أحمد حسن الرحيم - الفكاهة في شعر المتنبي

شعر الفكاهة في ديوان المتنبي نادراً جداً، وليس ذلك لأن أبا الطيب لا يحتاج إلى الترويج عن النفس، أو أنه لا يدرك مفارقات الحياة، أو لا يحس التعبير عنها، بل لأنه ألزم نفسه أسلوباً جدياً صارماً فقضى عمره في كفاح عنيف متواصل يريد أن ينال لنفسه ما رسم لها من المناصب يأخذه غلاباً ويخوض له المهالك إن استطاع، قال لبعض الكلابيين وهم على شراب:

لأحبتي أن يملئوا ... بالصافيات الأكؤبا

وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا

حتى تكون الباترا ... ت المسمعات فأطربا

وقال في رثاء جدته:

يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى

أما منية المتنبي - كما كشف عنها في شعره - فهي ولاية يرأس بها الناس فتشبع نهمه للزعامة، وقد ضن بها عليه الزمان وقتل قبل أن يبلغها.

فالفتى الذي أغرى الناس بالثورة منذ صغره وصمد - منفرداً - لدرس الكاشحين وخصوماتهم في بلاط سيف الدولة يعز على نفسه الطموح أن تنصرف - إلا نادراً - إلى اللهو والفكاهة قبل أن يحقق مأربه الفخمة. فهو فتى قل أن نجد بين الفتيان من له استكباره لنفسه وصلابة همته واحترامه لذاته.

فهو شديد الميل إلى الجد، يريد أن يكون ممحدوحه متزناً وقوراً مهيباً؛ فقد ورد في ترجمة أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني للمتنبي أنه صده عن مدح الوزير المهلي (ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مر النفس، صعب الشكيمة، حاداً مجداً

وهو إذا ضحك فلا يريد أن يحمل ضحكه على فراغ القلب بل هو كتكشيرة الليث بداية شروفتك

وجاهل غره في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة و إذا نظرت نيوب الليث بارزة ... فلا تظن إن الليث يبتسم

ومع كل هذا فلا يخلو ديوانه من شعر الفكاهة فقد قال وقد تاب بدر بن عمار من الشراب مرات عديدة ثم رجع إليه فرآه أبو الطيب يشرب فأنشد ارتجالًا؛

يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في ملكه لا ملكه

في كل يوم بيننا دم كرمة ... لك توبة من توبة من سفكه

والصدق من شيم الكرام فنبنا ... آمن الشراب تتوب أم من تركه

هذه الكياسة من الصفات التي حببته إلى نفوس الأمراء والملوك فقد مزج الدعابة بالمديح المتين: أصدقاء الأمير شركاء في ما يملك من ثروة يأخذون ما يريدون بلا منّة ولا استحياء، وهذه من سمات الكرم الأصيل. ثم ما أبرع أبا الطيب في قوله (لك توبة من توبة) فالمعنى الأصلي أنه نكص ومنعفت عزيمته فارتد عن توبته ولكن براعة المتنبي تأبى أن تقول هذا المعنى بهذا اللفظ القارص فتحايلت لإبرازه بعودة أخرى؛ فالأمير لا يزال مستمرا في توبته ولكنه تائب عن التوبة. هذه المغالطة الفكهة حبيبة إلى كثير من النفوس، ثم وسع له الفرصة ورفع عنه الحرج إذ مهد له الجواب في سؤاله: (أمن الشرب تتوب أن من تركه؟) فمن اليسير المقبول أنه يقول الأمير: (بل من تركه)

ومن شعر الفكاهة قوله من قصيدة طويلة قالها عندما أنقذ سيف الدولة أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان من أسر الخارجي:

ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل

قدى بفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل

ومناهم الخيل مجنونة ... فجئن بكل فتى باسل

طرافة يصورها المتنبي لهذا الأسير، فهو يضمن النضار لأعدائه ولكنه يعطي صدور القنا عوضه، فياله من تعويض طريف. ويمنيهم الخيل يعدون بها غنيمة فجاءت الخيل - كما وعد - ولكنها تحمل الموت الزؤام بسنان (كل فتى باسل).

إن المتنبي يجوز في شرعته أن يمكر الإنسان بعدوه ويخلف وعده ولكنه يأبى هذا في الحب.

وهو ينحدر إلى السخرية الجارحة مخاطباً أعداء أبي وائل في قوله: - خذوا ما أتاكم به واعذورا ... فأن الغنيمة في العاجل

وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص من قابل

فهو يزعم - ساخراً - أن ما نالوا من قتل وتدمير على يد سيف الدولة فذلك (إحسان) ومن شيم المحسنين أن يعتذروا عن قلة إحسانهم ولو كان جسيما. فخذوا ما تيسر واعذورا. وإذا ارتضيتم صنيعا هذا فهلموا إلينا في العام المقبل إلى مثل ما غنمتم في هزيمتكم المنكرة.

وأنشد المتنبي أبا بكر الطائي فنام والمتنبي ينشد فقال: -

إن القوافي لم تنمك وإنما ... محقتك حتى صرت مالاً يوجد

وكأن أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنها مما سكرت المرقد

إن البيت الثاني دعابة واعتذار إذ ألقى تبعة النوم على الشعر فقد حسبه كالأفيون الذي يجلب النوم، أما البيت الأول وفيه (إن القوافي محقتك) فهو وخزة عميقة أملتها نفس المتنبي الثائرة وقد جمع المتنبي بين الهجوم والاعتذار في بيتين متتابعين.

ومن الفكاهة الجيدة قوله

بلغت بسيف الدولة النور رتبة ... أنرت بها ما بين غرب ومشرق

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق

صورة بديعة مضحكة حالة هذا الأحمق يبيت له سيف الدولة المكر فيحثه على اللحاق بالمتنبي وهو منطلق لا ترى إلا عجاجته ليكشف ضعف هذا العاجز فيضحك من تقصيره، صورة حسنة منظورة في منافسات الفرسان استعارها أبو الطيب لمباراة الشعراء فبلع الغاية.

ومن التهكم والسخرية قوله وقد قبض عليه أبن علي الهاشمي في قرية يقال لها (كوكتين) وجعل في رجله وعنقه خشبتين من خشب الصفصاف.

قال: -

زعم المقيم (بكوتكين) بأنه ... من آل هاشم بن عبد مناف

فأجبته مذ صرت من أبنائهم ... صارت قيودهم من الصفصاف

وقد ذكر هذين البيتين المرحوم البرقوقي في المستدرك من شعر المتنبي في آخر الجزء الثاني من طبعة سنة 1930 فإذا صحت هذه الزاوية فربما قالهما بعد أن نجا من قيد هذا الهاشمي المتهم بنسبه على رأي المتنبي ولا يعقل أنه قالهما وهو في قبضة الآسر فيضاعف من نكاله وآلامه.

وقال في صباه وقد رأى جرذاً مقتولاً: -

لقد أصبح الجرذ المستغير ... أسير المنايا صريع العطب

رماه الكناني والعامري ... وتلاه للوجه فعل العرب

كلا الرجلين إتلا قتله ... فأيكما غل حر السلب

وأيكما كان من خلفه ... فان به عضة في الذنب

ففي وصف معركة الجرذ لفتات تدل على براعة التصوير ودقة التعبير؛ فالجرذ مستغير أغار على العامري والكناني فحاب في حملته لأن بأس خصميه فوق ما قدر وقد تظاهرا عليه فقتلاه، وتلاه للوجه كصنيع العرب في الوغى، ولكن من منهما اقتدى بشاعر الفراسان عنترة العبسي ذاك الذي (يغشي الوغى ويعف عند المغنم) فتنازل لصاحبه عن حصته في السلب فقد انفرد بغنيمته شخص واحد.

ووصف المتنبي السلب بأنه (حر) لا عار على آخذه فهو من أسلاب الحرب يأخذه الغالب بكامل عزته وكبريائه، ثم يتساءل المتنبي عن الندب الذي فتك به بغتة فعضه من الذنب فلعل هذا أحذق بفن الحرب وأدخل في باب الشهامة الحربية لأنه لم يستعمل من السلاح خيراً مما يملك خصمه.

هذا المتنبي من شعراء القوة والدم في العالم قطبت الأحداث جبينه وألهبت نظراته الخصومات فلا يبتسم إلا لماماً. وأحسب لو أنه نال بغيته لانبسطت أساريره وأولى شعر الفكاهة أكثر من هذه العناية، والفن القوي يخلد مع كل غرض.

الحلة العراق
أحمد حسن الرحيم
ليسانس بالأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 896
بتاريخ: 04 - 09 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى