أحمد أبو بكر إبراهيم - شعر القرن التاسع عشر بين التجديد والتقليد.. -2-

لقد كان هؤلاء الشعراء مقلدين لمن سبقوهم من ضعاف الشعراء في عصور الانحطاط، بعد أن فترت همتهم عن التحليق في سماء التجديد وذابت شخصياتهم، فلم يعد لهم قدرة على الخلق والابتكار، بل وضعوا أنفسهم في مقام التابعين للضعفاء، والمرء حيث يضع نفسه. وليس أدل على التقليد وفتور القريحة، من اتخاذ شعر الأقدمين مجالاً للتشطير والتخميس وما شابه ذلك فاستمع إلى حسين بيهم المتوفى سنة 1881 يقول:

وإذا العناية لاحظتك عيونها ... وحباكها من فضله الرحمن
نادك طائر يمنها وسعودها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... وأملك بها الغبراء فهي سنان
وأصعد بها العلياء فهي معارج ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان

والشاعر في مثل هذا متقيد بمنهج غيره، ملزم بإحساس شاعر آخر مجار له فيما يقول، فهو يضع شطراً مقابل شطر، فأين في مثل هذا تصوير العاطفة والإحساس.

وقد يلجأ الشاعر إلى طريقة أخرى؛ فهو يقلد من سبقه في معانيه ووزنه وقافيته، ولا يزال يلح في التقليد حتى ينقل إليك من كلام السابقين ما حلا له، ومن ذلك قول (فارس الشدياق) فيما سماه (دمعة على طفل)

الدمع بعدك ما ذكرتك جاري ... والذكر ما وراك ترب وار
يا راحلا عن مهجة غادرتها ... تصلي من الحسرات كل أوار
خطأ وهمت فأين بعدك مهجتي ... ما في حشاي سوى لهيب النار
رمقا أقل الجسم مني فادحا ... فكأنه وقر من الأوقار
ما بعد فقدك رائعي أو رائقي ... شيء من الظلمات والأنوار
أبني ما يجدي التصبر أقوله: ... حكم المنية في البرية جار
كلا ولا بي قر بعدك من حمى ... ما هذه الدنيا بدار قرار

وهكذا يمضي الشاعر مقلداً مرة وناقلاً مرة أخرى إلى آخر القصيدة. ومن التأث الأقدمين قول السيد علي الدرويش يذم بلدة منفلوط وكان قد زارها فلم يلاق فيها ترحيباً ولا براً:

وردنا منفلوط فلا سقاها ... وردناها فأظمأنا الورود
فمالي قد بعثت لقوم عاد ... كأني صالح وهم ثمود
أراهم ينظرون إلى شزرا ... كعيسى حين تنظره اليهود

ومن الألوان التي أسرفوا فيها، وبعدوا فيها عن منهاج الشعر الصحيح ما سموه (بالتاريخ الشعري) ومن أمثلة هذا قول أحدهم يؤرخ تولي الخليفة للخلافة:

تولى التخت سلطان البرايا ... وأيده الإله بمرتقاه
فصاح الكون لمل أرخوه ... نظام الملك (محمود) بهاه

فتأمل كيف يضيع الشاعر وقته، وينفق مجهوده في وضع حرف مكان حرف، وكلمة مكان أخرى حتى يخرج مجموع الحروف في قوله: (نظام الملك محمود بهاه) (1223) وأية ناحية من نواحي الجمال في مثل هذين البيتين.

وراح الشعراء لنضوب الأذهان من المعاني الجليلة يطرزون اللفظ والمعنى بشتى ألوان المحسنات، فكان بعضهم يوفق في اصطياد المحسنات فتأتي سهلة لا يشق وقعها على السمع، ولا تنبو على الذوق. من مثل الاقتباس في قول البرير حينما هجاً تاجراً سها عن الآخرة:

يا تاجرا لا يزال يرجو ... ربحا ويخشى الخسارة
عبادة الله كل حين ... خير من اللهو والتجارة

وكان يخطئهم التوفيق أحياناً فيسمجون. فتأمل قول الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي في وصف دار للجبرتي:

سما في سماء الكون فأنتهج العلا ... برفعته وازداد سرا سروره
ومن مجد بانيه تزايد بهجة ... وقلد من دار المعالي نحوره
ودام بعد سعد المعالي مؤرخا ... حمى العز بالمولى الجبرتي نوره

وقول علي الدرويش في وصف قصر أيضاً:

وقصر كالسماء به نجوم ... مطالعه السعادة والبدور
على أقطاره تبكي عيون ... إذا ابتسمت لوارده زهور
فليس بوافد وافاه نهر ... وقد نضدت لمدحه البحور
لئن أضحى لمبناه متون ... فقد شرحت لرونقه الصدور

ولقد كان هؤلاء الشعراء أنفسهم ومن في طبقتهم إذا تجاوزوا هذه الموضوعات إلى موضوعات أخرى فيها حديث النفس وتصوير العواطف؛ أصابوا بعض التوفيق فتأمل قول السيد عمر اليافي وكان من المتصوفين:

أنا بالله اعتصامي ... لا أرى في ذاك شكا
موقنا أن لا سواه ... كاشف ضرا وضتكا
راجيا فيه نوالا ... ورشادا ليس يحكى
لم أزل لله عبدا ... وبهذا أتزكى

ولعلك واجد في هذه الأبيات طبعاً وانسجاماً وسهولة لا تحسها في الأشعار السابقة.

ولا بأس من أن نعرض هنا صوراً من استجابة هؤلاء الشعراء إلى عواطفهم؛ في موضوعات الفكاهة والدعاية ووصف الطبيعة وشكوى الزمان، ففيها على أي حال طلاقة وإحساس، وقوة ملامح الشاعر التي تميزه عن غيره من الشعراء. ونحن لا ننكر أننا سنجد في هذا كله سذاجة في بعض المعاني، وسنقع على بعض الضعف في الأسلوب، ولكننا مع هذا سنستجيب لاحساس الشاعر وسنقبل عليه متأثرين بكثير مما قال - وتتضح لنا شخصيته التي كانت تختفي في الأغراض السابقة وراء حجب كثيفة من التقليد. ستتضح لنا بين الحين والحين ويختفي ضعفه وفتوره، كما تختفي علة المريض أحياناً في ومضات من عودة الصحة وسلامة العافية. قال الشيخ صالح التميمي ينعى على أرض أقام فيها فلم يطب له فيها المقام:

ما إن تحركت الغصون بأرضها ... إلا تحرك في الحسوم أذاها
أشجارها خضر وأوجه أهلها ... صفر محا كسف السقام بهاها
لولا قضاء الله حتم واجب ... أبت المروءة أن أدوس ثراها

وقال أحدهم يشكو الدهر:

رمت قلبي رمال الدهر حتى ... رأيت دمي يسيل من العيون
فلو كان الزمان يصاغ جسما ... لكنت أذيقه كأس المنون

وقال الشيخ يحيى المروزي العمادي العراقي:

على ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبر

ومن ذلك قول الحاج عمر الأنسي البيروتي المولود سنة 1822 في وصف ثقيل اشتكى من كثرة الذنوب:

شكا ثقل الذنوب لنا ثقيل ... فقلت له استمع لبديع قيلى
ثلاث بالتناسب فيك خصت ... فلم توجد بغيرك من مثيل
ذنوبك مثل روحك ضمن جسم ... ثقيل في ثقيل في ثقيل
ولعلك تدرك شيئا من ضعف الأسلوب في هذه الأبيات.

وفي الأبيات التي سنعرضها عليك فيما يلي، خفة روح، وتصوير فكه وهي لنيقولا الترك يتحدث عن سرواله وعمامته.

وسروال شكا عتقا وأمسى ... يراودني العتاق فما عتقت
وكم قد قال لي: بالله قلني ... وهبني وكنت عبدا وانطلقت
أما تدري بأني صرت هرما ... وزاد علي أني قد فتقت
فدعني حيث قل النفع مني ... وعاد من المحال ولو رتقت
ولا تعبأ بتقليبي لأني ... بممر أبيك نوح قد لحقت
ولم يبرح يجدد كل يوم ... على النعي حتى قد قلقت
وقلت له: عتقت اليوم مني ... لأني في سواك قد اعتلقت
فأشعرت العمامة في مقالي ... له فاستحسنت ما قد نطقت
فراحت وهي تشدو فوق رأسي ... لي البشرى إذا وأنا عتقت
نعم في هذه الأبيات مرح وإحساس، ولكن فيها بجانب ذلك
عسراً في القافية، واضطراباً في الأسلوب؛ لأن الصياغة لم
تسلس بعد للشاعر، ولم يمرن على الأسلوب السهل الرصين.
ومن أمثلة وصف الطبيعة الجميل في هذا العهد - وإن تعمد
فيه الشاعر المحسنات - قول أمين بن خالد الجندي:
يا حبذا الربوة من دمشق ... بالفضل حازت قصبات السبق
كم أطلعت بها يد الربيع ... من كل معنى زائد بديع
وفتح الورد الكفوف إذ دعا ... داعي الصباح للها ورجعا
وفككت أنامل النسيم ... أزرار زهر الرند والشميم
وسقطت خواتم الأزهار ... من فتن الأغصان كالدرارى
والتف سيف البرق في أوراق ... مذ شام خيل الريح في سباق
ما بكت السماء بالغمام ... إلا وصار الزهر في ابتسام

ونحن إذا ما تتبعنا الشعر خلال هذا القرن، وبخاصة بعد أن انقضى عهد منه؛ لحظنا فيه بدوراً من بوادر النهضة توشك أن تظهر في وضوح وجلاء مع توالي الأيام. فما الذي أحدث هذا يا ترى؟! وما البواعث التي جعلت الشعراء يعزفون عن التقليد شيئاً فشيئاً، ويقبلون على ألوان جديدة من الشعر، توشك أن تحمل مميزات الشعر وصفات التجديد؟

نحن لا نشك في أن العلم الذي قطرته البعثات، ومهدته الترجمة قد وجد طريقه إلى الشعر ففرزت معانيه، ودقت ورقت أخيلته، وسمت وتعددت آفاقه، فخاض في ألوان جديدة، وطرق معاني لم يكن يطرقها من قبل. وعندئذ التفت الشعراء إلى ثقافة الماضي فوجدوها آلية، قد تقيم اللسان، ولكنها لا تقدر على البيان، وقد تدرب على الصرف والعروض، ولكنها لا تجلو لعيني الشاعر أسرار الحياة، ولا تمده بالخيال الخصيب والمعاني البديعة، ولهذا عابوا على النحو والنحويين، وانتقدوا العروض والعروضيين. فاستمع إلى الشيخ الأسير يعيب على شعراء اللفظ:

خليلي كم قد جاء في الناس شاعر ... وليس له بيت من الشعر عامر

واستمع إلى إلياس صالح وهو يتهكم على المبالغة في النحو:

ماذا الذي يهمني ... إن قام زيد أو قعد؟
أو إن ذهبت ماشيا ... أو راكبا نحو البلد؟
أو كان زيد مبتدا ... أو فاعلا سد المسد؟
أو إن يكن ذا الاسم يب ... ني أو يكن هذا يهد!
تصالح الفعلان أو ... تنازعا طول الأبد
في النحو لا تقهرني ... إلا تفاصيل العدد
وأفضل التفضيل كم ... قد شذ فيه وشرد
وغير هذى عقد ... تبا لها تيك العقد
ترى بها قواعدا ... بدون معنى وزبد
مختومة جميعها ... يقس عله ما ورد

وهذا ولا شك إعلان للحرب على القديم، حيث كان الناس يعدون من لا يبالغ في دراسة النحو والصرف والعروض لا يحق له أن يغامر في ميدان الشعر. وقد آمن الكثير من الأدباء ومنهم الأستاذ العقاد والدكتور هيكل باشا بأن أول من جمع بين الطريقتين ولفق بين الاتجاهين الساعاتي الشاعر؛ فقد كان وسطاً بين الناسجين على طريقة القدامى، والناقدين لمذاهبهم في المبالغة لدراسة النحو والعروض فهو القائل:

فدعني من قول النحاة فإنهم ... تعدوا لصرف النطق من غير لازم
إذا أنا أحكمت المعاني خفضتهم ... وأرفعها قهرا بقوة جازم
وما أنا إلا شاعر ذو طبيعة ... ولست بسارق كبعض الأعاجم

ومن بواعث التجديد في النصف الثاني من هذا القرن، أن الناس قد استروحوا شيئاً من نسيم الحرية الشخصية، بعد أن كمت الأفواه وغللت الأقلام قروناً طوالاً، فوجد الشعراء في خلال هذه الحرية منفذاً إلى تصوير العواطف والانطلاق على السجية؛ فعبروا عن النفس في انقباضها وبسطها، وهتفوا بالمعاني الكريمة التي تصور المآرب والآمال. وأنا أعني بهذه الحرية ما عناه الشاعر وترجمه المنفلوطي حيث قال: (أريد أن أعيش حراً طليقاً أضحك كما أشاء، وأبكي كما أريد، واحتفظ بنظري سليماً، وصوتي رناناً، وخطواتي منتظمة، ورأسي مرفوعاً، وقولي صريحاً، أنظم الشعر في الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد منه فذاك، وإلا تركته غير آسف عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلاً من أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرظوه، والممثلين أن يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه.

أريد أن أعيش حراً طليقاً أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقاً أولئك، ولا خاشياً هؤلاء. .)

وقد يكون مصدر هذه الحرية الشخصية التي أدركها الناس فيما يقولون وما يدركون؛ راجعاً إلى الحرية السياسية التي أصاب الناس بصيصاً منها على يد الحكام، بعد أن انتقصها السابقون وجار عليها السادة الغابرون، فقد عرف إسماعيل باشا أنه مسئول عن رقي الأمة المصرية، فعمل على إحياء ما يبعث الأمل في قلوبهم ويقوي الرغبة في نفوسهم، فمنحهم بعض الحقوق الدستورية، وقد حدث ما يشبه هذا في الشام والعراق، على يد مدحت حينما طالب الناس بالدستور، ولكن ذلك كله لم يطل أمره، فقد تغيرت الأحوال وتبدلت الشئون.

وقد يكون مصدر هذه الحرية العلم الذي انتشر وذاع وتملأه الناس: فالعالم أحرص الناس على كرامة نفسه، والاعتزاز بمكانتها، ولهذا أنف الشعراء بعد هذا أن تسد في وجوههم طرق الصراحة والتماس الحق، والتغني بالجمال حيث كان.

وقد ساعد على نمو هذه الحرية، رخاء العيش في ذلك الزمان كما أدركوا إعجاباً وتشجيعاً من الجمهور، فطبعوا ما أنتجته قرائحهم، ووجدوا من يقدر هذا الإنتاج، ويقبل عليه، فحصلوا على المال دون إراقة لماء الوجوه.

ومن أسباب رقي الشعر في هذا العهد، أن الناس قد شعروا بشيء من الكرامة والعزة، فانتبهوا إلى ماضيهم المجيد يقلبون صفحاته، وينقبون عن صفاته، فوجدوا الفخر كل الفخر في مجد آبائهم العرب، فالتمسوه في أخبارهم وأشعارهم وكتبهم؛ وساعدهم على هذا الاتجاه المطبعة التي صارت تقذف إليهم كل يوم بذخائر المسابقين وكنوزهم - فعلموا بعد هذا - أنهم أضاعوا المجد وعبثوا بالتراث، وأنه من الخير لهم أن يقووا أنفسهم عن طريق التعصب للقومية العربية، فهي خير القوميات وأكرمها، فكان هذا التعصب من أسباب قوة الشعر ونهضته وما هتف هاتف قبل الشيخ إبراهيم اليازجي بمثل قوله:

وما العرب الكرام سوى نصال ... لها في أجفن العليا مقام
لعمرك نحن مصدر كل فضل ... وعن آثارنا أخذ الأنام
ونحن أولو المآثر من قديم ... وإن جحدت مآثرنا اللئام
فقد علم العراق لنا قديما ... أيادا ليس تنكرها الشام
وفي أرض الحجاز لنا فيوض ... يسيل لها إلى اليمن انسجام
وفوق الأندلوس لنا بنود ... لهامات النجوم بها اعتصام
وسل في الغرب عن آثار فخر ... لها في جبهة الزمن ارتسام
ولسنا القانعين بذكر هذا ... وليس لنا بعروته اعتصام
ولكنا سنجري في المعالي ... إلى أن يستقيم لها قوام

والالتفات إلى مجد العرب لفتهم إلى مجد قومي آخر يتصل بالماضي القديم، وكان هذا أكثر ظهوراً في مصر؛ لما لها من مجد عريق، فها هوذا السيد الدرويش يحاول أن يتحدث عن الهرمين وخلودهما ولكن الأسلوب لا يسعفه فيقول:

أنظر إلى الهرمين واعلم أنني ... فيما أراه منهما مبهوت
رسخا على صدر الزمان وقبله ... لم ينهضا حتى الزمان يموت
وها هوذا الشيخ نجيب الحداد يتحدث عن مجد مصر فيقول:
أرض إذا لم يعل في أرجائها ... علم فإن كرامها أعلام
لبست من المجد التليد مطارفا ... ولها من المجد الطريف وسام
وتعانقت والفخر من قدم كما ... قد عانقت ألف الكتابة لام
مجد به هرم الزمان ولم يزل ... غضا وقد شهدت به الأهرام

ومن حقك الآن أن تسأل: إذا صح أن الالتفات إلى القومية والاعتزاز بالكرامة، قد جعلا الشاعر يخوض في أغراض غير التي ألفها الشعراء من قبل، ويتناول من المعاني ما غاب عن السابقين، وند عن الغابرين، فكيف نفسر قوة الأسلوب الطارئة، والعزوف عن المحسنات البديعية التي فتنت الناس عهوداً طوالا!؟ وأنا أجيب بأن الاتجاه إلى الأمور الجدية يصرف المرء دائما عن الصغائر، ويبعده عن العبث الذي لا طائل تحته، فما قيمة مراعاة الجناس والطباق والتورية فيما يتطلبه صاحب الهمة من الإصلاح، وما قيمة مراعاة النظير وحسن التعليل لراغب في تصوير عواطفه والانبعاث على سجيته. لقد كبرت آمال الشعراء ونفوسهم فترفعوا عن كل صغير تافه، والتمسوا تحقيق المآرب من أقرب المسالك فأزالوا ما يعترضهم من عقبات، وألبسوا معانيهم الأسلوب السهل الجميل، وهو لا يحملهم عناء، ولا يصرف وقتهم في التماس الزينة، واصطياد الزخارف. على أنهم وجدوا طلبتهم فيما بعثت به المطبعة من أشعار الفطاحل في عصور العربية الزاهرة: فقد وجدوا جريراً والفرزدق والأخطل والكميت وقطري بن الفجاءة وإضرابهم إذا ما عالجوا الشعر، دفعوا إلى المعاني في أسلوب قوي رصين لا يشوه من جماله، ولا يحد من بلاغته تلك الزخارف الكثيرة التي مسخت طبيعته بعدهم نحو ألف من الزمان، وحالت دون تحليقه في كل سماء، واندفاعه إلى كل غاية

وبعد فإنه لا يختلف اثنان في أن البارودي بما انتج من شعر رصين كان بداية عهد جديد للشعر حط عنه قيوده وأغلاله، وبعث فيه الحياة فجال في كل فن، واستبق إلى كل غاية، فلم يقصر دون اللحاق بالفحول السابقين، ولم يدركه ما أدرك شعراء زمانه من فتور القريحة وركود الذهن.

بل لا يختلف اثنان، في أنه أول شاعر أحس قيمة الشعر وقيمة النفس؛ فترفع بهما عن سفساف المطالب، وزري المقال وتغنى كما يتغنى صادح الأيك على سجيته: فبكى وابتهج واشتكى وافتخر وعاتب وحن إلى الديار، وصور الجمال ولم يمدح إلا عن يقين، أو لرد جميل سلفت أياديه عليه؛ فكان بهذا نسيج وحده في القرن التاسع عشر. وإن لم يطلب بشعره كل ما نريده من الشعر في وقتنا الحاضر، ويكفيه أنه رائد الركب إلى الغايات الكريمة، ولا نذكر هنا من شعره المثل أو المثالين؛ إلا لنعرض في هذا المقام لوناً جديداً من شعر جديد، لم يشنف الأذن في الكلمة شبهه، ولم يطرق القلب نظيره، والحق أن كل شعره فاتن خلاب، يحمل المتخير على الحيرة فيما يأخذ وما يدع

ومن الأمثلة التي تدل على تيقظه السياسي قوله يخاطب الخديو:
سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجري عليها كل راع مرشد
فمن استعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد
أمران ما اجتمعا لقائد أمة ... إلا جنى بهما ثمار السؤدد
جمع يكون الأمر فيما بينهم ... شورى وجند للعدو بمرصد
فالسيف لا يمضي بدون روية ... والرأي لا يمضي بغير مهند

ومن قوله من قصيدة يتشوق إلى وطنه: هل من طبيب لداء الحب أوراقي ... يشفى غليلا أخا حزن وإبراق؟!

قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقا ... حتى جرى البين فاستولى على الباقي
حزن براني وأشواق رعت كبدي ... يا ويح نفسي من حزن وأشواق
أكلف النفس صبرا وهي جازعة ... والصبر في الحب أعيا كل مشتاق
لا في سر نديب لي خل ألوذ به ... ولا أنيس سوى همي وإطراقي
أبيت أرعى نجوم الليل مرتفقا ... في قنة عز مرقاها على الراقي

بهذا الروح القوي، والأسلوب الجزل الرصين، يمضي شاعر القرن التاسع عشر في قصائده؛ فلا تحس قلقاً ولا ترى ضعفاً، ومن الحديث المعاد أن نطيل في إطرائه والثناء على مكانته، ولكنا لا ننسى على أي حال أنه كان كثير التقليد لفحول النابغين. وآمل أن أوفق - أو يوفق غيري - إلى إيضاح التقليد والتجديد والتجديد في الشعر الحديث من لدن البارودي إلى وقتنا الحاضر، لندرك ما أصابه من القوة، وما بعد به عن الغاية المرجوة. والله وحده المسئول أن يأخذ بيد الشعر إلى أقوم طريق.

(واد مدني)

أحمد أبو بكر إبراهيم
المدرس الأول بحنتوب


مجلة الرسالة - العدد 882
بتاريخ: 29 - 05 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى