فلما كانت الليلة الثانية بعد الألف قالت شهرزاد: سأقص عليك أيها الملك السعيد قصة سهرة المليونير، قال الملك شهريار:
- ومن هو المليونير يا شهرزاد! أهو ملك قبيلة في الجان، أم تاجر لؤلؤ في جزائر واق الواق؟!
وتبسمت شهرزاد فكشفت عن أسنان كأنها الدر المنظوم، ثم قالت: لا هذا ولا ذاك أيها الملك السعيد، فالمليونير هو صاحب مليون من الدنانير فأكثر
- مليون من الدنانير! ما هذه الأحاجي أيتها الجارية! وكم هو عدد المليون؟
- يعني ألف ألف دينار يا مولاي. كل من ملك ألف ألف عد مليونيراً. ولنبدأ القصة من أولها. فقد زعموا أنه كان في مصر شاب أسمه الشاطر (ممدوح) توفى والداه في حادث قطار بخاري و. . .
- قطار بخاري؟ ما هذا الكلام المبهم!
- القطار البخاري يا مولاي مركبات تقودها آلة، وهذه الآلة تتحرك بقوة البخار وتأكل الفحم، ويسمع لها دوي هائل وهي تسير؛ فإذا تعرض لها أحد سحقته سحقاً. وقد وقع لأبوي الشاطر (ممدوح) ذلك فأكلهما القطار البخاري كأنهما قطعتان من الفحم
- وهل القطار البخاري يا شهرزاد منسوب إلى بخارى، وهل تجره خيول أم بغال؟
- كلا يا مولاي إنه منسوب إلى البخار: بخار الماء حين يغلي، ولا تجره خيول ولا بغال، ولكنه يسير على قضيب من حديد. ولنعد إلى الشاطر (ممدوح) فقد أصبح وحيداً في هذه الدنيا حتى عثرت به سائحة أمريكية
- تقولين أمريكية! من أي بلاد هي يا شهرزاد؟ - أمريكا يا مولاي بلاد بعيدة يسكنها الكفار، وظلت مجهولة حتى عثر عليها رجل أسمه (خريستوف كولمبس)، وهو كافر أيضاً. وقيل إن العرب كشفوا عنها قبله بدليل وجود مسلمين توطنوا هذه البلاد في جزر (الفلبين)
وقد ربته هذه السائحة أحسن تربية، ثم سافرت فأخذته معها إلى أمريكا، وهناك أيفع واستوى، فلما ماتت الأمريكية أوصت له بجميع أموالها إذا لم يكن لها أهل يرثونها
- وتوفر الشاطر ممدوح على تنمية ثروته، فساهم في صناعة (الأتومبيلات)، وكان هو الذي أعان مخترع (الفتوغراف) على إتمام اختراعه، وأنشأ محطة للراديو و. . .
- حسبك أيتها الجارية! ما هذه الرطانة التي تذهب العقل؟
- الأتومبيل يا مولاي سيارة تجري بقوة النفط المكرر
- وحدها!؟
- وحدها. . . كالقطار البخاري تماماً، ولكنها لا تسير على قضيب من حديد. والفتوغراف صندوق يوضع فيه قرص من الشمع الأسود المنقوش، وهناك إبرة ممغنطة تدور حول القرص فتسمع الصوت الذي سجل، فإما غناء وإما موسيقى وإما حديثاً يروى. والراديو آلة تلتقط الأصوات من مكان بعيد، فلو كان هنا راديو لأمكنك أن تسمع الهمس الذي يدور في القصر المسحور وراء السبعة بحور
- إن كان هذا من صنع الجن فلا غرابة
- كلا يا مولاي! لم تعد للجن هذه القدرة على الخلق والإبداع، وملك الجان نفسه أصبح عاجزاً عن أن يكون شيئاً إلى جانب أي عالم من أولئك العلماء المخترعين
- تقولين علماء؟ أهؤلاء المخترعون رجال فقه ولغة ودين؟
- حاشاك الخطأ يا مولاي. فالعلم في هذا العصر الذي أحدثك عنه لم يعد وقفاً على ذوي اللحى والعمائم، ولكنه أصبح عنواناً على غيرهم. . . حتى أولئك الكفار! ولنعد إلى الشاطر ممدوح فبعد أن أغتنىي وأضحى ذا ثروة طائلة، تذكر وهو في بلاد الغربة أن له أختاً تكفل بها أحد أقاربه ولم يكن يعرف عنها شيئاً؛ فلما طغت عليه موجة الذكريات أنشأ يترنم بهذه الأبيات:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا واذكروا صباً إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
ثم فاضت دموعه حتى أصبحت كالأنهار. . . وأخيراً قرر أن يسافر إلى مصر فأعد عدته وركب الباخرة
قال الملك:
- وما هي الباخرة يا شهرزاد؟ أهي القطار البخاري؟
- قالت شهرزاد:
- أجل يا مولاي. . . قطار بخاري يسير في الماء ويتسع لمئات من الراكبين دون قلوع ولا مجاديف. وقد اختار الشاطر ممدوح جناحاً له في الباخرة على أفخم ما يكون من الروعة والجمال؛ فلما وصل إلى مصر ذهب إلى فندق (الكونتننتال)
- قوليها مرة أخرى! يخيل أنها رطانة يا شهرزاد!
الكونتننتال يا مولاي! اسم خان ولكنه فخم كأنه بيت وزير من الوزراء، وينزل فيه الملوك والأمراء والعظماء، وتملكه شركة من الأجانب يعرفون كيف يستغلون خيرات مصر دون أهلها الفقراء. وقد نزل الشاطر ممدوح في هذا الفندق وتقاطر عليه مندوبو الصحف من كل مكان
قال ملك:
- مندوبو الصحف! وما هي الصحف يا شهرزاد؟؟
قالت شهرزاد:
- هي جرائد يا مولاي تطبع كل يوم حاملة الأنباء والمعلومات والطرائف؛ أما كيف تطبع فقد اخترعوا آلة لطباعة الكلمات
- عجباً يا شهرزاد؟ كأنني أستمع إلى أقصوصة عن الجان!
- حاشاك يا مولاي! فالإنسانية في هذه الأيام التي أحدثك عنها تقدمت، والعقل البشري نضج فأصبح مخترعاً، ولكنه لم ينج من الجمع بين الخير والشر في اختراعه
- وكيف كان ذلك
- لقد اخترعوا كل ما يضمن أسباب الراحة والهناءة للإنسان، ولكنهم اخترعوا كذلك المدمرات والمهلكات. . . فإن قنبلة في حجم الكف قادرة على أن تدمر بناء من عشرين دوراً. وهناك غازات سامة ما يكاد الإنسان يستنشقها حتى يموت، وقذائف من كل صنف تحملها الطائرات في الجو والسابحات في البحر
- وي! كأني أسمع عما يحدث في يوم القيامة. . .
- هذا هو الواقع يا مولاي. فالمدنية التي استحدثها الفرنجة تحمل عناصر هدمها. . . ولنعد إلى الشاطر ممدوح فإنه لم يكد يستقر به المقام حتى بث العيون والأرصاد تفتش له عن أخته التي تركها صغيرة
وبعد أيام عاد إليه عين من عيونه التي أطلقها يقول. . .
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
فلما كانت الليلة الثالثة بعد الألف قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن عيناً من عيون الشاطر ممدوح عاد إليه يقول: إنه عرف مكان أخته (نفيسة)، ولكنه يعتذر عن التفوه بكلمة مما بلغه عنها
وعندئذ غضب الشاطر ممدوح واشتد غيظه، فأمسك بالجاسوس من رقبته يريد أن يخنقه قائلاً:
- أن لم تقل لي - أيها الكلب - ما هنالك قذفت بك من النافذة. . .!
وخاف الجاسوس على حياته عندما رأى روح الشر في المليونير فوعده بأن يقول. ثم راح يتحدث قائلاً: أنه لم يصر على الصمت إلا رغبة منه في عدم إزعاج الشاطر ممدوح، فإن أخته بعد وفاة والديها، تولى تربيتها أحد أقربائها، وقد ظلت في كفالته خمس سنوات ذاقت فيها الويل والعذاب من زوج قريبها التي كانت تضربها لأتفه الأسباب. . . وأخيراً، هربت من ذلك الجحيم، سارت على وجهها حتى لقيها ذئب بشري. . . فاختطفها وراح يعلمها السرقة، وهي صغيرة لا تكاد تميز. . . ثم كبرت ونضجت أنوثتها. . . فتزوجت أفاقاً راحا معاً يغامران في الحياة ويتظاهران بالوجاهة والأناقة. . .
وبعد أن سمع الشاطر ممدوح هذه المعلومات استغرق في سبات عميق. . . ثم انهمرت دموعه على خديه، وأصبح كالمجنون لا يستقر على حال. وأخيراً فكر في طريقة، فدعا إلى مأدبة ساهرة، وما حل موعدها حتى كانت الموائد قد نسقت، وأقداح الشراب قد اعتدت. . . شراب: الكونياك والويسكي والشمبانيا والبيرة وما هنالك من أصناف. . .
قال الملك:
- ما هذه الأسماء يا شهرزاد؟
- أسماء لأشربة يا مولاي اخترعها الفرنجة للخمر وكلها مسكر والعياذ بالله. ثم زين مكان الحفلة بالثريات الكهربائية، والأوراق الملونة، ووقف الخدم في ثيابهم الزاهية. . . وما حان الموعد حتى توافد المدعوون من كل جانب في ثياب السهرة. . .
- وكانت السيدات مزدانات بالحلي، وقد كشفت كل واحدة عن مفاتنها، فبدا جسدها العاري وصدرها المكتنز. . .
- قال الملك:
- أمام الناس!
- أجل يا مولاي أمام الناس، فما من ضير في هذا بعد أن شاع السفور وتواضع الناس على اختلاط الجنسين، وحتى المصريات كن بهذه الأزياء. ثم دار الرقص فتخاصر الجنسان كل رجل مع سيدة يرقصان (الرومبا) و (الفوكس تروت)
قال الملك:
- عجب!. . . وهل يرقص الرجال!
- فأجابت شهرزاد:
- نعم!. . . إنهم يرقصون طوعاً للمدنية الحديثة التي ترى في الرقص نوعاً من أنواع الرياضة
وعندئذ أشار الجاسوس للشاطر ممدوح على سيدة ومعها رجل يرقصان. وقال له:
- هذه أختك. . . والذي معها زوجها وهو أكبر محتال في الوجود
وأقترب ممدوح من أخته، فجأة أطفأت الأنوار، وبعد قليل أضيئت، وتفقد سيدات كثيرات حليهن فلم يجدنها، وكان ممدوح قد رأى أخته وهي تخفي في حقيبة يدها حلياً، فحار في أمره لا بد أن تفتش، ولا بد أن تظهر أنها سارقة، فهل ينقذها. ويعمل على خلاصها لأنها أخته، أم يتركها تفضح دون أن يكشف لها عن حقيقة نفسه!
تنازعته عواطف مختلفة وتآمرت عليه الانفعالات الشديدة هل ينقذها؟ هل يتركها؟ هذان هما السؤالان البارزان في رأسه؟ وأخيراً راح يعمل على تنفيذ أحد الاقتراحين اللذين عرضا في ذهنه
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
محمد علي غريب
مجلة الرسالة - العدد 426
بتاريخ: 01 - 09 - 1941
- ومن هو المليونير يا شهرزاد! أهو ملك قبيلة في الجان، أم تاجر لؤلؤ في جزائر واق الواق؟!
وتبسمت شهرزاد فكشفت عن أسنان كأنها الدر المنظوم، ثم قالت: لا هذا ولا ذاك أيها الملك السعيد، فالمليونير هو صاحب مليون من الدنانير فأكثر
- مليون من الدنانير! ما هذه الأحاجي أيتها الجارية! وكم هو عدد المليون؟
- يعني ألف ألف دينار يا مولاي. كل من ملك ألف ألف عد مليونيراً. ولنبدأ القصة من أولها. فقد زعموا أنه كان في مصر شاب أسمه الشاطر (ممدوح) توفى والداه في حادث قطار بخاري و. . .
- قطار بخاري؟ ما هذا الكلام المبهم!
- القطار البخاري يا مولاي مركبات تقودها آلة، وهذه الآلة تتحرك بقوة البخار وتأكل الفحم، ويسمع لها دوي هائل وهي تسير؛ فإذا تعرض لها أحد سحقته سحقاً. وقد وقع لأبوي الشاطر (ممدوح) ذلك فأكلهما القطار البخاري كأنهما قطعتان من الفحم
- وهل القطار البخاري يا شهرزاد منسوب إلى بخارى، وهل تجره خيول أم بغال؟
- كلا يا مولاي إنه منسوب إلى البخار: بخار الماء حين يغلي، ولا تجره خيول ولا بغال، ولكنه يسير على قضيب من حديد. ولنعد إلى الشاطر (ممدوح) فقد أصبح وحيداً في هذه الدنيا حتى عثرت به سائحة أمريكية
- تقولين أمريكية! من أي بلاد هي يا شهرزاد؟ - أمريكا يا مولاي بلاد بعيدة يسكنها الكفار، وظلت مجهولة حتى عثر عليها رجل أسمه (خريستوف كولمبس)، وهو كافر أيضاً. وقيل إن العرب كشفوا عنها قبله بدليل وجود مسلمين توطنوا هذه البلاد في جزر (الفلبين)
وقد ربته هذه السائحة أحسن تربية، ثم سافرت فأخذته معها إلى أمريكا، وهناك أيفع واستوى، فلما ماتت الأمريكية أوصت له بجميع أموالها إذا لم يكن لها أهل يرثونها
- وتوفر الشاطر ممدوح على تنمية ثروته، فساهم في صناعة (الأتومبيلات)، وكان هو الذي أعان مخترع (الفتوغراف) على إتمام اختراعه، وأنشأ محطة للراديو و. . .
- حسبك أيتها الجارية! ما هذه الرطانة التي تذهب العقل؟
- الأتومبيل يا مولاي سيارة تجري بقوة النفط المكرر
- وحدها!؟
- وحدها. . . كالقطار البخاري تماماً، ولكنها لا تسير على قضيب من حديد. والفتوغراف صندوق يوضع فيه قرص من الشمع الأسود المنقوش، وهناك إبرة ممغنطة تدور حول القرص فتسمع الصوت الذي سجل، فإما غناء وإما موسيقى وإما حديثاً يروى. والراديو آلة تلتقط الأصوات من مكان بعيد، فلو كان هنا راديو لأمكنك أن تسمع الهمس الذي يدور في القصر المسحور وراء السبعة بحور
- إن كان هذا من صنع الجن فلا غرابة
- كلا يا مولاي! لم تعد للجن هذه القدرة على الخلق والإبداع، وملك الجان نفسه أصبح عاجزاً عن أن يكون شيئاً إلى جانب أي عالم من أولئك العلماء المخترعين
- تقولين علماء؟ أهؤلاء المخترعون رجال فقه ولغة ودين؟
- حاشاك الخطأ يا مولاي. فالعلم في هذا العصر الذي أحدثك عنه لم يعد وقفاً على ذوي اللحى والعمائم، ولكنه أصبح عنواناً على غيرهم. . . حتى أولئك الكفار! ولنعد إلى الشاطر ممدوح فبعد أن أغتنىي وأضحى ذا ثروة طائلة، تذكر وهو في بلاد الغربة أن له أختاً تكفل بها أحد أقاربه ولم يكن يعرف عنها شيئاً؛ فلما طغت عليه موجة الذكريات أنشأ يترنم بهذه الأبيات:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا واذكروا صباً إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
ثم فاضت دموعه حتى أصبحت كالأنهار. . . وأخيراً قرر أن يسافر إلى مصر فأعد عدته وركب الباخرة
قال الملك:
- وما هي الباخرة يا شهرزاد؟ أهي القطار البخاري؟
- قالت شهرزاد:
- أجل يا مولاي. . . قطار بخاري يسير في الماء ويتسع لمئات من الراكبين دون قلوع ولا مجاديف. وقد اختار الشاطر ممدوح جناحاً له في الباخرة على أفخم ما يكون من الروعة والجمال؛ فلما وصل إلى مصر ذهب إلى فندق (الكونتننتال)
- قوليها مرة أخرى! يخيل أنها رطانة يا شهرزاد!
الكونتننتال يا مولاي! اسم خان ولكنه فخم كأنه بيت وزير من الوزراء، وينزل فيه الملوك والأمراء والعظماء، وتملكه شركة من الأجانب يعرفون كيف يستغلون خيرات مصر دون أهلها الفقراء. وقد نزل الشاطر ممدوح في هذا الفندق وتقاطر عليه مندوبو الصحف من كل مكان
قال ملك:
- مندوبو الصحف! وما هي الصحف يا شهرزاد؟؟
قالت شهرزاد:
- هي جرائد يا مولاي تطبع كل يوم حاملة الأنباء والمعلومات والطرائف؛ أما كيف تطبع فقد اخترعوا آلة لطباعة الكلمات
- عجباً يا شهرزاد؟ كأنني أستمع إلى أقصوصة عن الجان!
- حاشاك يا مولاي! فالإنسانية في هذه الأيام التي أحدثك عنها تقدمت، والعقل البشري نضج فأصبح مخترعاً، ولكنه لم ينج من الجمع بين الخير والشر في اختراعه
- وكيف كان ذلك
- لقد اخترعوا كل ما يضمن أسباب الراحة والهناءة للإنسان، ولكنهم اخترعوا كذلك المدمرات والمهلكات. . . فإن قنبلة في حجم الكف قادرة على أن تدمر بناء من عشرين دوراً. وهناك غازات سامة ما يكاد الإنسان يستنشقها حتى يموت، وقذائف من كل صنف تحملها الطائرات في الجو والسابحات في البحر
- وي! كأني أسمع عما يحدث في يوم القيامة. . .
- هذا هو الواقع يا مولاي. فالمدنية التي استحدثها الفرنجة تحمل عناصر هدمها. . . ولنعد إلى الشاطر ممدوح فإنه لم يكد يستقر به المقام حتى بث العيون والأرصاد تفتش له عن أخته التي تركها صغيرة
وبعد أيام عاد إليه عين من عيونه التي أطلقها يقول. . .
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
فلما كانت الليلة الثالثة بعد الألف قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن عيناً من عيون الشاطر ممدوح عاد إليه يقول: إنه عرف مكان أخته (نفيسة)، ولكنه يعتذر عن التفوه بكلمة مما بلغه عنها
وعندئذ غضب الشاطر ممدوح واشتد غيظه، فأمسك بالجاسوس من رقبته يريد أن يخنقه قائلاً:
- أن لم تقل لي - أيها الكلب - ما هنالك قذفت بك من النافذة. . .!
وخاف الجاسوس على حياته عندما رأى روح الشر في المليونير فوعده بأن يقول. ثم راح يتحدث قائلاً: أنه لم يصر على الصمت إلا رغبة منه في عدم إزعاج الشاطر ممدوح، فإن أخته بعد وفاة والديها، تولى تربيتها أحد أقربائها، وقد ظلت في كفالته خمس سنوات ذاقت فيها الويل والعذاب من زوج قريبها التي كانت تضربها لأتفه الأسباب. . . وأخيراً، هربت من ذلك الجحيم، سارت على وجهها حتى لقيها ذئب بشري. . . فاختطفها وراح يعلمها السرقة، وهي صغيرة لا تكاد تميز. . . ثم كبرت ونضجت أنوثتها. . . فتزوجت أفاقاً راحا معاً يغامران في الحياة ويتظاهران بالوجاهة والأناقة. . .
وبعد أن سمع الشاطر ممدوح هذه المعلومات استغرق في سبات عميق. . . ثم انهمرت دموعه على خديه، وأصبح كالمجنون لا يستقر على حال. وأخيراً فكر في طريقة، فدعا إلى مأدبة ساهرة، وما حل موعدها حتى كانت الموائد قد نسقت، وأقداح الشراب قد اعتدت. . . شراب: الكونياك والويسكي والشمبانيا والبيرة وما هنالك من أصناف. . .
قال الملك:
- ما هذه الأسماء يا شهرزاد؟
- أسماء لأشربة يا مولاي اخترعها الفرنجة للخمر وكلها مسكر والعياذ بالله. ثم زين مكان الحفلة بالثريات الكهربائية، والأوراق الملونة، ووقف الخدم في ثيابهم الزاهية. . . وما حان الموعد حتى توافد المدعوون من كل جانب في ثياب السهرة. . .
- وكانت السيدات مزدانات بالحلي، وقد كشفت كل واحدة عن مفاتنها، فبدا جسدها العاري وصدرها المكتنز. . .
- قال الملك:
- أمام الناس!
- أجل يا مولاي أمام الناس، فما من ضير في هذا بعد أن شاع السفور وتواضع الناس على اختلاط الجنسين، وحتى المصريات كن بهذه الأزياء. ثم دار الرقص فتخاصر الجنسان كل رجل مع سيدة يرقصان (الرومبا) و (الفوكس تروت)
قال الملك:
- عجب!. . . وهل يرقص الرجال!
- فأجابت شهرزاد:
- نعم!. . . إنهم يرقصون طوعاً للمدنية الحديثة التي ترى في الرقص نوعاً من أنواع الرياضة
وعندئذ أشار الجاسوس للشاطر ممدوح على سيدة ومعها رجل يرقصان. وقال له:
- هذه أختك. . . والذي معها زوجها وهو أكبر محتال في الوجود
وأقترب ممدوح من أخته، فجأة أطفأت الأنوار، وبعد قليل أضيئت، وتفقد سيدات كثيرات حليهن فلم يجدنها، وكان ممدوح قد رأى أخته وهي تخفي في حقيبة يدها حلياً، فحار في أمره لا بد أن تفتش، ولا بد أن تظهر أنها سارقة، فهل ينقذها. ويعمل على خلاصها لأنها أخته، أم يتركها تفضح دون أن يكشف لها عن حقيقة نفسه!
تنازعته عواطف مختلفة وتآمرت عليه الانفعالات الشديدة هل ينقذها؟ هل يتركها؟ هذان هما السؤالان البارزان في رأسه؟ وأخيراً راح يعمل على تنفيذ أحد الاقتراحين اللذين عرضا في ذهنه
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
محمد علي غريب
مجلة الرسالة - العدد 426
بتاريخ: 01 - 09 - 1941