صحيح أن بدور لم تكن تعدو عن كونها ابنة عمي، ولكنني مع ذلك كنت أحبها بقدر محبتي لوالدتي وهي كل ما أملك في الحياة. كيف أنسى تلك اللهفة التي كانت تلهب نفسي إلى رؤيتها ورؤية أبوي حين كنت أقوم بمهام وظيفتي الحكومية في (البصرة)؟ وعندما عدت إلى بلدتي لقضاء إجازتي السنوية. . رباه، كيف يغيب عن خيالي ذلك الموقف؟! لكم أثار منظرها في نفسي من غبطة وحبور حين تهادت نحوي في خفر وألقت علي تحية اللقاء بلسان لعثمة الحياء ووجه أضرجه الخجل! ولأول وهلة كذبت عيني وأنا أتفرس فيها مأخوذاً، قبل عشرة شهور فقط خلفتها طفلة ساذجة، أما هذه فامرأة، امرأة فاتنة تتضوع سحراً وإغراء! أهي بدور حقاً هذه الشابة الرائعة ذات القامة الفارعة والجسد الممتلئ والنهدين المتوثبين؟! سبحانك اللهم. .!
لكم تمنيت في تلك اللحظة لو تطول الإجازة لأستمتع بالحياة الهنيئة في هذا الجو العائلي الجميل الذي يظلله بالحنان المضطرم أبواي العزيزان، وتنيره بالبهجة بدور العظيمة. أية أيام تلك التي هنئت بها في مطلع عودتي؟! لقد طفح قلبي بسعادة مشرقة. . سعادة فياضة لم أذق لطعمها مثيلاً في الإجازات السابقة، ووجدتني مسوقاً إلى الاهتمام ببدور أكثر من أي وقت مضى. ولست أدري ما الذي أوحى إلي أنني كنت مقصراً في محبتها أثناء الأعوام المنصرمة مع أنني محضتها أعظم الحب كما لو كانت شقيقتي الوحيدة، عندما انتقلت إلى منزلنا وهي في السابعة من عمرها عقب وفاة أبويها وكأن هذا الخاطر كان مدعاة لي لتلافي ذلك التقصير فاندفعت في رعايتها اندفاع المهووس في شكه، وشغفت بمرآها شغف الطفل بلعبه! وكنت أحس بينبوع من الهناءة يتدفق في قلبي حين أراها تخطر في الدار بوجهها الطاهر الصبوح وشعرها الأشقر الطويل وقوامها الأهيف الرائع.
لا أذكر كم من الأيام لبثت أنهل من ينبوع السعادة الفياض، عندما بدأ ذلك الينبوع يفيض شيئاُ فشيئاً حتى جفت مياهه. ولعلها كانت أياماً طوالاً في حساب الزمن لكنني أحسست كما لو كانت يوماً واحداً. ولا أعلم أيضاً متى بدأ النبع يجف؛ أفي تلك الساعة التي لمحت فيها مهدي متكئاً على سور السطح المشرف على دارنا وعيناه مثبتتان على سطح منزلنا كأنه يترقب ظهور شخص معين؟ أم في تلك الأمسية التي وافيت فيها بدور إلى السطح فألفيتها متشاغلة عن العمل ترصد سور السطح المجاور في لهفة وقلق؟ أغلب الظن أنه بدأ يجف في تلك الأمسية، فلا زلت أتصور كيف حدقت إلى الناحية التي تتجه إليها أنظارها فارتسمت في خيالي في التو صورة الشاب المتكئ على السور وفي عينيه شوق حائر. وانبعث في أعماقي شعور داخلي يشي بوجود صلة تربط الاثنين.
وبين يوم وليلة تفتحت عيناي على حقائق مرة. . إن بدور لم تعد تلك الصبية الحيية الهادئة التي عهدتها بالأمس. . كل همها اليوم أن تبدو جميلة فاتنة! في الصيف الماضي لم تكن تعبأ بالوقوف أمام المرآة. . وفي هذا الصيف دأبت على مناجاتها دون كلل أو ملل. ماذا جرى بالله يا بدور؟! ماذا جرى؟!
لم يكن الأمر مغلفاً بغموض يعوزه التأويل. . إنه مهدي. . ذلك الشيطان! كانت تنذر أوقات فراغها للتبرج له. . له وحده. . وكانت تخلق الأعذار الواهية لتخف إلى السطح وتنشر زينتها أمام عينيه. وكم اختلست إليها النظر وهي تخطر على مرأى منه في رشاقة وخيلاء، وتطلق موجات الإغراء من مكمنها في الشعر الساحر. . تارة تتهدل بعض خصلاته على جبينها فتلقي برأسها إلى الوراء في دلال متكلفة إبعادها، وطوراً تتدلى ظفيرتها على الصدر الأشم فتقذف بهما إلى كتفيها في حركة فاتنة، وحيناً تتناثر الشعيرات المتوهجة كأشعة الشمس على وجهها تغمره القبلات فتمد إليها يدها وتداعبها في حنان. بدور. . بدور. .، لماذا اخترت مهدي من دون الناس جميعاً لتغرقيه بفيض فتنتك؟؟ إنه لم يكن أهلاً للاختيار فهو شاب سيئ النوايا لا يعرف للحب الصادق معنى. وكنت كالزهرة العبقة المتفتحة في مطلع الشمس فاشتهاك كما تشتهي الفراشة الزهرة الزاهية، وكما تنبذ الفراشة الزهرة بعد أن تمتص رحيقها بتمتع الشباب العابثون من طرازه بالفتاة ردحاً من الزمن لينبذوها بعد حين، وقد أشفقت عليك من هذا المصير التعس يا بدور، فلماذا تجاهلت غرضي، لماذا؟ كان غاية همي أن أصرفها عن سلوكها الشائن الذي لم أشك لحظة واحدة أنه سيوردها موارد الهلاك، فعقاب زلة القدم لا رجوع فيه، لكنها تسلحت بالصمم حيال نصائحي المتواصلة. بدور، إن التعرض لأنظار شاب غريب بهذه الهيئة الفاضحة مضر بسمعة العائلة، بوسعك أن تلبسي هذا المظهر أمامي فأنا ابن عمك ولا حرج عليك في ذلك، ولكن مهدي شخص غريب. . بل إنه شاب خبيث يا بدور، أفلا تفهمين؟! أرجوك. . أرجوك يا بدور. . تجنبي فضوله.
لكنها لم تتجنب فضوله، كانت على يقين أنني عاجز عن الوقوف في وجه نزواتها عجز الطير المقصوص الجناحين عن الطيران. فالواجب المنزلي يقتضيها الصعود إلى السطح كل عصر لتنظيفه وتهيئة أسرة النوم وبذلك تتهيأ لها رؤيته. وكانت تلك الحقيقة الكاوية تلذع مشاعري بنيران الغيظ، فأحس كلما غدوت على فراشي ليلاً بوخز يلسع ظهري كما لو كنت راقداً على حزمة من الشوك. وذات أمسية، بينما كنت مستلقياً على الفراش وذهني عاكف على مراجعة غرامها الطائش تراءى لي أن أسلوب اللين الذي أعالج به طيشها لن يجدي شيئاً، وقرَّ في عزمي أن أهجر ذلك الأسلوب. وفي صباح اليوم التالي أمرتها بلهجة حازمة أن تتلفع بالعبادة كلما ظهرت على السطح. ولم يخف على ما بدا على صفحة وجهها من تجهم واحتجاج وإن لازمت الصمت ولم تفه بكلمة اعتراض. ولكنني كنت كمن ينتظر أن يهجر البلبل التغريد ويمتنع الريحان عن نشر أريجه!
ومضت أيام. . .
وكان من عادتي أن أبرح الدار في مساء كل يوم لأتنزه في شوارع المدينة بصحبة صديقي زكي، ثم أعود أدراجي حين يهبط ستار الليل، وخرجت تلك الأمسية في ساعتي المحددة، وبدلاً من أن استصحب صديقي زكي تجولت في الشوارع منفرداً، ثم قفلت راجعاً - قبل ميعادي - وكانت رغبة قوية تدفعني نحو المنزل. . . وتلك لحظة لن تمحى صورتها من مخيلتي أبداً، حين ظهرت أمام بدور، وجمدت في مكانها كالتمثال وراحت ترسل إلي النظر في ذهول يشوبه الرعب كما لو كنت عفريتاً انشقت عنه الأرض تعالى فوقها بهامته! وكان كل شيء كما تجسم في أعماقي منذ البداية. . . كانت تخطر على السطح بدون عباءة وشعرها الأشقر منثور على كتفيها في إهمال يثير كوامن الإعجاب كأنها إحدى حوريات البحر المنطوية في ضمير الأساطير.
واستولت علي مشاعر وحشية وانثالت علي سيول من الغيظ الجارف، فانقضضت عليها كما ينقض الوحش الكاسر على فريسة ضعيفة، وجررتها من شعرها إلى غرفة السطح وأقفلت بابها، ثم انهلت عليها ضرباً وركلاً وصفعاً. . . يا إلهي، لم غرست في قلبي هذه العواطف المتدفقة بالشفقة والحنان؟! أفلم تكن تستأهل ذلك العقاب فما الذي دعاني إلى الاحتراق في لهيب ألمها؟! كنت أحس بكل صفعة تهبط على خدها تقفز إلى خدي، وبكل ركلة أسددها إلى جسدها تتحول إلى جسدي وكانت صيحاتها الفزعة رصاصاً يمزق سمعي، ودمعها المتدفق شواظاً يحرق قلبي. ومع ذلك لم يكن بوسعي تلك اللحظة أن أكبح جماح الرغبة الجبارة التي استحوذت علي بالإمعان في إيلامها! كنت كاليائس من الحياة الذي يفضل الموت فيواصل طعن قلبه حتى يكف عن الوجيب.
ومنذ ذلك الوقت لاحت في عيني بدور صورة لمشاعرها الغائرة. . . صورة خطوطها المقت والعناد وإطارها الاستهانة والازدراء وتمادت في غيها كأنها تتعمد معاكستي. وضاعفت عنايتها بزينتها في الساعة التي تتأهب فيها للظهور على السطح استعداداً للقاء الحبيب. وكنت حين أرقبها وهي تقف أمام المرآة وتمشط شعرها في عناية وتمهل ثم تضفره أو تعقصه أو تدعه منثوراً على كتفيها أستشعر موجات من الرغائب المتناقضة تتدافع في صدري. ففي الوقت الذي تتملكني فيه رغبة في قص ذلك الشعر عن آخره، تساورني رغبة أخرى في العناية به بنفسي وتزيينه بيدي. . .!
كنت أبغي لها الخير على أية حال، فلم واجهته بالشر؟! ولماذا كانت تجد لذة في إثارة الألم في نفسي؟! كانت تعلم حق العلم بما تجر علي تلك الساعة من عذاب حين يقترب أوان العصر ويناديها السطح لإعداده. ومع ذلك كانت تحاول أن تذكرني بها جهد استطاعتها لتغذي شعلة عذابي، فإذا ما حان الوقت خفت خطواتها على بلاط الدار حتى لتكاد تتحول إلى رقص، وحلق فوقها نغم غنائي صامت ينبعث من شفتيها في عذوبة ومرح، وتلألأ شعرها وازداد بريقه، واشتدت حركتها ونشاطها، فتروح وتجيء وتدخل وتخرج، وتتعمد المرور على مقربة مني دون أن تنظر إلي أو أن تلقي علي نظرة عابرة كما لو كنت قطعة تافهة من أثاث الدار لا تستوقف النظر، وكانت تلك الخطوات الخفيفة والنغم المرح والحركة الدائبة والشعر المتوهج تتجمع في مخيلتي وتتجسم حتى لتبدو شخصاً متكاملاً له ملامح مهدي الشريرة وابتسامته الخبيثة التي توحي بالمكر وتبيت الغدر. أيها الناس: من باستطاعته أن يتلقى سلوك بدور في رزانة وهدوء؟! ومن بقدرته أن يشهدها تغازل فتى غريباً أمامه وهو ابن عمها؟! وصحيح أنها لم تبادل مهدي كلمة واحدة، وصحيح أن محاولات مهدي الغرامية لم تتجاوز النظرات المشوقة، كل هذا صحيح، ولكن من في إمكانه أن يضمن تفاديهما الخطيئة إلى النهاية؟! من في إمكانه، من؟!
وبدت لي الحياة مظلمة قاتمة، وانقلبت الأوضاع في عيني، وشرعت أنظر إلى الأمور بعين المستقبل كما لو كانت الكارثة قد وقعت بالفعل. ولم لا تقع؟ إن أية قوة في الأرض لم تكن قادرة على ضبط عواطف بدور وتقويم سلوكها، بينما لبث مهدي قائماً على عهده؛ يترصد ظهورها على السطح ليلتهم شعرها الأشقر وصدرها الناهد ووجهها الفاتن بنظراته الأثيمة. كم مقت ذلك الفتى الخبيث بل الشيطان الرجيم الذي أرسلته أبالسة الجحيم ليعكر هنائي في تلك الإجازة التي بشرتني بادئ الأمر بسعادة طافحة. وأصبحت سجيناً في الدار رهن مخاوفي، ولم أعد أطمئن لوجودي بعيداً عن بدور. فضلت سجن الدار على سجن الشكوك والتهاويل. . وأي سجن؟! كنت أتنزه على السطح في عجاجه الغبار الذي تثيره بدور أثناء الكنس في الوقت الذي يهرع فيه الناس إلى الشوارع الجميلة. وكم كان يشق علي أن أراقبها في تلك اللحظات عندما أرى عباءتها تنزلق عن رأسها بين حين وآخر فتكشف عن شعرها المتوهج بلون الذهب الصافي وتفسح له سبيل الإغراء!
آه منك يا بدور. . كم كنت عنيدة قاسية! لقد أعجزتني. أقسم لك أنك أعجزتني فلم أعد آمل إلا بكف ذلك الوقح عن غزله الصفيق. وفكرت أن أذهب إليه وأستعطفه عله ينصرف عنك. تصوري! أوشكت أن أكون كمن يتوسل إلى اللص ليعيد إليه ماله!
ولكنني وجدت نفسي، حين رأيته صباح اليوم التالي على رأس الزقاق، أجذبه من (ياقة) سترته بعنف وأبادره بلكمة ألقته على الأرض صريعاً وأنا أصرخ مهدداً إياه بالقتل إن لم يكف عن البحلقة في سطحنا. . .
ما أعظم السعادة التي تغمر المرء حينما تستجاب له رغبة قد يئس من تحقيقها، وما أعظم الفرحة التي اجتاحت كياني حينما أقبلت الأمسية التالية فلم يلح لمهدي ظل على السور، وأمسيت واثقاً أن أثر وعيدي قد سرى في نفسه. ألم تر السجين وهو ينطلق من باب السجن لأول مرة بعد أعوام طويلة طواها بيت القيود والأغلال؟! هكذا كنت حين ارتديت بدلتي على عجل وهرعت إلى دار صديقي زكي لأحتفل بالمناسبة السعيدة بشرب كأس من الخمر بعيداً عن أعين الرقباء. وكم دهش زكي من تلك البهجة التي أشربت جوانبي بالخفة والمرح وأثارت وجهي بالبشاشة والارتياح وهو الذي عهدني كئيباً مغتماً كسجين ينتظر ساعة إعدامه على حد تعبيره ولازلت أذكر كيف كان يرمقني باستغراب وأنا أرفع الكأس إلى ثغري في ضجة وصخب وألقى الفكاهات المحطمة في حماس ثم اندفع مقهقهاً ولازلت أذكر أيضاً أنه سألني في دعابة - وأنا في غمرة نشوتي - إن كنت قد ربحت الجائزة الأولى ليانصيب (جمعية المواساة الخيرية) فانطلقت أحشو إذنيه بمحاضرة طويلة مضمونها أن قيمة المال تافهة بالنسبة للحياة الحقَّة، وأن العواطف المتقدة الجميلة التي تهبها لنا هي الكل في الكل ولا أخاله فهم شيئاً من محاضرتي لأنني كنت كمن يحدث نفسه حديثاً خاصاً.
وتوالت الأيام دون أن يظهر مهدي على السور وتلقت بدور اختفاءه في الأمسية الأولى بهدوء وعدم اهتمام. وفي الأمسية الثانية تسللت إلى صدرها هبة من رياح القلق عبر الفجوة الصغيرة التي تفتقت في أحاسيسها. وأخذت الفجوة تتسع وتتسع على تعاقب الأيام والرياح تتكاثر وتتكاثف حتى ملأت صدرها. وعندئذ انقلبت إلى مخلوقة جديدة لا تمت إلى بدور بصلة سوى الشبه في الملامح والتكوين. أما بدور القديمة. . . بدور بروحها المرحة ووجهها الطلق وعينيها المتألقتين وشعرها المترفع فقد باتت حلماً عابراً في نومة هانئة.
يا لتلك الحياة الجديدة التي ولدت لها. . حياة أشبه بتلك التي تمنح لوليد كتب له العيش في الظلام. كانت تتحرك وتروح وتجيء ولكنها تمثال. . . تمثال نحت رمزاً للكآبة واللوعة والحزن وأصبح منظر شعرها كئيباً قاتماً كأنه يشاركها في مصابها، ولم يعد يذوق للمشط طعماً بل بات يترامى على كتفيها في إهمال ويتجمع على بعضه ويلتف في مذلة وخذلان ولم أكن أتصور أن تخلف غيبة مهدي في نفسها ذلك الأثر، فقد كنت أحسب أن ألمها سيكون كسحابة صيف تحجب الشمس لساعات ثم لا تلبث أن تتبدد سريعاً. ولكن الأمر تبدى لي أعمق مما تخيلته بكثير، وما كان هذا الوضوح إلا ليضرم ألمي ويأسي وموجدتي. ووجدتني في موقف أحسد فيه نفسي على حياتي الماضية. وكان من الواضح أن بدور تتهمني بإقصاء مهدي. . كانت كل حركة تبدو منها تعلن ذلك الاتهام في صراحة صارخة وكنت أقرأ ذلك الاتهام في عينيها واضحاً سافراً في الأيام الأولى حين كانت تهرع إلى السطح ساعة العصر في لهفة لا تعد لها لهفة الأم وهي تخف لاستقبال ولدها الغائب، وتقف حيال سور المنزل المجاور ترنو إليه بعيون حائرة ساهمة والأسى ينضح من ملامحها. ثم تحول إلي أنظارها لأطالع فيها اتهامها المغلف بالغيظ والمقت والازدراء، كما لو كنت أقرأه في كتاب.
لكنها لم تلبث طويلاً حتى حرمتني من آخر أثر كان يشعرني بصلتي بها فكفت عن مطالعتي بنظراتها الساخطة. ماذا دهاك يا بدور، ماذا دهاك؟! أفيستأهل ذلك الصبي الأخرق الذي لم يكن ليتجاوز مراتب الطفولة كل هذا الحب والهيام؟! أفمن العدل أن يؤدي بك خبثه إلى كراهيتي وأنا الذي رعاك بحبه وحنانه منذ أن وطئت قدماك أرض الدار؟!
وعدت أتمنى أن تحدجني بدور بنظراتها الفياضة بالبغض والازدراء. . . أجل، فقد أصبحت تواقاً إلى أن أحس لنفسي وجوداً في دنياها بأي شكل كان! ولكن ذلك الصمت، وذلك الجمود، وذلك التجاهل. يا إلهي، ليس في طوقي أن أحتمل هذا كله.
وراحت تتحاشى مواضع وجودي في إصرار عجيب، ومضت تتجنب النظر إلي في عناد غريب! ولبثت حائراً معذباً في زحمة العواطف التي تتصارع في نفسي تجاه سلوكها الفظيع. تارة أحس بالغيظ والحقد حين يخطر في ذهني أن صبياً خبيثاً كمهدي استطاع أن يثير في نفسها تلك الزوبعة المروعة. وطوراً استشعر حزناً عميقاً حين أتمثلها تدب في ساحة الدار في تخاذل والصمت والكآبة والذهول تدثرها بغطاء كثيف. وحيناً تسعر بين جوانبي نيران ثورة مكتومة على تلك القوة المجهولة التي تسير أحداث الحياة وتجد اللذة في معاكسة الإنسان وكانت تلك الثورة تخفف عن كاهلي عبء ما أحسه من كراهية واحتقار لنفسي بسبب قسوتي على بدور، إذ تدعوني إلى تبرير سلوكي وسلوك بدور ومهدي وإلقاء التبعة كلها على القوة المجهولة. . . إنني لست ملوماً على تصرفي هذا فأنا مرغم على اتباعه. . . يجب أن أدافع عن شرف الأسرة تجاه أي محاولة لثلمه، وبدور ليست ملومة على سلوكها فهي تحب مهدي. . . ما ذنبها إذا كان قلبها قد هفا إلى ذلك الشاب؟! ومهدي ليس ملوماً على غرامه ببدور. . . لقد عثر على فتاة كاملة الجمال تبادله الإعجاب فاتجهت إليها عواطفه. إن أي أحداً منا - في الثلاثين - لا يؤاخذ على سلوكه الخاطئ. . . إن الملوم وحده تلك القوة المجهولة التي رتبت مجريات الحياة في صور متنافرة الألوان. أفلم يكن بوسعها أن تحمل بدور على الوقوع في غرامي بدلاً من التعلق بشاب غريب؟! لو حدث هذا لما اضطر أي أحد منا إلى سلوكه الخاطئ، فأنا ابن عمها ولا ضير عليها إن حاولت أن تستولي على عواطفي بأية طريقة كانت، أما أن تحاول اجتذاب شاب غريب ونحن في مجتمع يتزعم القيم الاجتماعية فيه والشرف الجنسي، فهذا هو الخطأ عينه، ولكن هكذا تريد تلك القوة الساخرة.
وظلت الشمس تشرق في الصباح وتغيب في المساء وحياتنا مدثرة بجمودها الكئيب، إلى أن حلت تلك الساعة، وكانت الشمس قد تأهبت للمغيب وبساط السماء الأزرق قد صبغ بحمرة قانية، أشبه بساحة معركة خضبت بدماء المتقاتلين، وكنت أذرع السطح بخطوات متمهلة وبين يدي كتاب أحاول القراءة فيه، في حين انكبت بدور على عملها وهي تتحرك في صمت وجمود كأنها آلهة صماء. وفجأة، وبدون أن أصدق عيني، رأيت مهدي يظهر في موضعه على السور! وتسمرت قدماي في موضعهما وانطلقت أحدق فيه مذهولاً كأنني أشهد حدوث كارثة مروعة لا تدخل في نطاق التصور، ومضى هو يرمقني بنظرات تفيض بالتحدي والازدراء وعلى ثغره ابتسامة احتقار! وجف حلقي حتى تعذر علي أن أبتلع ريقي، وشحب وجهي حتى أخاله بات بلون التراب. وهبت بين جوانحي عاصفة تزأر بالحقد والخيبة والقنوط، وطفت علي رغبة جارفة بتحطيم شيء ما أياً كان!
ثم حولت أنظاري إلى بدور فإذا هي مسمرة في مكانها وهي تحدق في السور منتشية سكرى كأنها في وادي الأحلام لا في عالم الحقيقة، وكان وجهها قد شع بنور ألاق فبدا رائقاً صافياً كسماء الشتاء المدلهمة حين تنقشع عنها الغيوم. ومكثت جامداً في موضعي وأنا أنقل النظر بينها وبين مهدي بفكر تائه وعواطف صاخبة.
ثم بدأت المناظر تختلط أمام عيني ولم أعد أميز ما يجري حولي بوضوح. رأيت بدور تتحرك من موقفها وتنتقل في ساحة السطح بحركة رشيقة كالرقص وعيناها موصولتان بعيني مهدي. ثم اتجهت فجأة نحو السياج المنخفض المشرف على الدار وانحنت عليه، وجن جنوني في تلك اللحظة حين تراءى لي مهدي يتلقفها بين ذراعيه ويغمر وجهها وشعرها بقبلات نهمة، واندفعت نحوها حانقاً لأنتزعها من بين ذراعيه، ولكنني توقفت بازائها مشدوهاً حين رأيت جسدها يترنح على السياج في عنف، ودوت صرخاتها في أذني فزعة هائلة، ومددت يدي لأجذبها نحوي ولكنها هوت إلى الأسفل.
وحين أفقت من ذهولي وجدتني منحنياً على السياج وأنا أحملق كالمخبول في جثة بدور المحطمة على بلاط الدار، ولم أفهم ماذا حدث بالضبط هل اختل توازنها وهي منحنية على السياج المنخفض فانقلبت على رأسها، أم أنني، أم أنني دفعتها بيدي؟؟ لست أدري - لست أدري!
شاكر خصباك
بتاريخ: 27 - 03 - 1950
لكم تمنيت في تلك اللحظة لو تطول الإجازة لأستمتع بالحياة الهنيئة في هذا الجو العائلي الجميل الذي يظلله بالحنان المضطرم أبواي العزيزان، وتنيره بالبهجة بدور العظيمة. أية أيام تلك التي هنئت بها في مطلع عودتي؟! لقد طفح قلبي بسعادة مشرقة. . سعادة فياضة لم أذق لطعمها مثيلاً في الإجازات السابقة، ووجدتني مسوقاً إلى الاهتمام ببدور أكثر من أي وقت مضى. ولست أدري ما الذي أوحى إلي أنني كنت مقصراً في محبتها أثناء الأعوام المنصرمة مع أنني محضتها أعظم الحب كما لو كانت شقيقتي الوحيدة، عندما انتقلت إلى منزلنا وهي في السابعة من عمرها عقب وفاة أبويها وكأن هذا الخاطر كان مدعاة لي لتلافي ذلك التقصير فاندفعت في رعايتها اندفاع المهووس في شكه، وشغفت بمرآها شغف الطفل بلعبه! وكنت أحس بينبوع من الهناءة يتدفق في قلبي حين أراها تخطر في الدار بوجهها الطاهر الصبوح وشعرها الأشقر الطويل وقوامها الأهيف الرائع.
لا أذكر كم من الأيام لبثت أنهل من ينبوع السعادة الفياض، عندما بدأ ذلك الينبوع يفيض شيئاُ فشيئاً حتى جفت مياهه. ولعلها كانت أياماً طوالاً في حساب الزمن لكنني أحسست كما لو كانت يوماً واحداً. ولا أعلم أيضاً متى بدأ النبع يجف؛ أفي تلك الساعة التي لمحت فيها مهدي متكئاً على سور السطح المشرف على دارنا وعيناه مثبتتان على سطح منزلنا كأنه يترقب ظهور شخص معين؟ أم في تلك الأمسية التي وافيت فيها بدور إلى السطح فألفيتها متشاغلة عن العمل ترصد سور السطح المجاور في لهفة وقلق؟ أغلب الظن أنه بدأ يجف في تلك الأمسية، فلا زلت أتصور كيف حدقت إلى الناحية التي تتجه إليها أنظارها فارتسمت في خيالي في التو صورة الشاب المتكئ على السور وفي عينيه شوق حائر. وانبعث في أعماقي شعور داخلي يشي بوجود صلة تربط الاثنين.
وبين يوم وليلة تفتحت عيناي على حقائق مرة. . إن بدور لم تعد تلك الصبية الحيية الهادئة التي عهدتها بالأمس. . كل همها اليوم أن تبدو جميلة فاتنة! في الصيف الماضي لم تكن تعبأ بالوقوف أمام المرآة. . وفي هذا الصيف دأبت على مناجاتها دون كلل أو ملل. ماذا جرى بالله يا بدور؟! ماذا جرى؟!
لم يكن الأمر مغلفاً بغموض يعوزه التأويل. . إنه مهدي. . ذلك الشيطان! كانت تنذر أوقات فراغها للتبرج له. . له وحده. . وكانت تخلق الأعذار الواهية لتخف إلى السطح وتنشر زينتها أمام عينيه. وكم اختلست إليها النظر وهي تخطر على مرأى منه في رشاقة وخيلاء، وتطلق موجات الإغراء من مكمنها في الشعر الساحر. . تارة تتهدل بعض خصلاته على جبينها فتلقي برأسها إلى الوراء في دلال متكلفة إبعادها، وطوراً تتدلى ظفيرتها على الصدر الأشم فتقذف بهما إلى كتفيها في حركة فاتنة، وحيناً تتناثر الشعيرات المتوهجة كأشعة الشمس على وجهها تغمره القبلات فتمد إليها يدها وتداعبها في حنان. بدور. . بدور. .، لماذا اخترت مهدي من دون الناس جميعاً لتغرقيه بفيض فتنتك؟؟ إنه لم يكن أهلاً للاختيار فهو شاب سيئ النوايا لا يعرف للحب الصادق معنى. وكنت كالزهرة العبقة المتفتحة في مطلع الشمس فاشتهاك كما تشتهي الفراشة الزهرة الزاهية، وكما تنبذ الفراشة الزهرة بعد أن تمتص رحيقها بتمتع الشباب العابثون من طرازه بالفتاة ردحاً من الزمن لينبذوها بعد حين، وقد أشفقت عليك من هذا المصير التعس يا بدور، فلماذا تجاهلت غرضي، لماذا؟ كان غاية همي أن أصرفها عن سلوكها الشائن الذي لم أشك لحظة واحدة أنه سيوردها موارد الهلاك، فعقاب زلة القدم لا رجوع فيه، لكنها تسلحت بالصمم حيال نصائحي المتواصلة. بدور، إن التعرض لأنظار شاب غريب بهذه الهيئة الفاضحة مضر بسمعة العائلة، بوسعك أن تلبسي هذا المظهر أمامي فأنا ابن عمك ولا حرج عليك في ذلك، ولكن مهدي شخص غريب. . بل إنه شاب خبيث يا بدور، أفلا تفهمين؟! أرجوك. . أرجوك يا بدور. . تجنبي فضوله.
لكنها لم تتجنب فضوله، كانت على يقين أنني عاجز عن الوقوف في وجه نزواتها عجز الطير المقصوص الجناحين عن الطيران. فالواجب المنزلي يقتضيها الصعود إلى السطح كل عصر لتنظيفه وتهيئة أسرة النوم وبذلك تتهيأ لها رؤيته. وكانت تلك الحقيقة الكاوية تلذع مشاعري بنيران الغيظ، فأحس كلما غدوت على فراشي ليلاً بوخز يلسع ظهري كما لو كنت راقداً على حزمة من الشوك. وذات أمسية، بينما كنت مستلقياً على الفراش وذهني عاكف على مراجعة غرامها الطائش تراءى لي أن أسلوب اللين الذي أعالج به طيشها لن يجدي شيئاً، وقرَّ في عزمي أن أهجر ذلك الأسلوب. وفي صباح اليوم التالي أمرتها بلهجة حازمة أن تتلفع بالعبادة كلما ظهرت على السطح. ولم يخف على ما بدا على صفحة وجهها من تجهم واحتجاج وإن لازمت الصمت ولم تفه بكلمة اعتراض. ولكنني كنت كمن ينتظر أن يهجر البلبل التغريد ويمتنع الريحان عن نشر أريجه!
ومضت أيام. . .
وكان من عادتي أن أبرح الدار في مساء كل يوم لأتنزه في شوارع المدينة بصحبة صديقي زكي، ثم أعود أدراجي حين يهبط ستار الليل، وخرجت تلك الأمسية في ساعتي المحددة، وبدلاً من أن استصحب صديقي زكي تجولت في الشوارع منفرداً، ثم قفلت راجعاً - قبل ميعادي - وكانت رغبة قوية تدفعني نحو المنزل. . . وتلك لحظة لن تمحى صورتها من مخيلتي أبداً، حين ظهرت أمام بدور، وجمدت في مكانها كالتمثال وراحت ترسل إلي النظر في ذهول يشوبه الرعب كما لو كنت عفريتاً انشقت عنه الأرض تعالى فوقها بهامته! وكان كل شيء كما تجسم في أعماقي منذ البداية. . . كانت تخطر على السطح بدون عباءة وشعرها الأشقر منثور على كتفيها في إهمال يثير كوامن الإعجاب كأنها إحدى حوريات البحر المنطوية في ضمير الأساطير.
واستولت علي مشاعر وحشية وانثالت علي سيول من الغيظ الجارف، فانقضضت عليها كما ينقض الوحش الكاسر على فريسة ضعيفة، وجررتها من شعرها إلى غرفة السطح وأقفلت بابها، ثم انهلت عليها ضرباً وركلاً وصفعاً. . . يا إلهي، لم غرست في قلبي هذه العواطف المتدفقة بالشفقة والحنان؟! أفلم تكن تستأهل ذلك العقاب فما الذي دعاني إلى الاحتراق في لهيب ألمها؟! كنت أحس بكل صفعة تهبط على خدها تقفز إلى خدي، وبكل ركلة أسددها إلى جسدها تتحول إلى جسدي وكانت صيحاتها الفزعة رصاصاً يمزق سمعي، ودمعها المتدفق شواظاً يحرق قلبي. ومع ذلك لم يكن بوسعي تلك اللحظة أن أكبح جماح الرغبة الجبارة التي استحوذت علي بالإمعان في إيلامها! كنت كاليائس من الحياة الذي يفضل الموت فيواصل طعن قلبه حتى يكف عن الوجيب.
ومنذ ذلك الوقت لاحت في عيني بدور صورة لمشاعرها الغائرة. . . صورة خطوطها المقت والعناد وإطارها الاستهانة والازدراء وتمادت في غيها كأنها تتعمد معاكستي. وضاعفت عنايتها بزينتها في الساعة التي تتأهب فيها للظهور على السطح استعداداً للقاء الحبيب. وكنت حين أرقبها وهي تقف أمام المرآة وتمشط شعرها في عناية وتمهل ثم تضفره أو تعقصه أو تدعه منثوراً على كتفيها أستشعر موجات من الرغائب المتناقضة تتدافع في صدري. ففي الوقت الذي تتملكني فيه رغبة في قص ذلك الشعر عن آخره، تساورني رغبة أخرى في العناية به بنفسي وتزيينه بيدي. . .!
كنت أبغي لها الخير على أية حال، فلم واجهته بالشر؟! ولماذا كانت تجد لذة في إثارة الألم في نفسي؟! كانت تعلم حق العلم بما تجر علي تلك الساعة من عذاب حين يقترب أوان العصر ويناديها السطح لإعداده. ومع ذلك كانت تحاول أن تذكرني بها جهد استطاعتها لتغذي شعلة عذابي، فإذا ما حان الوقت خفت خطواتها على بلاط الدار حتى لتكاد تتحول إلى رقص، وحلق فوقها نغم غنائي صامت ينبعث من شفتيها في عذوبة ومرح، وتلألأ شعرها وازداد بريقه، واشتدت حركتها ونشاطها، فتروح وتجيء وتدخل وتخرج، وتتعمد المرور على مقربة مني دون أن تنظر إلي أو أن تلقي علي نظرة عابرة كما لو كنت قطعة تافهة من أثاث الدار لا تستوقف النظر، وكانت تلك الخطوات الخفيفة والنغم المرح والحركة الدائبة والشعر المتوهج تتجمع في مخيلتي وتتجسم حتى لتبدو شخصاً متكاملاً له ملامح مهدي الشريرة وابتسامته الخبيثة التي توحي بالمكر وتبيت الغدر. أيها الناس: من باستطاعته أن يتلقى سلوك بدور في رزانة وهدوء؟! ومن بقدرته أن يشهدها تغازل فتى غريباً أمامه وهو ابن عمها؟! وصحيح أنها لم تبادل مهدي كلمة واحدة، وصحيح أن محاولات مهدي الغرامية لم تتجاوز النظرات المشوقة، كل هذا صحيح، ولكن من في إمكانه أن يضمن تفاديهما الخطيئة إلى النهاية؟! من في إمكانه، من؟!
وبدت لي الحياة مظلمة قاتمة، وانقلبت الأوضاع في عيني، وشرعت أنظر إلى الأمور بعين المستقبل كما لو كانت الكارثة قد وقعت بالفعل. ولم لا تقع؟ إن أية قوة في الأرض لم تكن قادرة على ضبط عواطف بدور وتقويم سلوكها، بينما لبث مهدي قائماً على عهده؛ يترصد ظهورها على السطح ليلتهم شعرها الأشقر وصدرها الناهد ووجهها الفاتن بنظراته الأثيمة. كم مقت ذلك الفتى الخبيث بل الشيطان الرجيم الذي أرسلته أبالسة الجحيم ليعكر هنائي في تلك الإجازة التي بشرتني بادئ الأمر بسعادة طافحة. وأصبحت سجيناً في الدار رهن مخاوفي، ولم أعد أطمئن لوجودي بعيداً عن بدور. فضلت سجن الدار على سجن الشكوك والتهاويل. . وأي سجن؟! كنت أتنزه على السطح في عجاجه الغبار الذي تثيره بدور أثناء الكنس في الوقت الذي يهرع فيه الناس إلى الشوارع الجميلة. وكم كان يشق علي أن أراقبها في تلك اللحظات عندما أرى عباءتها تنزلق عن رأسها بين حين وآخر فتكشف عن شعرها المتوهج بلون الذهب الصافي وتفسح له سبيل الإغراء!
آه منك يا بدور. . كم كنت عنيدة قاسية! لقد أعجزتني. أقسم لك أنك أعجزتني فلم أعد آمل إلا بكف ذلك الوقح عن غزله الصفيق. وفكرت أن أذهب إليه وأستعطفه عله ينصرف عنك. تصوري! أوشكت أن أكون كمن يتوسل إلى اللص ليعيد إليه ماله!
ولكنني وجدت نفسي، حين رأيته صباح اليوم التالي على رأس الزقاق، أجذبه من (ياقة) سترته بعنف وأبادره بلكمة ألقته على الأرض صريعاً وأنا أصرخ مهدداً إياه بالقتل إن لم يكف عن البحلقة في سطحنا. . .
ما أعظم السعادة التي تغمر المرء حينما تستجاب له رغبة قد يئس من تحقيقها، وما أعظم الفرحة التي اجتاحت كياني حينما أقبلت الأمسية التالية فلم يلح لمهدي ظل على السور، وأمسيت واثقاً أن أثر وعيدي قد سرى في نفسه. ألم تر السجين وهو ينطلق من باب السجن لأول مرة بعد أعوام طويلة طواها بيت القيود والأغلال؟! هكذا كنت حين ارتديت بدلتي على عجل وهرعت إلى دار صديقي زكي لأحتفل بالمناسبة السعيدة بشرب كأس من الخمر بعيداً عن أعين الرقباء. وكم دهش زكي من تلك البهجة التي أشربت جوانبي بالخفة والمرح وأثارت وجهي بالبشاشة والارتياح وهو الذي عهدني كئيباً مغتماً كسجين ينتظر ساعة إعدامه على حد تعبيره ولازلت أذكر كيف كان يرمقني باستغراب وأنا أرفع الكأس إلى ثغري في ضجة وصخب وألقى الفكاهات المحطمة في حماس ثم اندفع مقهقهاً ولازلت أذكر أيضاً أنه سألني في دعابة - وأنا في غمرة نشوتي - إن كنت قد ربحت الجائزة الأولى ليانصيب (جمعية المواساة الخيرية) فانطلقت أحشو إذنيه بمحاضرة طويلة مضمونها أن قيمة المال تافهة بالنسبة للحياة الحقَّة، وأن العواطف المتقدة الجميلة التي تهبها لنا هي الكل في الكل ولا أخاله فهم شيئاً من محاضرتي لأنني كنت كمن يحدث نفسه حديثاً خاصاً.
وتوالت الأيام دون أن يظهر مهدي على السور وتلقت بدور اختفاءه في الأمسية الأولى بهدوء وعدم اهتمام. وفي الأمسية الثانية تسللت إلى صدرها هبة من رياح القلق عبر الفجوة الصغيرة التي تفتقت في أحاسيسها. وأخذت الفجوة تتسع وتتسع على تعاقب الأيام والرياح تتكاثر وتتكاثف حتى ملأت صدرها. وعندئذ انقلبت إلى مخلوقة جديدة لا تمت إلى بدور بصلة سوى الشبه في الملامح والتكوين. أما بدور القديمة. . . بدور بروحها المرحة ووجهها الطلق وعينيها المتألقتين وشعرها المترفع فقد باتت حلماً عابراً في نومة هانئة.
يا لتلك الحياة الجديدة التي ولدت لها. . حياة أشبه بتلك التي تمنح لوليد كتب له العيش في الظلام. كانت تتحرك وتروح وتجيء ولكنها تمثال. . . تمثال نحت رمزاً للكآبة واللوعة والحزن وأصبح منظر شعرها كئيباً قاتماً كأنه يشاركها في مصابها، ولم يعد يذوق للمشط طعماً بل بات يترامى على كتفيها في إهمال ويتجمع على بعضه ويلتف في مذلة وخذلان ولم أكن أتصور أن تخلف غيبة مهدي في نفسها ذلك الأثر، فقد كنت أحسب أن ألمها سيكون كسحابة صيف تحجب الشمس لساعات ثم لا تلبث أن تتبدد سريعاً. ولكن الأمر تبدى لي أعمق مما تخيلته بكثير، وما كان هذا الوضوح إلا ليضرم ألمي ويأسي وموجدتي. ووجدتني في موقف أحسد فيه نفسي على حياتي الماضية. وكان من الواضح أن بدور تتهمني بإقصاء مهدي. . كانت كل حركة تبدو منها تعلن ذلك الاتهام في صراحة صارخة وكنت أقرأ ذلك الاتهام في عينيها واضحاً سافراً في الأيام الأولى حين كانت تهرع إلى السطح ساعة العصر في لهفة لا تعد لها لهفة الأم وهي تخف لاستقبال ولدها الغائب، وتقف حيال سور المنزل المجاور ترنو إليه بعيون حائرة ساهمة والأسى ينضح من ملامحها. ثم تحول إلي أنظارها لأطالع فيها اتهامها المغلف بالغيظ والمقت والازدراء، كما لو كنت أقرأه في كتاب.
لكنها لم تلبث طويلاً حتى حرمتني من آخر أثر كان يشعرني بصلتي بها فكفت عن مطالعتي بنظراتها الساخطة. ماذا دهاك يا بدور، ماذا دهاك؟! أفيستأهل ذلك الصبي الأخرق الذي لم يكن ليتجاوز مراتب الطفولة كل هذا الحب والهيام؟! أفمن العدل أن يؤدي بك خبثه إلى كراهيتي وأنا الذي رعاك بحبه وحنانه منذ أن وطئت قدماك أرض الدار؟!
وعدت أتمنى أن تحدجني بدور بنظراتها الفياضة بالبغض والازدراء. . . أجل، فقد أصبحت تواقاً إلى أن أحس لنفسي وجوداً في دنياها بأي شكل كان! ولكن ذلك الصمت، وذلك الجمود، وذلك التجاهل. يا إلهي، ليس في طوقي أن أحتمل هذا كله.
وراحت تتحاشى مواضع وجودي في إصرار عجيب، ومضت تتجنب النظر إلي في عناد غريب! ولبثت حائراً معذباً في زحمة العواطف التي تتصارع في نفسي تجاه سلوكها الفظيع. تارة أحس بالغيظ والحقد حين يخطر في ذهني أن صبياً خبيثاً كمهدي استطاع أن يثير في نفسها تلك الزوبعة المروعة. وطوراً استشعر حزناً عميقاً حين أتمثلها تدب في ساحة الدار في تخاذل والصمت والكآبة والذهول تدثرها بغطاء كثيف. وحيناً تسعر بين جوانبي نيران ثورة مكتومة على تلك القوة المجهولة التي تسير أحداث الحياة وتجد اللذة في معاكسة الإنسان وكانت تلك الثورة تخفف عن كاهلي عبء ما أحسه من كراهية واحتقار لنفسي بسبب قسوتي على بدور، إذ تدعوني إلى تبرير سلوكي وسلوك بدور ومهدي وإلقاء التبعة كلها على القوة المجهولة. . . إنني لست ملوماً على تصرفي هذا فأنا مرغم على اتباعه. . . يجب أن أدافع عن شرف الأسرة تجاه أي محاولة لثلمه، وبدور ليست ملومة على سلوكها فهي تحب مهدي. . . ما ذنبها إذا كان قلبها قد هفا إلى ذلك الشاب؟! ومهدي ليس ملوماً على غرامه ببدور. . . لقد عثر على فتاة كاملة الجمال تبادله الإعجاب فاتجهت إليها عواطفه. إن أي أحداً منا - في الثلاثين - لا يؤاخذ على سلوكه الخاطئ. . . إن الملوم وحده تلك القوة المجهولة التي رتبت مجريات الحياة في صور متنافرة الألوان. أفلم يكن بوسعها أن تحمل بدور على الوقوع في غرامي بدلاً من التعلق بشاب غريب؟! لو حدث هذا لما اضطر أي أحد منا إلى سلوكه الخاطئ، فأنا ابن عمها ولا ضير عليها إن حاولت أن تستولي على عواطفي بأية طريقة كانت، أما أن تحاول اجتذاب شاب غريب ونحن في مجتمع يتزعم القيم الاجتماعية فيه والشرف الجنسي، فهذا هو الخطأ عينه، ولكن هكذا تريد تلك القوة الساخرة.
وظلت الشمس تشرق في الصباح وتغيب في المساء وحياتنا مدثرة بجمودها الكئيب، إلى أن حلت تلك الساعة، وكانت الشمس قد تأهبت للمغيب وبساط السماء الأزرق قد صبغ بحمرة قانية، أشبه بساحة معركة خضبت بدماء المتقاتلين، وكنت أذرع السطح بخطوات متمهلة وبين يدي كتاب أحاول القراءة فيه، في حين انكبت بدور على عملها وهي تتحرك في صمت وجمود كأنها آلهة صماء. وفجأة، وبدون أن أصدق عيني، رأيت مهدي يظهر في موضعه على السور! وتسمرت قدماي في موضعهما وانطلقت أحدق فيه مذهولاً كأنني أشهد حدوث كارثة مروعة لا تدخل في نطاق التصور، ومضى هو يرمقني بنظرات تفيض بالتحدي والازدراء وعلى ثغره ابتسامة احتقار! وجف حلقي حتى تعذر علي أن أبتلع ريقي، وشحب وجهي حتى أخاله بات بلون التراب. وهبت بين جوانحي عاصفة تزأر بالحقد والخيبة والقنوط، وطفت علي رغبة جارفة بتحطيم شيء ما أياً كان!
ثم حولت أنظاري إلى بدور فإذا هي مسمرة في مكانها وهي تحدق في السور منتشية سكرى كأنها في وادي الأحلام لا في عالم الحقيقة، وكان وجهها قد شع بنور ألاق فبدا رائقاً صافياً كسماء الشتاء المدلهمة حين تنقشع عنها الغيوم. ومكثت جامداً في موضعي وأنا أنقل النظر بينها وبين مهدي بفكر تائه وعواطف صاخبة.
ثم بدأت المناظر تختلط أمام عيني ولم أعد أميز ما يجري حولي بوضوح. رأيت بدور تتحرك من موقفها وتنتقل في ساحة السطح بحركة رشيقة كالرقص وعيناها موصولتان بعيني مهدي. ثم اتجهت فجأة نحو السياج المنخفض المشرف على الدار وانحنت عليه، وجن جنوني في تلك اللحظة حين تراءى لي مهدي يتلقفها بين ذراعيه ويغمر وجهها وشعرها بقبلات نهمة، واندفعت نحوها حانقاً لأنتزعها من بين ذراعيه، ولكنني توقفت بازائها مشدوهاً حين رأيت جسدها يترنح على السياج في عنف، ودوت صرخاتها في أذني فزعة هائلة، ومددت يدي لأجذبها نحوي ولكنها هوت إلى الأسفل.
وحين أفقت من ذهولي وجدتني منحنياً على السياج وأنا أحملق كالمخبول في جثة بدور المحطمة على بلاط الدار، ولم أفهم ماذا حدث بالضبط هل اختل توازنها وهي منحنية على السياج المنخفض فانقلبت على رأسها، أم أنني، أم أنني دفعتها بيدي؟؟ لست أدري - لست أدري!
شاكر خصباك
بتاريخ: 27 - 03 - 1950