم أمامي اللعب التي أهديتها إليها ووجهها عابس وشفتاها ملتويتان. واستدارت لتعود أدراجها فتشبثت بذراعها.
- ماذا بك يا فيفي؟! لماذا خاصمتيني؟!
حاولت أن تتملص من قبضتي فخابت، وعندئذ انفجرت بالبكاء. وصرخت في غضب حزين:
- أنت كذاب. لا أنت لا تحبني. . . وأنا لا أحبك أيضاً. أنا أحب بابا. سيعود بابا وسيضربك أنت وماما.
وتركت قبضتها مذهولاً فمرقت من الباب كأنها تفر من سجن: وتحولت إلى كوم الدمى أرقبه في لوعة وأسف. ما الذي غير قلبها عليّ؟! وما شأني في الأمر إن كان غياب أبيها مصدر لوعتها؟! ولماذا باتت تحس نحوي بهذا النفور الشديد؟!
وأصبح مرآي يثير الاشمئزاز والكراهية في نفسها، ما تكاد عينها تنالني حتى تفيض بنظرة مقت. وتتقلص ملامح وجهها ويغمره فيض من عواطف البغض. وبدأت تعيش كالغريبة في الدار. ما تكاد تعود من مدرستها حتى تلجأ إلى غرفتها لتناجي لعبها في صمت. ولم تعد تسأل أمها عن أبيها، وأخذت تمضي معظم ساعات النهار في بيت عمتها، فأمسى المنزل كئيباً موحشاً. واقتنعت بتلك اللحظات القصيرة التي تتهيأ لي فيها رؤيتها حين تجلس إلى مائدة الفطور. وفي تلك الدقائق كانت تثبت عينيها المتألقتين ببريق الحقد على وجهي وتتأملني في وجوم. حاولت مرة أن أحدق في عينيها لأستشف من ورائهما ما يدور في فكرها. ولشد ما دهشت حين قفزت من مقعدها في صمت وحملت كوب الشاي وانسلت إلى غرفتها بهدوء. وجرت أمها خلفها لتعيدها إلى مقعدها فواجهتها بالصراخ والنحيب حتى أفلحت في الذهاب. وصار من المألوف أن تسبقني إلى الفطور، فإذا رأتني مقبلاً على المائدة تركت الفطور واختفت في غرفتها بسكون. . لماذا تكرهيني يا فيفي، لماذا؟!
ودب النحول في جسمها وغمر الشحوب وجهها وانطفأ بريق عينيها سوى بصيص من الحزن والمقت. والأم حزينة لحال ابنتها مسرورة بحبها الجديد. أنا مهموم محزون لا أدري ماذا أفعل وكيف أستعيد محبة الطفلة ثم حدث أن عدت من (السينما) ذات مساء في الساعة الثانية عشرة والنصف بصحبة الأم. فتحت الأم الباب فراعنا أن تبصر فريدة منطرحة على أحد مقاعد الصالة في وضع مهمل، اتجهت إليها الأم وهزت جسدها في رفق فهبت من رقادها تصرخ في جنون. وحملتها الأم بين ذراعيها في اضطراب، لكنها انطلقت ترفس الهواء برجليها محاولة التملص منها
- ماذا بك يا فيفي؟. . . لماذا تبكين يا فيفي؟!
لا جواب سوى الصراخ. صراخ يصل عنان السماء. . ثم انحلت عقدة لسانها واندفعت صائحة:
أنت تكذبين عليَّ يا ماما. . . بابا لن يعود إلا حين يترك سي زكي دارنا. . . أنت بعثته إلى الإسكندرية لكي تحضري سي زكي هنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لماذا يعيش في دارنا بدل بابا؟. أنا لا أحبه، لا أحبه. . . بابا أحسن منه. بابا أحسن منه يا ماما. . .
انسللت إلى غرفتي في صمت وأنا أشعر بقبضة قوية تعصر قلبي. وتهالكت على المقعد ووضعت رأسي بين كفي وأغمضت عينيَّ مُفكراً، وقبل أن ألجأ إلى الفراش كانت حقائبي معدة للرحيل
وقفت الأم في الصباح التالي في ركن من ساحة الدار ترقب الحمال في وجوم وهو يروح ويغدو حاملاً متاعي. واختفت فريدة وراءها تخلس إلى النظرات في ابتهاج. وتمَّ كل شيء فأقبلت عليهما مودعاً وابتسامة باهتة ترفرف على ثغري شددت على يد الأم في حرارة فاستبقت كفي بين كفَّيها وحدَّقت في وجهي بعينين تحيَّرت فيهما الدموع. ولم تفه بكلمة واحدة وقبل أن أستدير مولِّياً الأدبار رنوت إلى فريدة بنظرات تجمعت فيها عواطف الحب والحزن والألم، فابتسمت في سرور وتشفَّ، وهبت السلم متمهلاً ثم توقفت حين سمعت فريدة تسأل أمها في فرح: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وواصلت هبوطي ثانية ولساني يجمجم في أمسىً: قريباً إن شاء الله يا فيفي!
(القاهرة)
شاكر خصباك
03 - 10 - 1949