منصف الوهايبي - مصطفى لطفي المنفلوطي.. فضل السوريين على المصريين

يعرف دارسو الآداب العربية الحديثة أن المركزين الكبيرين اللذين نشأت بهما هذه الآداب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى الثلث الأول من القرن العشرين هما: بلاد الشام الكبرى بما فيها لبنان وفلسطين، ومصر. على أن الأول كان حجر الزاوية، وإنْ في سياق شد وجذب بين أنصار القديم من خريجي المعاهد والمدارس الدينية، وأنصار الجديد أو التحديث من خريجي الجامعات الأوروبية. وينبغي ألا ننسى دور المهاجرين السوريين في أمريكا والبرازيل، في إنشاء الجمعيات الأدبية والصحف العربية، وكان عددهم في الولايات المتحدة الأمريكية، يبلغ عام 1930 مئتي ألف نسمة على أقل تقدير.
ويسوغ المستعرب هاملتون جيب ريادة السوريين المسلمين والمسيحيين الذين نهضوا بحركة التحرر الثقافي والأدبي، منذ العقود الأخيرة؛ بما تعلموه منذ البداية على أسس غربية سليمة، بعبارته، وما حصلوه من معرفة عميقة بالآداب العربية القديمة، وامتلاكهم ناصية اللغتين: العربية والفرنسية والعربية والإنكليزية. ويكفي أن نذكّر بأن أدباء المدرسة السورية في المهجر هم الذين بادروا إلى نقل نماذج من شعر أبي العلاء المعري إلى الإنكليزية، مثل ترجمة رباعيات مختارة من أبي العلاء لأمين الريحاني(نيويورك 1903). وهو دليل من بين أدلة أخرى كثيرة، على أن التراث العربي كان معينا مشتركا للأدباء السوريين جميعهم، يستمدون منه لطائف العربية وجمالها. ولئن اقتصرنا على المعري في هذا السياق، فلأن اتجاهه العقلي كان يجد قبولا في الفترة التي نحن فيها، مثلما كان يمهد السبيل للالتقاء بين الفكر الغربي والفكر العربي. ولكن يمكن أن نذكر أيضا جرجي زيدان (1861ـ 1914) الذي طعّم العربية بأسلوبه السلس الممتع، ونمّى في شجرتها أغصانا جديدة، وهو العصامي الذي»يمثل قدرة السوري على الدرس والتحصيل خير تمثيل» بتعبير جيب. ويقول عنه المنفلوطي في «النظرات»:» يؤثِر (زيدان) أن يتعلم عنه الجاهلون، على أن يرضى عنه المتحذلقون». وهو صاحب الروايات التاريخية المشهورة التي كنا نقرؤها بشغف ومتعة، و«تاريخ التمدن الإسلامي» و«تاريخ آداب اللغة العربية» ومجلة «الهلال». ويقول جيب عن حق، إن جهود زيدان كانت أعظم أثرا من جهود محمد عبده، في توجيه الأدب العربي في مصر.على أن حكم «جمعية الاتحاد والترقي» في السنوات الأخيرة من حكم السلطان عبد الحميد، كان يحظر أي استقلال في الفكر، ويخضع المطبوعات لرقابة قاسية. ومن ثمة اعترى الطاقة الإبداعية في سورية الأم نضوب، وكانت جذوتها توشك أن تنطفئ، بينما ظل السوريون في مصر، وكان عددهم في مصر بالألوف؛ ينهضون بدورهم العظيم في تحديث الآداب العربية؛ و«كانت مكاسب مصر منهم، معادلة لخسائر سورية» في تلك الفترة من تاريخ بلاد الشام. وثمة مثال آخر هو مجلة «المقتطف» التي أنشأها يعقوب صروف (1852ـ 1927)، ولا يخفى أثرها في الأدب والفكر في مصر. وكذلك فرح أنطون (1847 ـ 1922) في مقالاته وقصصه وعربيته البسيطة الحية المأنوسة، ومنزعه الرومنطيقي، بل إن الشعر المنثور أو ما نصطلح عليه بـ«قصيدة النثر» يدين للمدرسة السورية التي ترسمت أثر والت ويتمان، والشعر الحر الإنكليزي.
ونقدر أن المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، كان أحد قلة قليلة اعترفت بفضل السوريين على فكر مصر وآدابها في الأزمنة الحديثة. وهو الأزهري الذي عرفه الناس شاعرا، قبل أن ينصرف إلى النثر ويبرع فيه. وفي مجمل كتاباته نقف على أثر المدرسة السورية، خاصة أثر فرح أنطون. والمنفلوطي (1876ـ 1924) كان يحلق بجناح واحد هو العربية، ويجهل جهلا تاما اللغات الأوروبية، أي أنه كان أبعد ما يكون عن الاتصال المباشر بالغرب، ولكنه تأثر كبار الرومنطيقيين الفرنسيين من أمثال جان جاك روسو وفيكتور هوغو. وكان مصلحا دينيا فقد هاجم بقوة روح المحافظة التي تميز بها الأزهر. وكان يكن أعجابا كبيرا بالمعري؛ وهو الذي اقتبس من شعره، ولخص «رسالة الغفران» واحتذاها في مقالة له. وله تقريظٌ في عمر الخيام. ويرى جيب أن مقالته «مدينة السعادة» تنم عن أفكار اشتراكية، وإن كانت في بداياتها. على أنه كان يضمر احتقارا للسياسيين وكان يقول: «أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله». ولكتابه «النظرات» شأن كبير، وكان أكثر الكتب تداولا في الآداب العربية الحديثة، وطبع أكثر من طبعة. وكتب عنه غير واحد من كبار أدباء العربية مثل صلاح الدين القاسمي وعباس محمود العقاد. ويسوغ جيب ذلك بطلاوة أسلوبه المدرب وموضوعاته؛ فقد كان ينظر خلال نفسه، ويسطر على الورق ما استوعبته نفسه، من صورة مصر قبل الحرب، صادرا عن الروح المصرية وبراعتها.
وهذه شهادته في السوريين، وما أحوجنا إليها اليوم، وعنوانها «أهناءٌ أم عزاءٌ» من كتاب «النظرات» الصادر سنة 1907:

«فارَق مِصْرَ على أثَر الدستور العثماني كثيرٌ مِن فضلاءِ السوريين بعدما عمَروا هذه البلادَ بفضائلِهم ومآثرهم، وصيروها جنةً زاخرةً بالعلوم والآداب، ولقنوا المصريين تلك الدروسَ العاليةَ في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعدما ما كانوا فينا سُفراءَ خيرٍ بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية، يأخُذون من كمال الأُولى ليتمموا ما نقَص من الأخرى، وبعدما علموا المصري كيف ينشَطُ في العمل، وكيف يجِد ويجتهد في سبيل العيش، وكيف يثبُتُ ويتجلدُ في معركةِ الحياةِ.
قضَوْا بيننا تلك البرهةَ من الزمان يُحسِنون إلينا فنسيء إليهم، ويعطِفون علينا فنسميهم تارة: دُخَلاء، وأخرى: ثُقَلاء، كأنما كنا نحسَبُ أنهم قومٌ من شذاذ الآفاقِ، أو نفايات الأمم، جاؤوا إلينا يُصادروننا في أرزاقنا، ويتطفلون على موائدنا، ولو أنصفناهم لعرَفْناهم وعرَفْنا أن أكثرَهم من بيوتاتِ المجدِ والشرف، وإنما ضاقت بهم حكومةُ الاستبدادِ ذرعًا، وكذلك شأنُ كل حكومة مستبدة مع أحرارِ النفوس، وأُباةِ الضيم، فأحرَجَتْ صدورَهم، وضيقت عليهم مذاهبَهم، ففروا من الظلمِ تاركين وراءَهم شَرَفًا يَنْعَاهم، ومجدًا يبكي عليهم، ونزَلوا بيننا ضيوفًا كرامًا، وأساتذة كبارًا، فما أحسنا ضيافتَهم، ولا شكَرْنا لهم نعمتَهم.
وبعدُ، فقد مضى ذلك الزمنُ بخيرِه وشره، وأصبحنا اليوم كلما ذكَرْناهم خفقَتْ أفئدتُنا مخافةَ أن يلحقَ باقيهم بماضيهم، فلا نعلَمُ أنشكُرُ للدستور أنْ فرج عنهم كربتَهم، وأمنهم على أنفسِهم، وردهم إلى أوطانِهم، أم ننتقمُ منه أنْ كان سببًا في حرماننا منهم بعد أُنْسِنا بهم، واغتباطِنا بحُسْنِ عِشرتِهم، وجميل مودتِهم؟ ولا ندري هل نحن بين يدَيْ هذا النظامِ العثماني الجديد في هَنَاءٍ أم في عَزاءٍ؟
فيا أيها القومُ المودعون، والكرامُ الكاتبون.
اذكُرونا مِثْلَ ذِكْرانا لكم
رُب ذِكْرى قربَتْ مَن نزَحا
واذكُروا صَبا إذا غنى بكم
شرِب الدمْعَ وعاف القَدَحَا»

٭ كاتب تونسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى