✍ قتل العديد من اقاربه في هجوم غادر من قبيلة أخرى ؛ لم يكن الصراع بين القبيلتين بمثل هذه الدموية من قبل ؛ ربما لم تكن تمضى سنة دون ان يخلف الصراع قتيلا او قتيلين ، اما هذا الاسبوع المشؤوم فقد خلف خمسة عشر قتيلا من طرف قبيلته فقط. اضطر للعودة من الخرطوم الى قريته ليشارك اهله تلقي العزاء في الموتى وليتابع الموقف الرسمي للحكومة وما ستتخذه من اجراءات ضد المهاجمين ؛ شقيقه طلب منه ذلك باعتباره متعلما و (بيفهم)... ، رغم انه لم يتخرج من كلية الاداب الا قبل ستة اشهر ولم يجد حتى الآن وظيفة حكومية او حتى خاصة. كان الباص السفري حديثا جدا وبه شاشات تعرض افلاما امريكية ، لكنه لم يكن يشاهد شيئا ، كان يتذكر كلمات شقيقه: (انت زول متعلم يا الباقر عايزنك معانا).
هذه الكلمات أخافته جدا ؛ لأنها تلقي بعبء ثقيل عليه ومسؤولية لا مبرر لها. ان اهل قريته يعتقدون ان التعليم وحده يحول الانسان من كائن ضعيف الى كائن قوي ، لكن هذا غير صحيح ؛ فالقوة مسألة ترتبط بشخصية المرء أكثر من مكتسباته المعرفية. لا يستطيع أن يقول لشقيقه أنه لم يشعر بالضعف كما شعر به اثناء سنوات دراسته بالخرطوم. حيث كل شيء يعتمد على تقييمات ليس من ضمن معاييرها المعرفة. والقوة تتأسس فيها على تزاوج السلطة بالمال. وأن هناك مئات الآلاف من أمثاله في العاصمة هم الأكثر ضعفا والأقل قوة. إن قوته الحقيقية تكمن في بقائه مع عشيرته داخل قريته ، مندمجا في ثقافتها المحدودة ، فهو لا يعرف غيرها ولا يريد أن يعرف غيرها. حمرة الشدول ، المنطقة السهلية الخضراء خريفا الصحراء صيفا وشتاءا ، لا ينغص سكونها سوى الرعاة الذين يعبرون بزراعتها فيحدثون فيها أضرارا بالغة ، انهم قوم غير مستقرين ، بهم غلظة وجفاف ، ومع ذلك ففيهم ايضا رقة وعذوبة تومض فجأة من خلال حداءاتهم وهم يعبرون الأرض الواسعة وكأنها لا شيء. فتياتهم جميلات ، وبضات ، رغم قسوة طبيعة حياتهم. لو كان بامكانه ان يخلق حالات تصاهر بين قبيلته وقبائلهم ربما تجنب الجميع سفك هذه الدماء الغزيرة.
لكن لا شيء من هذا يحدث ، فهناك رواسب تاريخية ، رواسب قديمة جدا ؛ والدماء حارة والقلوب مستنفرة ، والاستعداد للحرب لا ينضى.
كان الباص السفري ممتلئا عن آخر مقاعده ، رغم ارتفاع اسعار التذاكر ، فقراهم تلك تفتقر لأدنى بنيات العيش ، لا مراكز صحية ، لا مدارس ، لا مرافق عامة لا كهرباء ، وهذا ما يدفع الجميع للسفر الى العاصمة للحصول على خدمات افضل.
ركاب الباص صامتون وهناك رضيع يبكي بصوت مزعج ، لم يكن أحد يتابع الفيلم الأمريكي ، وعلى حين غرة انطفأت الشاشات الصغيرة ، ومع ذلك لم يعترض أحد. هناك سيدات طاعنات في السن ، وهزيلات جدا ، وهن على ما يبدو كن قد ذهبن الى الخرطوم لتلقي فحوصات طبية ، سيتوقف الباص بعاصمة الولاية ومن هناك سيركب وسيلة نقل أخرى الى حمرة الشدول. المناخ صيفي وجيد حيث لا مستنقعات طينية ولا خيران ولا شيء يعرقل سير المركبة.
هاهو هاتفه يهتز في جيبه ، شخص ما تذكره في هذه النقطة الزمنية ؛ تلك النقطة بالذات التي يحتاج فيها للحديث مع شخص لا لشيء سوى لملء هذا اللا شيء الذي يستغرقه عند كل سفر.
كان زميله في السكن الجامعي ؛ الفتى الصعلوك السكير السفيه الذي لا يطيقه أبدا ، من كلية القانون ؛ لكن لا بأس بالحديث معه ، سيكون محاميا قذرا في يوم من الأيام ، او قاضيا مرتشيا ، او وكيل نيابة سادي. او لصا من لصوص السلطة. ان مستقبله عريض جدا في هذا البلد.
- مرحب ...
قالها بصوت بارد... وتلقى صوت حمدان من الطرف الآخر :
- الباقر ... سلام... لا املك الكثير من الوقت لأضيعه مع فاشل مثلك ؛ لكن على كل حال سألني أحدهم عن وجود شخص لديه قدرات أدبية معقولة لوظيفة صغيرة ، حقيقة لم يرد في خاطري سواك رغم انك لا تعرف حتى كيف تكتب اسمك دون أن تخلط بين همزة الوصل والفصل... اذا كنت راغبا في شغل هذه الوظيفة يمكنك ارسال سيرتك الذاتية وصور الشهادات عبر البريد الالكتروني...
- اي سيرة واي شهادات.. انا لدي شهادة واحدة نلتها قبل عدة اشهر .. ولم اعمل اساسا من قبل الا عندما كنت مزارعا في البلد.
- هذا اجراء روتيني ... فقط لاثبات الجدية .. لكن عليك ان تكون مستعدا للعمل في اسرع وقت بحيث لا يتجاوز ذلك ثلاثة أيام...
- حسنا...
لم يتردد ابدا في اتخاذ قراره بالعودة فورا الى العاصمة وسيتحجج لشقيقه بأية حجج كاذبة ، ..... سيصل الى عاصمة الولاية ثم يحجز للعودة مباشرة في اليوم التالي. هناك مظلة انتظار يمكنه النوم تحتها حتى صباح الغد. وشعر فجأة ببطء سير الباص ، الزمن ثقيل جدا الآن.
***
-أبو قورة ... اشتريت سيارة؟
قال حمدان:
- اركب بسرعة ... لا أملك لك وقتا ... من ستعمل معه من كبار الأطباء ؛ شخص عاش خارج السودان لفترات طويلة ، شخصية ليست سهلة .. فهو ثري جدا وفوق هذا لا يملك مرونتنا هنا فهو حاسم... ومغرور جدا ... ترشح قبل سنوات للرئاسة وفشل وفي الواقع لم يجد صوتا واحدا فلا أحد يعرفه وعلى نحو ما فأنا نفسي ما كنت لأمن عليه بصوتي ... نعم هو عالم وجراح مشهود له بالكفاءة خارج السودان ولكنه ايضا لا يخلو من الصلف.
- ما هي طبيعة عملي بالضبط؟
- هو قال بأنك ستكون رداد.. وعندما سألته عن معنى ذلك اختصر الاجابة بكلمة سكرتير كتابي.
- لا بأس .. انها وظيفة شخصية جدا ومن ثم فلن استفيد منها في تدعيم سيرتي الذاتية كثيرا.. ولكن لا بأس بها.
- ها نحن نقترب من قصره ، انه في منتصف الستينات ، يبدو كلورد بريطاني ، لقد تأثر بثقافتهم ولا تندهش حين يستخدم الغليون بكثرة. لقد افتتح مستشفى استثماريا ضخما .. لو كنت اكثر حظا واثبت جدارتك فربما ينقلك للعمل بإدارته مستقبلا.... ها نحن وصلنا... اريد ان انبهك لشيء هام جدا.. لا تناديني بأبي قورة مرة أخرى... وانا جاد في ذلك..
****
مكتب ضخم حقا، كان منبهرا ، ان المسافة بين مدخله وبين طاولة السيد اللورد لا تقل عن عشرة امتار او ربما اكثر ، الطنافس والسجاد والأثاث ذو الطراز القوطي والسيد يجلس خلف مكتبه البني المصنوع من خشب قوي مصقول بعناية.
اشار اليهما السيد بالجلوس في الاريكة البعيدة ، فجلسا. قال:
- السيد حمدان.... يمكنك ان تغادر او تنتظر صديقك في الخارج اذا تفضلت.
نهض حمدان بثقة وبكثير من التملق حنى رأسه قليلا وهو يقول:
- كما تأمر سيدي ... سأنتظره في الخارج لأعيده معي..الى اللقاء...
اشعل السيد غليونه بقداحة نحاسية ذات مجسمات لأشكال كائنات غريبة.
وجه السيد لم يكن يعكس ذاك الصلف الذي حكى عنه حمدان ، كان لديه شعر ناعم .. مصبوغ ومصفف بعناية ، وجهه الأسمر نقي البشرة ، حليق الذقن والشارب ، لديه حاجبان كثيفان ، لا يرتدي نظارة وهذا مدهش لمن هو في مثل سنه.
-اسمك رجاء؟
- الباقر ...
ثقبه السيد بنظرة جامدة وقال:
- الباقر من ؟
- الباقر حسن الباقر ضهر التور.. خريج آداب لغة انجليزية ...
- أين عملت من قبل؟
- لم اعمل لقد تخرجت قبل عدة أشهر ققط..
قطب الرجل وجهه وضاقت عيناه ، كان يتحدث ببطء شديد وبصوت خفيض ، نظر الى السقف وقال:
- هل لديك كتابات سابقة .. شعر قصة ...الخ.
- نعم .. لدي بضعة قصائد... باللغةةالعربية وقليل منها بالانجليزية...
- أين هي؟
- حقيقة لم اكن اتوقع ان تطلبها مني لذلك لم آت بها ... لكنني استطيع فعل ذلك لاحقا يا سيدي...
مضت برهة من الصمت ... رغم ذلك لم يشعر بالقلق .. هذا السيد من طينة أخرى ... لم يلتق بمثله من قبل ... فرغم الوقار الذي يتجلى في صمته الا انه يشف بروح عقلانية ايضا... انه لورد حقيقي...
- لا ... ليس لدي وقت ... ساعطيك فرصة لاثبات قدراتك الكتابية... ان عملك بسيط جدا... انا اتلقى يوميا عشرات من الرسائل ...سواء بالبريد العادي او الالكتروني... مهمتك بكل بساطة ان ترد على هذه الرسائل...موافق؟
-موافق سيدي.
- حسنا أمام غرفة مكتبي هذا زاوية صغيرة عليها مكتبك وبه لاب توب وانترنت ... وصندق تلقي الرسائل الورقية .. وعلى درج المكتب باكيتات ورق واقلام ... يمكنك ان تشرع الآن..تفضل بالذهاب.
اشعر السيد غليونه وبدأ في قراءة بعض الأوراق معلنا نهاية الحديث. لكن الحديث لا يمكن ان ينتهي بهذه السرعة ؛ قال الباقر ذلك لنفسه ؛ إنه يحتاج لتفاصيل اكثر ... نهض من مكانه وقال بتردد:
- اذا سمحت سيدي بسؤال واحد؟... بماذا ارد على هذه الرسائل...
توقف السيد عن القراءة ونظر بعينين مستنكرتين وقال:
- رد بأي شيء ... فقط لا تقلقني بالاسئلة...
***
مكتب خشبي لامع ، وعلى الركن هناك آلة لصنع القهوة والشاي بكامل تجهيزاتها ، التكييف جيد ومعتدل ، هناك على المكتب جهاز لاب توب حديث جدا ، وطابعة وماسح ضوئي ، داخل الدرج كل شيء مرصوص ومصفوف بانتظام ، ورائحة الفانيلا تغمر المكان ، الجو ساكن وان كانت بعض اصوات أدوات الاكل تقرقع في مطبخ قريب تأتيه بين فينة وأخرى. هناك صندوق صغير بعرض اربعة عشر سنتمترا وطول اربعة وعشرين ، مصقول بماء الذهب وقد تراصت عليه أظرف مذيلة بطوابع بريد ، وبتاريخ حديث ، لم تتجاوز عشرة أظرف بألوان مختلفة.
جلس الباقر يتأمل ما حوله ، هذه أول وظيفة يتسلمها ، وظيفة لا يعرف كيف يباشرها وكيف ينتهي منها. لا يعرف بماذا يبدأ.. ابرسائل البريد العادي أم الالكتروني ، تلقى رسالة على هاتفه ، فتحها ورأى اسم مستخدم البريد وكلمة المرور ، وهكذا اتخذ قراره بالشروع في الرد على رسائل البريد الالكتروني أولا.
عدة رسائل ربما سبع او ثمان رسائل من جهات مختلفة ، نقر على احداها ورأى رسالة من معهد بوسينكي للعلوم والابحاث.
"السيد بروفيسور محجوب صالح جاد
الموضوع: دعوة للمشاركة بالمؤتمر العلمي الثامن ......"
تراجع الباقر الى الخلف وأخذ يتأمل الرسالة ، ماذا سيفعل الآن... الأمر شديد التعقيد ، وكلمة (فقط لا تقلقني) تمنعه من ابلاغ الرسالة الى السيد.
"هذا موضوع فني جدا" قال لنفسه ، انه لا يفهم شيئا والأمر يتعلق باتخاذ قرار ، وقرار حاسم . اغلق الرسالة وفتح رسالة أخرى:
" السيد محجوب
تحية طيبة ...
احتفظت ببريدك هذا منذ بداية الحملة الانتخابية التي خضتها قبل بضعة سنوات ، كنت قد قررت أن اكتب لك ولكني تراجعت ، وسبب تراجعي هو ان توقعاتي بهزيمتك قد صابت وصار الأمر تحصيل حاصل . لكنني قبل أيام فقط تلقيت اشاعة عن رغبتك في مشاركة أخرى في تمثيلية النظام القادمة.. حقيقة هذا شيء مؤسف جدا ، فأنت تعلم ان هذه الانتخابات ليست أكثر من انتخابات صورية لمنح النظام شرعية دستورية... لماذا تصر على الاشتراك في هذه الجريمة؟ الطاهر عبد القيوم/ رئيس تيار الديموقراطيين الليبراليين".
حرك الباقر انفه الى أعلى وأسفل ، تنشق بعض الهواء وهو يعيد قراءة الرسالة ، انها أمور تتعلق بالسياسة. السياسة التي تجنبها اثناء دراسته الجامعية وكأنها وباء. لا يفهم شيئا في السياسة ولا يعرف حتى تاريخ الانتخابات التي تمت ولولا ان اسم الرئيس يتردد على مسامعه كل الوقت وصورته على كل الشوارع والمكاتب وحتى الصحف والاخبار واوراق المال لما عرف اسمه.
صدرت رنة صوتية قصيرة وعلى اثرها انبثقت رسالة أخرى:
(دكتور محجوب... نحن من طرف الدكتور بينج لقد حولنا اليك ... لدينا مريضة في الثامنة عشر من عمرها وتحتاج لفحص قيل لنا انك الوحيد الخبير به.. نحن ندرك ان رسالتنا قد تزعجك ولكن نرجو بكل امل ان تقبل لقاءنا بك في مستشفاك الخاص).
رسالة أخرى من سيدة ساخطة:
(كيف تكون طبيبا مرموقا بهذه الدرجة ولا تمتلك ذرة احساس بالآخرين ولا اوتكيت التعامل مع الناس باحترام.... موقفك كان مخزيا جدا أمام اهلك حين تعمدت اهانتي .. انا اكتب لك هذه الرسالة ليس لاستجداء عطفك ولكن حتى تعلم ان المرتبة التي وصلت اليها كانت بفضل دعم والدك الغلبان لك الذي تتنكر لقيمه الآن. عيب يا دكتور ..عيب حقا ...ارجو ان تتذكر ايام كنت تزرع في الحواشة التي جعلتك ما انت عليه اليوم. يا خواجة.
ابنة خالتك.. كلتوم)
ان الرسائل المرسلة شديدة الخصوصية ؛ هكذا فكر وهو يقرأ باقي الرسائل ، كيف يمكنه ان يرد على كل هذه الوقائع والمطالب والتساؤلات التي لا يعرف عن تفاصيلها شيئا.
نظر الى آلة صنع الشاي والقهوة...هذه ايضا معضلة أخرى ؛ فهو لا يعرف كيف تعمل هذه الآلة ، انها تبدو شديدة التعقيد....منظرها مخيف جدا وكأنها مصمصمة كمسبار فضائي . كان يحتاج لكوب شاي بشدة ، كوب به ثلاثة ملاعق سكر وفوقه غصن نعناع اخضر ذو رائحة طيبة كشاي أمه في البلد. تذكر القتلى من أهله فأجرى اتصالا بشقيقه. هذا الأخير تلقاه بحديث مباشر:
- من الأفضل انك لم تأت ... اولاد عمران شنو غارة اليوم فجرا ورددنا عليهم بفزعة واسعة ... المقتلة تتزايد ولكننا لقناهم درسا لن ينسوه... الحكومة متواطئة معهم وأنت تعرف الأسباب...
توتر قليلا وقال:
- من مات منا؟
- ليس احدا من اشقائك ولكن اثنان من اولاد عمك ذبحا ولكنا حرقنا بيوتهم تماما ، الإزيرق الذي كان يتنمر على صغارنا قطعنا خصيتيه وحشرنا اعضاءه كلها في فمه... لا تخش شيئا .. ننحن ننتصر رغم دعم الحكومة لهم.
- لن استطيع الحصول على اجازة قريبة فقد باشرت العمل توا ...
- لا تحتاج للقدوم الينا في الوقتةالراهن... سأطلعك على كافة التطورات الهامة.
- هل أمي وأبي بخير..
- نعم بخير لا تقلق .. سأذهب الآن الى اجتماع بحضور الوالي والمعتمد وبعض العمد والمشايخ للملمة النزاع .. اعتقد انهم يسعون لتشكيل محكمة .. ولكننا نعرف محاكمهم هذه... الى اللقاء...
- الى اللقاء...
لم يشارك يوما في معركة ... لم يحمل بندقية ولا حتى سكين ولم يذبح دجاجة... والدته كانت تمنعه من ذلك.... دونا عن اخوته اصرت على ارساله الى الخرطوم للدراسة. لقد احبته الى درجة جعلته كائنا لا يتحمل رؤية اللون الأحمر على زهرة...
تأمل الآلة المعقدة ... وحاول فك طلاسمها ... هذا اليوم الأول له في عمل غريب .. كل هذا اليوم غريب... قال لنفسه:
- الاصرار سيذلل العقبات.... حسنا فلألقي قراءة أخرى على هذه الرسائل الغامضة... قراءة أخرى يمكنها ان تجعلني اتمكن من كتابة اول حرف في جملة منطقية.
مالذي يدفع رجال كبار في السن وعقلاء جدا الى التحول الى وحوش... ان يقطعوا اعضاء رجل ويحشروها في فمه؟ أي وحشية هذه؟ ان يتبادلوا ازهاق ارواح بعضهم البعض بكل شبق الانتقام وروح الظلام تنفخ صدورهم... الكل يتهم الكل ... الحكومة متواطئة دائما مع كلا الطرفين...مالذي يمنعهم من ان يكونوا لطفاء ... كلمات لطيفة بامكانها ان تحقق اكثر من هدير صوت الكلاشنكوف.... كلمات لطيفة....
نظر الى الرسائل ؛ فدقت جملة كلمات لطيفة في عقله.
- نعم سأرد على كل هذه الرسائل بكلمات لطيفة... لن اغرق في التفاصيل ... جملا قصيرة لطيفة ... ستكفيني تماما...وليكن بعدها ما يكون.
بسط اصابعه المرتجفة على الكيبورد... وبدأ في الرد...
(السادة معهد بوسينكي... لي عظيم الشرف ان اقبل دعوتكم مبدئيا وسأرسل لكم تأكيدي خلال أيام قليلة ان كان ذلك مناسبا لكم).
(السيد الطاهر عبد القيوم/ رئيس تيار الديموقراطيين الليبراليين... تحية طيبة... انني اتفق معك قلبا وقالبا .. وكما تعلم فنحن لا نتعلم من خلال الصواب وانما من خلال اخطائنا فهذه هي آلية تطورنا البشري. مع خالص الود).
(ابنة خالتي الحبيبة كلتوم...
نعم..سأقول لك حبيبتي بدون خجل ... فهذه هي مشاعري تجاهك دائما ، الحب الممتزج بالاحترام... ربما اخطأت ..ولكننا لا نعرف اخطاءنا تجاه من نحبهم لأننا لا نشعر بفجوة تفصلنا عنهم ... نعتمد فقط على مشاعرنا الصادقة وحسن ظنهم بنا... لا اعرف كيف استطعت جرح مشاعرك بهذه القسوة دون قصد مني بل ودون وعي ... لكن عليك أن تتأكدي أنني ما كنت لأتوانى عن طعن نفسي بسكين لو كنت ادرك أن كلمة مني يمكن ان تهين كبرياءك العظيم. تقبلي اعتذاري ارجوك).
شعر بغبطة وهو يعيد قراءة ما كتب ، وبدا له الأمر لعبة شديدة السهولة وذات قانون واحد: (كلمات لطيفة)...
أكمل باقي الردود على ذات المنوال ، ثم فض الأظرف واخذ يرد على الرسائل الورقية المتبقية.
لم تمض ساعتان حتى كان منتشيا بانجاز مهمته التي كانت تبدو له شديدة الخطر.
القى نظرة مغرورة الى ماكينة صناعة الشاي والقهوة. وبدأ بكل جرأة في التعامل مع ازرارها وكأنه هو من اخترعها.
****
- ادخل الى مكتبي فورا...
قال السيد ذلك بوجه مكفهر ...فتبعه ببطء ، وحين جلس الأول على كرسيه الوثير اشعل غليونه ونفث دخانه في الهواء قائلا بتوتر:
- هل تعلم انني لا أتذكر اسمك.
لم يجب على سؤاله فأردف السيد:
- ثلاثة اسابيع من العمل وانا لا اعلم اسمك... هل تعلم لماذا ... لأنني لم اكن اكترث لعملك هذا كثيرا.... لكنك تسببت لي بكارثة ..
اتسعت عينا الباقر فقال السيد:
- ماذا كنت تكتب ردا على رسائلي بحق الله؟
وحين ظل الباقر صامتا قال السيد بعصبية:
- لماذا لا تجب...
تلجلج قليلا وقال:
- لم اكتب شيئا ذا بال يا سيدي... مجرد كلمات لطيفة... انني حتى لم اكن افهم تفاصيل الرسائل وانت امرتني بألا اقلقك .. كان علي ان ارد بدون الرجوع المتكرر إليك... ولذلك قررت ان ارد ردودا عائمة بكلمات لطيفة فقط..كلمات لطيفة يا سيدي.
استنشق السيد الهواء بصوت عال واغمض عينيه... ثم فتحهما واخذ ينفض غليونه على منفضة زجاجية صغيرة...وقال دون ان يرفع رأسه:
- لقد تسببت ردودك اللطيفة هذه بكوارث متتابعة... لقد زارتني مجموعة من هذا التيار السياسي الأحمق في مكتبي.. ابنة خالتي اشاعت أنني سأتزوجها ... الطماعون اعتقدوا أنني مستعد لاقراضهم مالا او منحهم هبات ... الحكومة اعتقدت أنني اقود تحالفا ضدها ... يا ابني من قال لك ان تقول لهم كلمات لطيفة ... لقد تعمدت توظيف شخص لا يفقه شيئا ليرد برسائل غامضة ولا معنى لها .. لأنه ببساطة لا يفهم شيئا حول مسائلها...
- لو أخبرتني بذلك منذ البداية لفعلت... ورغم هذا فأنا لم اقل شيئا سوى كلمات لطيفة يا سيدي ...
اشعل السيد غليونه بعد ان حشاه بالتوباكو ... وقال:
- يا بني .. الا تعرف ان الكلمات اللطيفة في احيان كثيرة اسوأ ما نقوله... الحياة تحتاج لحسم....هل تعتقد أنني مغرور.. هذا غير صحيح...ولكن مظهر كبريائي وغروري هذا هو ما يقيني من حشر الآخرين لانوفهم في شؤوني... انت تعرف مجتمعنا هذا .. انه مجتمع بدائي...والمجتمعات البدائية لا تتعامل بالعقل بل بالانطباعات.. هل فهمتني...؟
مد يده الى الدرج واخرج دفتر شيكاته.
- أنا مضطر لاقالتك .. ليس لأنك سييء بل لأنك أفضل مما يجب.. وهذا شيك براتب ثلاثة أشهر رغم انك لم تعمل سوى اسابيع ثلاثة معي.
***
كانت الشوارع تطلق اتربتها المحترقة بشمس حارة ، ورغم ذلك لم تفقد صمتها... كان عليه أن يسير كيلو مترا تقريبا ليصل الى محطة المواصلات....
تلقى اتصالا من شقيقه ؛ الذي اخبره بأن اجتماعاتهم بالحكومة المركزية وحكومة الولاية وبعض عمد الاعداء قد اسفرت عن ترضيات وتبادل دفع ديات القتلى...مع تعهد بعدم العدوان....
قال شقيقه:
- لقد وافقنا يا أخي على كل الشروط رغم امتعاضنا من عدم حسم الأمر وتركه على هذا النحو الضبابي...
سأله:
-ولماذا وافقتم إذن؟
- أنت تعرف هذه الجلسات والجودية والكلمات اللطيفة التي تحرك عواطفنا وتثير الشهامة ونكران الذات فينا.
لاحت له المحطة فقال:
- حسنا .. لقد وصلت الى الشارع ... لكن ما يمكنني أن أقوله لك ... أن الحياة غالبا ما تتطلب منا الحسم.... وليس الكلمات اللطيفة...لا تكونوا افضل مما يجب يا أخي....
- صدقت ...
هذه الكلمات أخافته جدا ؛ لأنها تلقي بعبء ثقيل عليه ومسؤولية لا مبرر لها. ان اهل قريته يعتقدون ان التعليم وحده يحول الانسان من كائن ضعيف الى كائن قوي ، لكن هذا غير صحيح ؛ فالقوة مسألة ترتبط بشخصية المرء أكثر من مكتسباته المعرفية. لا يستطيع أن يقول لشقيقه أنه لم يشعر بالضعف كما شعر به اثناء سنوات دراسته بالخرطوم. حيث كل شيء يعتمد على تقييمات ليس من ضمن معاييرها المعرفة. والقوة تتأسس فيها على تزاوج السلطة بالمال. وأن هناك مئات الآلاف من أمثاله في العاصمة هم الأكثر ضعفا والأقل قوة. إن قوته الحقيقية تكمن في بقائه مع عشيرته داخل قريته ، مندمجا في ثقافتها المحدودة ، فهو لا يعرف غيرها ولا يريد أن يعرف غيرها. حمرة الشدول ، المنطقة السهلية الخضراء خريفا الصحراء صيفا وشتاءا ، لا ينغص سكونها سوى الرعاة الذين يعبرون بزراعتها فيحدثون فيها أضرارا بالغة ، انهم قوم غير مستقرين ، بهم غلظة وجفاف ، ومع ذلك ففيهم ايضا رقة وعذوبة تومض فجأة من خلال حداءاتهم وهم يعبرون الأرض الواسعة وكأنها لا شيء. فتياتهم جميلات ، وبضات ، رغم قسوة طبيعة حياتهم. لو كان بامكانه ان يخلق حالات تصاهر بين قبيلته وقبائلهم ربما تجنب الجميع سفك هذه الدماء الغزيرة.
لكن لا شيء من هذا يحدث ، فهناك رواسب تاريخية ، رواسب قديمة جدا ؛ والدماء حارة والقلوب مستنفرة ، والاستعداد للحرب لا ينضى.
كان الباص السفري ممتلئا عن آخر مقاعده ، رغم ارتفاع اسعار التذاكر ، فقراهم تلك تفتقر لأدنى بنيات العيش ، لا مراكز صحية ، لا مدارس ، لا مرافق عامة لا كهرباء ، وهذا ما يدفع الجميع للسفر الى العاصمة للحصول على خدمات افضل.
ركاب الباص صامتون وهناك رضيع يبكي بصوت مزعج ، لم يكن أحد يتابع الفيلم الأمريكي ، وعلى حين غرة انطفأت الشاشات الصغيرة ، ومع ذلك لم يعترض أحد. هناك سيدات طاعنات في السن ، وهزيلات جدا ، وهن على ما يبدو كن قد ذهبن الى الخرطوم لتلقي فحوصات طبية ، سيتوقف الباص بعاصمة الولاية ومن هناك سيركب وسيلة نقل أخرى الى حمرة الشدول. المناخ صيفي وجيد حيث لا مستنقعات طينية ولا خيران ولا شيء يعرقل سير المركبة.
هاهو هاتفه يهتز في جيبه ، شخص ما تذكره في هذه النقطة الزمنية ؛ تلك النقطة بالذات التي يحتاج فيها للحديث مع شخص لا لشيء سوى لملء هذا اللا شيء الذي يستغرقه عند كل سفر.
كان زميله في السكن الجامعي ؛ الفتى الصعلوك السكير السفيه الذي لا يطيقه أبدا ، من كلية القانون ؛ لكن لا بأس بالحديث معه ، سيكون محاميا قذرا في يوم من الأيام ، او قاضيا مرتشيا ، او وكيل نيابة سادي. او لصا من لصوص السلطة. ان مستقبله عريض جدا في هذا البلد.
- مرحب ...
قالها بصوت بارد... وتلقى صوت حمدان من الطرف الآخر :
- الباقر ... سلام... لا املك الكثير من الوقت لأضيعه مع فاشل مثلك ؛ لكن على كل حال سألني أحدهم عن وجود شخص لديه قدرات أدبية معقولة لوظيفة صغيرة ، حقيقة لم يرد في خاطري سواك رغم انك لا تعرف حتى كيف تكتب اسمك دون أن تخلط بين همزة الوصل والفصل... اذا كنت راغبا في شغل هذه الوظيفة يمكنك ارسال سيرتك الذاتية وصور الشهادات عبر البريد الالكتروني...
- اي سيرة واي شهادات.. انا لدي شهادة واحدة نلتها قبل عدة اشهر .. ولم اعمل اساسا من قبل الا عندما كنت مزارعا في البلد.
- هذا اجراء روتيني ... فقط لاثبات الجدية .. لكن عليك ان تكون مستعدا للعمل في اسرع وقت بحيث لا يتجاوز ذلك ثلاثة أيام...
- حسنا...
لم يتردد ابدا في اتخاذ قراره بالعودة فورا الى العاصمة وسيتحجج لشقيقه بأية حجج كاذبة ، ..... سيصل الى عاصمة الولاية ثم يحجز للعودة مباشرة في اليوم التالي. هناك مظلة انتظار يمكنه النوم تحتها حتى صباح الغد. وشعر فجأة ببطء سير الباص ، الزمن ثقيل جدا الآن.
***
-أبو قورة ... اشتريت سيارة؟
قال حمدان:
- اركب بسرعة ... لا أملك لك وقتا ... من ستعمل معه من كبار الأطباء ؛ شخص عاش خارج السودان لفترات طويلة ، شخصية ليست سهلة .. فهو ثري جدا وفوق هذا لا يملك مرونتنا هنا فهو حاسم... ومغرور جدا ... ترشح قبل سنوات للرئاسة وفشل وفي الواقع لم يجد صوتا واحدا فلا أحد يعرفه وعلى نحو ما فأنا نفسي ما كنت لأمن عليه بصوتي ... نعم هو عالم وجراح مشهود له بالكفاءة خارج السودان ولكنه ايضا لا يخلو من الصلف.
- ما هي طبيعة عملي بالضبط؟
- هو قال بأنك ستكون رداد.. وعندما سألته عن معنى ذلك اختصر الاجابة بكلمة سكرتير كتابي.
- لا بأس .. انها وظيفة شخصية جدا ومن ثم فلن استفيد منها في تدعيم سيرتي الذاتية كثيرا.. ولكن لا بأس بها.
- ها نحن نقترب من قصره ، انه في منتصف الستينات ، يبدو كلورد بريطاني ، لقد تأثر بثقافتهم ولا تندهش حين يستخدم الغليون بكثرة. لقد افتتح مستشفى استثماريا ضخما .. لو كنت اكثر حظا واثبت جدارتك فربما ينقلك للعمل بإدارته مستقبلا.... ها نحن وصلنا... اريد ان انبهك لشيء هام جدا.. لا تناديني بأبي قورة مرة أخرى... وانا جاد في ذلك..
****
مكتب ضخم حقا، كان منبهرا ، ان المسافة بين مدخله وبين طاولة السيد اللورد لا تقل عن عشرة امتار او ربما اكثر ، الطنافس والسجاد والأثاث ذو الطراز القوطي والسيد يجلس خلف مكتبه البني المصنوع من خشب قوي مصقول بعناية.
اشار اليهما السيد بالجلوس في الاريكة البعيدة ، فجلسا. قال:
- السيد حمدان.... يمكنك ان تغادر او تنتظر صديقك في الخارج اذا تفضلت.
نهض حمدان بثقة وبكثير من التملق حنى رأسه قليلا وهو يقول:
- كما تأمر سيدي ... سأنتظره في الخارج لأعيده معي..الى اللقاء...
اشعل السيد غليونه بقداحة نحاسية ذات مجسمات لأشكال كائنات غريبة.
وجه السيد لم يكن يعكس ذاك الصلف الذي حكى عنه حمدان ، كان لديه شعر ناعم .. مصبوغ ومصفف بعناية ، وجهه الأسمر نقي البشرة ، حليق الذقن والشارب ، لديه حاجبان كثيفان ، لا يرتدي نظارة وهذا مدهش لمن هو في مثل سنه.
-اسمك رجاء؟
- الباقر ...
ثقبه السيد بنظرة جامدة وقال:
- الباقر من ؟
- الباقر حسن الباقر ضهر التور.. خريج آداب لغة انجليزية ...
- أين عملت من قبل؟
- لم اعمل لقد تخرجت قبل عدة أشهر ققط..
قطب الرجل وجهه وضاقت عيناه ، كان يتحدث ببطء شديد وبصوت خفيض ، نظر الى السقف وقال:
- هل لديك كتابات سابقة .. شعر قصة ...الخ.
- نعم .. لدي بضعة قصائد... باللغةةالعربية وقليل منها بالانجليزية...
- أين هي؟
- حقيقة لم اكن اتوقع ان تطلبها مني لذلك لم آت بها ... لكنني استطيع فعل ذلك لاحقا يا سيدي...
مضت برهة من الصمت ... رغم ذلك لم يشعر بالقلق .. هذا السيد من طينة أخرى ... لم يلتق بمثله من قبل ... فرغم الوقار الذي يتجلى في صمته الا انه يشف بروح عقلانية ايضا... انه لورد حقيقي...
- لا ... ليس لدي وقت ... ساعطيك فرصة لاثبات قدراتك الكتابية... ان عملك بسيط جدا... انا اتلقى يوميا عشرات من الرسائل ...سواء بالبريد العادي او الالكتروني... مهمتك بكل بساطة ان ترد على هذه الرسائل...موافق؟
-موافق سيدي.
- حسنا أمام غرفة مكتبي هذا زاوية صغيرة عليها مكتبك وبه لاب توب وانترنت ... وصندق تلقي الرسائل الورقية .. وعلى درج المكتب باكيتات ورق واقلام ... يمكنك ان تشرع الآن..تفضل بالذهاب.
اشعر السيد غليونه وبدأ في قراءة بعض الأوراق معلنا نهاية الحديث. لكن الحديث لا يمكن ان ينتهي بهذه السرعة ؛ قال الباقر ذلك لنفسه ؛ إنه يحتاج لتفاصيل اكثر ... نهض من مكانه وقال بتردد:
- اذا سمحت سيدي بسؤال واحد؟... بماذا ارد على هذه الرسائل...
توقف السيد عن القراءة ونظر بعينين مستنكرتين وقال:
- رد بأي شيء ... فقط لا تقلقني بالاسئلة...
***
مكتب خشبي لامع ، وعلى الركن هناك آلة لصنع القهوة والشاي بكامل تجهيزاتها ، التكييف جيد ومعتدل ، هناك على المكتب جهاز لاب توب حديث جدا ، وطابعة وماسح ضوئي ، داخل الدرج كل شيء مرصوص ومصفوف بانتظام ، ورائحة الفانيلا تغمر المكان ، الجو ساكن وان كانت بعض اصوات أدوات الاكل تقرقع في مطبخ قريب تأتيه بين فينة وأخرى. هناك صندوق صغير بعرض اربعة عشر سنتمترا وطول اربعة وعشرين ، مصقول بماء الذهب وقد تراصت عليه أظرف مذيلة بطوابع بريد ، وبتاريخ حديث ، لم تتجاوز عشرة أظرف بألوان مختلفة.
جلس الباقر يتأمل ما حوله ، هذه أول وظيفة يتسلمها ، وظيفة لا يعرف كيف يباشرها وكيف ينتهي منها. لا يعرف بماذا يبدأ.. ابرسائل البريد العادي أم الالكتروني ، تلقى رسالة على هاتفه ، فتحها ورأى اسم مستخدم البريد وكلمة المرور ، وهكذا اتخذ قراره بالشروع في الرد على رسائل البريد الالكتروني أولا.
عدة رسائل ربما سبع او ثمان رسائل من جهات مختلفة ، نقر على احداها ورأى رسالة من معهد بوسينكي للعلوم والابحاث.
"السيد بروفيسور محجوب صالح جاد
الموضوع: دعوة للمشاركة بالمؤتمر العلمي الثامن ......"
تراجع الباقر الى الخلف وأخذ يتأمل الرسالة ، ماذا سيفعل الآن... الأمر شديد التعقيد ، وكلمة (فقط لا تقلقني) تمنعه من ابلاغ الرسالة الى السيد.
"هذا موضوع فني جدا" قال لنفسه ، انه لا يفهم شيئا والأمر يتعلق باتخاذ قرار ، وقرار حاسم . اغلق الرسالة وفتح رسالة أخرى:
" السيد محجوب
تحية طيبة ...
احتفظت ببريدك هذا منذ بداية الحملة الانتخابية التي خضتها قبل بضعة سنوات ، كنت قد قررت أن اكتب لك ولكني تراجعت ، وسبب تراجعي هو ان توقعاتي بهزيمتك قد صابت وصار الأمر تحصيل حاصل . لكنني قبل أيام فقط تلقيت اشاعة عن رغبتك في مشاركة أخرى في تمثيلية النظام القادمة.. حقيقة هذا شيء مؤسف جدا ، فأنت تعلم ان هذه الانتخابات ليست أكثر من انتخابات صورية لمنح النظام شرعية دستورية... لماذا تصر على الاشتراك في هذه الجريمة؟ الطاهر عبد القيوم/ رئيس تيار الديموقراطيين الليبراليين".
حرك الباقر انفه الى أعلى وأسفل ، تنشق بعض الهواء وهو يعيد قراءة الرسالة ، انها أمور تتعلق بالسياسة. السياسة التي تجنبها اثناء دراسته الجامعية وكأنها وباء. لا يفهم شيئا في السياسة ولا يعرف حتى تاريخ الانتخابات التي تمت ولولا ان اسم الرئيس يتردد على مسامعه كل الوقت وصورته على كل الشوارع والمكاتب وحتى الصحف والاخبار واوراق المال لما عرف اسمه.
صدرت رنة صوتية قصيرة وعلى اثرها انبثقت رسالة أخرى:
(دكتور محجوب... نحن من طرف الدكتور بينج لقد حولنا اليك ... لدينا مريضة في الثامنة عشر من عمرها وتحتاج لفحص قيل لنا انك الوحيد الخبير به.. نحن ندرك ان رسالتنا قد تزعجك ولكن نرجو بكل امل ان تقبل لقاءنا بك في مستشفاك الخاص).
رسالة أخرى من سيدة ساخطة:
(كيف تكون طبيبا مرموقا بهذه الدرجة ولا تمتلك ذرة احساس بالآخرين ولا اوتكيت التعامل مع الناس باحترام.... موقفك كان مخزيا جدا أمام اهلك حين تعمدت اهانتي .. انا اكتب لك هذه الرسالة ليس لاستجداء عطفك ولكن حتى تعلم ان المرتبة التي وصلت اليها كانت بفضل دعم والدك الغلبان لك الذي تتنكر لقيمه الآن. عيب يا دكتور ..عيب حقا ...ارجو ان تتذكر ايام كنت تزرع في الحواشة التي جعلتك ما انت عليه اليوم. يا خواجة.
ابنة خالتك.. كلتوم)
ان الرسائل المرسلة شديدة الخصوصية ؛ هكذا فكر وهو يقرأ باقي الرسائل ، كيف يمكنه ان يرد على كل هذه الوقائع والمطالب والتساؤلات التي لا يعرف عن تفاصيلها شيئا.
نظر الى آلة صنع الشاي والقهوة...هذه ايضا معضلة أخرى ؛ فهو لا يعرف كيف تعمل هذه الآلة ، انها تبدو شديدة التعقيد....منظرها مخيف جدا وكأنها مصمصمة كمسبار فضائي . كان يحتاج لكوب شاي بشدة ، كوب به ثلاثة ملاعق سكر وفوقه غصن نعناع اخضر ذو رائحة طيبة كشاي أمه في البلد. تذكر القتلى من أهله فأجرى اتصالا بشقيقه. هذا الأخير تلقاه بحديث مباشر:
- من الأفضل انك لم تأت ... اولاد عمران شنو غارة اليوم فجرا ورددنا عليهم بفزعة واسعة ... المقتلة تتزايد ولكننا لقناهم درسا لن ينسوه... الحكومة متواطئة معهم وأنت تعرف الأسباب...
توتر قليلا وقال:
- من مات منا؟
- ليس احدا من اشقائك ولكن اثنان من اولاد عمك ذبحا ولكنا حرقنا بيوتهم تماما ، الإزيرق الذي كان يتنمر على صغارنا قطعنا خصيتيه وحشرنا اعضاءه كلها في فمه... لا تخش شيئا .. ننحن ننتصر رغم دعم الحكومة لهم.
- لن استطيع الحصول على اجازة قريبة فقد باشرت العمل توا ...
- لا تحتاج للقدوم الينا في الوقتةالراهن... سأطلعك على كافة التطورات الهامة.
- هل أمي وأبي بخير..
- نعم بخير لا تقلق .. سأذهب الآن الى اجتماع بحضور الوالي والمعتمد وبعض العمد والمشايخ للملمة النزاع .. اعتقد انهم يسعون لتشكيل محكمة .. ولكننا نعرف محاكمهم هذه... الى اللقاء...
- الى اللقاء...
لم يشارك يوما في معركة ... لم يحمل بندقية ولا حتى سكين ولم يذبح دجاجة... والدته كانت تمنعه من ذلك.... دونا عن اخوته اصرت على ارساله الى الخرطوم للدراسة. لقد احبته الى درجة جعلته كائنا لا يتحمل رؤية اللون الأحمر على زهرة...
تأمل الآلة المعقدة ... وحاول فك طلاسمها ... هذا اليوم الأول له في عمل غريب .. كل هذا اليوم غريب... قال لنفسه:
- الاصرار سيذلل العقبات.... حسنا فلألقي قراءة أخرى على هذه الرسائل الغامضة... قراءة أخرى يمكنها ان تجعلني اتمكن من كتابة اول حرف في جملة منطقية.
مالذي يدفع رجال كبار في السن وعقلاء جدا الى التحول الى وحوش... ان يقطعوا اعضاء رجل ويحشروها في فمه؟ أي وحشية هذه؟ ان يتبادلوا ازهاق ارواح بعضهم البعض بكل شبق الانتقام وروح الظلام تنفخ صدورهم... الكل يتهم الكل ... الحكومة متواطئة دائما مع كلا الطرفين...مالذي يمنعهم من ان يكونوا لطفاء ... كلمات لطيفة بامكانها ان تحقق اكثر من هدير صوت الكلاشنكوف.... كلمات لطيفة....
نظر الى الرسائل ؛ فدقت جملة كلمات لطيفة في عقله.
- نعم سأرد على كل هذه الرسائل بكلمات لطيفة... لن اغرق في التفاصيل ... جملا قصيرة لطيفة ... ستكفيني تماما...وليكن بعدها ما يكون.
بسط اصابعه المرتجفة على الكيبورد... وبدأ في الرد...
(السادة معهد بوسينكي... لي عظيم الشرف ان اقبل دعوتكم مبدئيا وسأرسل لكم تأكيدي خلال أيام قليلة ان كان ذلك مناسبا لكم).
(السيد الطاهر عبد القيوم/ رئيس تيار الديموقراطيين الليبراليين... تحية طيبة... انني اتفق معك قلبا وقالبا .. وكما تعلم فنحن لا نتعلم من خلال الصواب وانما من خلال اخطائنا فهذه هي آلية تطورنا البشري. مع خالص الود).
(ابنة خالتي الحبيبة كلتوم...
نعم..سأقول لك حبيبتي بدون خجل ... فهذه هي مشاعري تجاهك دائما ، الحب الممتزج بالاحترام... ربما اخطأت ..ولكننا لا نعرف اخطاءنا تجاه من نحبهم لأننا لا نشعر بفجوة تفصلنا عنهم ... نعتمد فقط على مشاعرنا الصادقة وحسن ظنهم بنا... لا اعرف كيف استطعت جرح مشاعرك بهذه القسوة دون قصد مني بل ودون وعي ... لكن عليك أن تتأكدي أنني ما كنت لأتوانى عن طعن نفسي بسكين لو كنت ادرك أن كلمة مني يمكن ان تهين كبرياءك العظيم. تقبلي اعتذاري ارجوك).
شعر بغبطة وهو يعيد قراءة ما كتب ، وبدا له الأمر لعبة شديدة السهولة وذات قانون واحد: (كلمات لطيفة)...
أكمل باقي الردود على ذات المنوال ، ثم فض الأظرف واخذ يرد على الرسائل الورقية المتبقية.
لم تمض ساعتان حتى كان منتشيا بانجاز مهمته التي كانت تبدو له شديدة الخطر.
القى نظرة مغرورة الى ماكينة صناعة الشاي والقهوة. وبدأ بكل جرأة في التعامل مع ازرارها وكأنه هو من اخترعها.
****
- ادخل الى مكتبي فورا...
قال السيد ذلك بوجه مكفهر ...فتبعه ببطء ، وحين جلس الأول على كرسيه الوثير اشعل غليونه ونفث دخانه في الهواء قائلا بتوتر:
- هل تعلم انني لا أتذكر اسمك.
لم يجب على سؤاله فأردف السيد:
- ثلاثة اسابيع من العمل وانا لا اعلم اسمك... هل تعلم لماذا ... لأنني لم اكن اكترث لعملك هذا كثيرا.... لكنك تسببت لي بكارثة ..
اتسعت عينا الباقر فقال السيد:
- ماذا كنت تكتب ردا على رسائلي بحق الله؟
وحين ظل الباقر صامتا قال السيد بعصبية:
- لماذا لا تجب...
تلجلج قليلا وقال:
- لم اكتب شيئا ذا بال يا سيدي... مجرد كلمات لطيفة... انني حتى لم اكن افهم تفاصيل الرسائل وانت امرتني بألا اقلقك .. كان علي ان ارد بدون الرجوع المتكرر إليك... ولذلك قررت ان ارد ردودا عائمة بكلمات لطيفة فقط..كلمات لطيفة يا سيدي.
استنشق السيد الهواء بصوت عال واغمض عينيه... ثم فتحهما واخذ ينفض غليونه على منفضة زجاجية صغيرة...وقال دون ان يرفع رأسه:
- لقد تسببت ردودك اللطيفة هذه بكوارث متتابعة... لقد زارتني مجموعة من هذا التيار السياسي الأحمق في مكتبي.. ابنة خالتي اشاعت أنني سأتزوجها ... الطماعون اعتقدوا أنني مستعد لاقراضهم مالا او منحهم هبات ... الحكومة اعتقدت أنني اقود تحالفا ضدها ... يا ابني من قال لك ان تقول لهم كلمات لطيفة ... لقد تعمدت توظيف شخص لا يفقه شيئا ليرد برسائل غامضة ولا معنى لها .. لأنه ببساطة لا يفهم شيئا حول مسائلها...
- لو أخبرتني بذلك منذ البداية لفعلت... ورغم هذا فأنا لم اقل شيئا سوى كلمات لطيفة يا سيدي ...
اشعل السيد غليونه بعد ان حشاه بالتوباكو ... وقال:
- يا بني .. الا تعرف ان الكلمات اللطيفة في احيان كثيرة اسوأ ما نقوله... الحياة تحتاج لحسم....هل تعتقد أنني مغرور.. هذا غير صحيح...ولكن مظهر كبريائي وغروري هذا هو ما يقيني من حشر الآخرين لانوفهم في شؤوني... انت تعرف مجتمعنا هذا .. انه مجتمع بدائي...والمجتمعات البدائية لا تتعامل بالعقل بل بالانطباعات.. هل فهمتني...؟
مد يده الى الدرج واخرج دفتر شيكاته.
- أنا مضطر لاقالتك .. ليس لأنك سييء بل لأنك أفضل مما يجب.. وهذا شيك براتب ثلاثة أشهر رغم انك لم تعمل سوى اسابيع ثلاثة معي.
***
كانت الشوارع تطلق اتربتها المحترقة بشمس حارة ، ورغم ذلك لم تفقد صمتها... كان عليه أن يسير كيلو مترا تقريبا ليصل الى محطة المواصلات....
تلقى اتصالا من شقيقه ؛ الذي اخبره بأن اجتماعاتهم بالحكومة المركزية وحكومة الولاية وبعض عمد الاعداء قد اسفرت عن ترضيات وتبادل دفع ديات القتلى...مع تعهد بعدم العدوان....
قال شقيقه:
- لقد وافقنا يا أخي على كل الشروط رغم امتعاضنا من عدم حسم الأمر وتركه على هذا النحو الضبابي...
سأله:
-ولماذا وافقتم إذن؟
- أنت تعرف هذه الجلسات والجودية والكلمات اللطيفة التي تحرك عواطفنا وتثير الشهامة ونكران الذات فينا.
لاحت له المحطة فقال:
- حسنا .. لقد وصلت الى الشارع ... لكن ما يمكنني أن أقوله لك ... أن الحياة غالبا ما تتطلب منا الحسم.... وليس الكلمات اللطيفة...لا تكونوا افضل مما يجب يا أخي....
- صدقت ...