أعرف أن العالم في قلبي .. مات
لكني حين يكف المذياع وتنغلق الحجرات
أنبش قلبي ، أخرج هذا الجسد الشمعي
وأسجيه فوق سرير الألام
أفتح فمه ، أسقيه نبيذ الرغبة
فلعل شعاعاً ينبض في الأطراف الباردة الصلبه
لكن تتفتت بشرته في كفي
لا يتبقى منه .. سوى : جمجمة .. وعظام
أمل دنقل ـــ يوميات كهل صغير السن
***
(1)
الظلام يخيم على أرجاء الغرفه ، النوم عميق ولكنه مضطرب ، تطارده فيه أسراباً من خيالات موحشة وأطيافاً من أشباح وأناسي كثيرة ، وسحباً كثيفة من الغمام تحجب عنه رؤيتهم جميعاً بينما تقترب منه أصواتهم الجهورية وتتعاقب أنفاسه المتقطعه على نظم خطاهم الثابتة السريعة ، فلا يدري من أي صوب يتهدده هذا الخطر ومن هم هؤلاء الزاحفين خلفه قاصدين أذاه ، فتزداد خطواته سرعةً أكثر فأكثرفتنزلق قدماه في منخفض من باطن الأرض سحيق ، فيصيح (ألحقووووووووني) . يهب فجأة من فراشه فزعاً ، شاخصاً بصره في سقف الغرفه والعرق يتصبب من جبينه ورأسه ويسيل على مخدعه وقد ظفر به كله واستحال رطباً مبللا ..
كل شيء مازال في محله لم يتحرك ، أثاث الغرفة ، مصباح السقف ، الكتاب الذي كان يقرأ فيه ، نظاراته الطبية وهي تجلس فوق كتابه القرفصاء ، منبه الساعه الذي توقف عند الثالثة صباحاً وأبى أن يتتبع الزمن ، أمراته القابعة عن يساره الغارقة في سبات عميق ، كل شيء من حوله ينضح بالملل ، كل شيء من حوله أبى أن يحقق أمانيه .
استيقظ الفجر من سباته وخلع عنه رداء الظلمة والليل الطويل منذ ما يقرب من ساعتين وتدفقت آشعة الشمس الحارة تلهب سماء الدنيا من جديد ، يغط الشارع بأصوات الماره ، السيارات ، بائعي الفول ، صيحات طلاب المدرسة المجاورة لمسكنه ( تحيا جمهورية مصر العربيه ، تحيا جمهورية مصر العربيه ) ، الساعة بلغت السابعة والنصف اذاً و لم يعد لديه خيار بين أن ينام أو أن يبقى مستدفئاً في فراشه ، يحدث نفسه ( سوف أعاود النوم حين العودة من العمل )
ينهض من فراشه متمتماً بكلمات الأمل التي يطمئن بها نفسه في كل صباح ( اليوم سيكون أفضل من الأمس ، ربما استطيع أن أظفر بشيء من مترفات الحياة كفرصة عمل أفضل من تلك الرتيبة التي امتهنها ، جائزة من جوائز برامج المسابقات التلفزيونية التي اتابعها بأمل يائس ، رب طارق ببابي أتياً الي بخبر سعيد ، أو ربما تعلن الدولة عن تشكيل حكومة جديده تدرك عمق هذا النفق الذي حفرته سابقاتها بين دخلي ونفقاتي )، تظل تتتابع على عقله أفكاره وأمانيه البسيطة حتى يصل الى الحمام ، وهناك ، وأمام صنبور المياه الذي يتدفق منه الماء البارد ، يرفع رأسه فتنطبع في المرآة صورته ، وجهه المنتفخ وعينيه المقفلتين من أثر النوم المفزع ، وشعره الأشعث من جراء التدحرج على المخدع وعلى خديه تتناثر في غير انتظام شعيرات نابته ... ، ولكن دائماً تتبدد أمام الماء والمشط بشاعة الصورة ، الا صورته هو ، تنجلي أثار النوم منها وتبقى آثار اليأس والأحباط لا تفارقها ابدا .
( لا وقت للفطور ، سوف أقتات شيئاً في طريقي الى العمل ) ، يمد سبابته على مصباح الغرفه ويضغط بقوه ، وعندئذ ينطلق من أسفل لحاف يعج بالدفء والنوم والكسل صوت امرأته ، بعضاً من كلمات الضجر وكثيراً من السباب ، تأمره بأن يطفيء المصباح ويظلم الغرفه كي تعاود النوم الذي قطعه حماقته ، فيقرر أن يرتدي ثيابه في الظلام .!!
(آه ... ما أقسى أن تقرر المضي في أداء فعل قد فرض عليك ) - هكذا حدثته نفسه حين انصاع الى رغبات امراته ،
( ولكن ... لابأس ، لم يعد لدي وقت لشجار بالنهار ، الوقت يمر ، لقد فرغت من ارتداء ثيابي ، علي أن أغادر الشقه الآن )
يتجه مسرعاً صوب الباب ، يفتحه ويندفع الى الخارج فتتعثر قدماه في صندوق القمامة ، فتنكب على الأرض ، وينكفأ هو من فوقها ، فيعاود القيام ، ثم يواصل اندفاعه على سلمات الدرج الضيق الطويل ، وتعيقه القطط العابثة بصناديق القمامه ، وقد افرغتها على الأرض لتقتات .
( لماذا لا يأت عامل القمامه في وقت مبكر من النهار ، فيرفع الأذى ويزيل العثرات ويخلصنا من تلك الرائحه ؟!! )
تنفرج زاوية الضوء شيئاً فشيئاً ، وينفتح على ضوء الشارع الكلي ، هاهوذا الضوء الذي منعته منه امرأته يداعب عيونه وتلهو في آشعته أهدابه . يتجه صوب يمينه ويترجل تلك المسافه حتى الوصول الى (محطة الأوتوبيس ) .
الشارع يكتظ بالمارة والبائعين الجوالين ، رؤوس هشه فوق أجساد هزيلة تطل من نوافذ حافلة النقل العام ( الأوتوبيس) ، لا مكان لموضع قدم بداخله ، ولكن لامفر ( لقد تأخرت كثيراً ولا يمكنني الأنتظار أكثر، سوف أضع احدى قدماي على أول سلمة وأقبض بكلتى يدي على أحد جانبي الباب الخلفي ، الحافلة تسير ولا تتوقف في المكان المخصص لها ، لا سبيل اذاً غير القفز ، سأقفز قابضاً بقوه على الباب ...، الحمد لله ... لقد نجحت )
( آه ...ماأطول الطريق ، يدي تؤلمني وقدماي كذلك ، رائحة العرق الدافيء تنبعث من حولي وقد أجهدتني محاولات الخلاص منها مثلما أجهدتني تجارب الدخول الى موضع آمن بالداخل ، ولكن لا بأس ، ففي الداخل مقبرة بشرية حية ، ومرتع لمضايقات عده ) هنا فقط يحلو الخطر ، ويبدو السلم وكأنه الموقع الاستراتيجي الوحيد بالاوتوبيس - تحدثه نفسه انه عما قليل ستنفرج الأزمة - .
يتوقف الاوتوبيس فجأة ، فيندفع الناس اندفاعاً شديداً ويجد نفسه وقد أنفلتت يداه وأنزلقت قدماه الثابته فيسقط اسفل اطارات الحافله العملاقه فيعاود الوقوف من جديد .
تلك المره سوف يواصل المسير على قدميه حتى الوصول الى مقر عمله ، لا يدري لماذا شعر فجأة بالمهانة تلك المره بالذات ؟! ، فكثيراً ما يسقط من على درجات السلم ، حدثته نفسه بأشياء من الماضي وهو ينظر الى الحاضر المؤلم ويتألم ، بكى ،،، وبلل الدمع المسام .
لا شيء في الشارع يحنو على الآخر ، لا شيء يطمئنه على نفسه في حاضره ومستقبله ، لا رحمة ، لا صدق ، لا عدل ، الكذب يهب من الصحف ويسيل مع لعاب الأفاقين ، الشحاذون يتكففون الماره والفقراء يتعففون ، والأغنياء يشمئزون من هؤلاء وهؤلاء ، المقاهي ملأى بالعاطلين ، السيارات لا تكف عن الصراخ والناس وكأن أصابهم الصمم فهم لا يسمعون ، فتلك سيارة يقودها طاعن في السن يرى نافذتها بالكاد ويداه لا تفارق آلة التنبيه ( آلة الأزعاج) وشاب أرعن يقودها بكامل عنفوانه ، لا يعنيه عابر بالطريق ولا يردعه مخالفة القانون ، وأمرأة تبدو وكأنها أول تجربة لها في القيادة فهي لا تهتم باستخدام الكابح ولا تنتبه لمرور الناس والسيارات من حولها ، وهذا شرطي المرور ، المشهد كان أقوى من أن يدركه بأكمله ، وكلى الماره وقائدي المركبات يغفلون عنه ويتجاوزون أوامره والتي غالباً ماتصدر منه على استحياء وخوف ، وهكذا تفقد السلطة هيبتها .... وبالتدريج !!
الدكاكين تنبعج ببضاعتها خارج بواباتها ، تماماً كأمرأة في اخريات الحمل ، يتراجع لها المساكين السائرين على الأقدام فوق الرصيف وتتدافع خطواتهم المتعثرة أسفله ، بقايا ملصقات على جدران ابنية رمادية قديمة لدعايا انتخابيه مرت عليها سنوات عده، تداخل مهين بين صوت لمطرب شعبي يتغنى بكلمات رخيصة على أنغام موسيقى صاخبة مثيرة للأعصاب ودافعة للاْشمئزاز وصوت الشيخ مصطفى اسماعيل ينبعث من احدى دكاكين بيع الشرئط والكتب الدينية ينشد القرآن بصوت عذب .
كان الشارع في الصباح يشبه كثيراً حالة الفوضى التي يراها في بيته وفي عمله وفي نفسه ، وعلى طول الطريق وحتى الوصول الى البناية التي بها مقر عمله كان يتأمل مايجري بعينيه وأذنيه بينما راح قلبه يتمتم بدعاء الخلاص وكلمات الأمل في يوم بدا كسابقه ولكنه مازال يأمل أن يكون أشرق .
(2)
يقترب تدريجياً نحو مقر عمله .. يتزاحم الموظفون أمام البوابة الحديدية للشركة ، فيحاول النفاذ من بينهم متجهاً نحو المصعد حيث خليط من عملاء وموظفين وزائرين ، كلُُ ينتظر ويتأهب كي لا تفوته فرصه استخدام المصعد في تلك المرة .
تنفتح أبوابه ويتزاحم الواقفون ، كلُ يدفع بنفسه اندفاعاً داخله ، فيمتلء فوق سعته المقدره للصعود ، ينغلق الباب ويصعد الى أعلى في بطء شديد ، بينما هو لا يزال واقفاً أمام مدخله في الطابق الأرضي ــ فلقد فقد فرصة الدخول فيه ــ يحدث نفسه ( سوف أصعد الدرج ولا سبيل لي غير ذلك ، لا يمكنني الأنتظار حتى يعود المصعد فيمتلء من جديد وتخذلني حيلتي مرة أخرى )
مالبث يفكر في عدد سلمات الدرج وما سيلحق به من ألم خاصة أنه مريض بمرض عضال في قلبه حتى عدل عن فكرته تلك ، وبينما هو على هذا الحال ، اذ بالمصعد يقترب من الوصول الى محطته بالطابق الأرضي ، يشحذ كل طاقته الكامنه بداخله استعداداً للأندفاع ، ينفتح الباب الاوتوماتيكي ويجد نفسه اخيراً ملقى بداخله ، واقفاً كعود ثقاب بين أعواد على وشك الأشتعال .
يقع المكتب في الطابق السابع للمبنى ، ذاك الطابق المزدحم دائماً بالمراجعين وأصحاب الشكاوى والحاجات ، والمكتب لسوء الحظ يقع في الناحية الجنوبيه للمبنى ، فهو مظلم لا تصالحه الشمس ، رطباً لا يعرف الدفء ، أخذ يسير ببطء شديد بينما راحت قدماه تثني احداهما الأخرى عن المسير ، وذاك لعلمه ما سيلاقيه بالداخل ، لا شيء يعدو فوق كماً هائلاً من الأوراق والدفاتر المتهالكة المهترئه ، وقلم جاف أوشك الحبر بداخله على النفاذ ومالايقل عن عشرة وجوه عابسه لا يلتفتون اليه ولا يعبئون ، ورئيس له في العمل ــ مغرورق في الجهالة ــ لا يعي من أمر دنياه سوى البحث عن أخبار مباريات كرة القدم في الصحف القومية والرياضيه ومجالسة موظفات الشركة اللاواتي يظنهن حسناوات ، ثم مضايقه مرؤسيه وتكليفهم بالمستحيل أداءه دائماً ، وهو شكل من أشكال الاستبداد التي طالما مارسها العربي الكبير تجاه العربي الصغير في بلادنا تلك التي تنازعتها أنظمة الأستبداد والطغيان على مر الزمان .
يفتح الباب في تثاقل وهو يلقي بتحية الصباح على زملاءه بالغرفه
ـــ السلام عليكم
ـــ وعليكم السلام
ولا يزيد فوق ذلك بكلمة ، ولا يزيدون .
ثم لا يلبث أن ينكفأ فوق مكتبه المثقل بالدفاتر والأوراق الصفراء الخشنه ، يحاول في جهد يائس أن يمحو كل ذرات التراب الدقيقة التي علتها وتخللتها وأستقرت بين طياتها ، هنالك يقترب منه ساعي المكتب حاملأ اليه كوباً من الشاي الغامق الذي تعكر لونه بفعل الملعقة الصغيرة القذره الحامله لأصباغ اللبن الأبيض وقد أنسكب قليل منه وسال على الجدار الخارجي للكوب مكوناً طبقة لاصقة مثيرة للأشمئزاز ، يرشف رشفة منه وهو يطالع أوراقه ودفاتره .
كان يومه طويل ، ثقيل ، لا شي فيه يدفع الى الأجتهاد أو يحفز على العمل ، كان يعلم أنه لا طائل وراء مايؤديه كل يوم ، فانه اذا تغيب عن العمل لكسل او لمرض او حتى بسبب الموت ، فأنه سوف يوكل ما خلفه من مهام الى زميل آخر سوف يتكلف مؤونة ازاحة الأتربه الدقيقة من فوق أوراقه التي تجمعت عليها أثناء غيابه أو مرضه أوفي تلك الحظات التي كان يوارى فيها جسده الثرى .
كان يؤثر قراءة الصحف اليومية جميعها كل صباح باهتمام شديد رغم تشابهها وتكرار أخبارها وكأنه يبحث فيما بين سطورها على كلمة الخلاص ومفتاح الفرج ، بيد أن الصحافة كانت دائماً ما تخدله هي الأخرى وتحمل اليه ما يسؤه
لم تشأ عناوين الأخبار في صبيحة ذلك اليوم أن تحمل اليه خبراً واحداً سعيداً ، بدءً من الصفحة الأولى وحتى الأخيره ، وكأنها تتآمر ضده مع القطط العابثة بصناديق القمامة وسلم الأوتوبيس وأصوات آلات الأزعاج للسيارات وزملاءه الحاقدين ودفاتره المتربه الخشنه ، فهاك خبرٌ عن أنتشار فيروس خطير راح ضحيته العشرات من فقراء الوطن وآخر عن مسؤول كبير بالدوله أستغل مناصبه المتعدده في زيادة أرصدته بالبنوك بل ولم يكتف بذلك فراح يطلب الرشوة من كل من له حاجة لديه ، وخبر تصدر الصفحات الأولى من الصحف يحكي عن تمكن أحد المتهمين في قضية فساد كبرى من الأنفلات من قبضه ( المنع من السفر) واجتيازه حدود البلاد حيث انتهى به المستقر النهائي والسعيد في منزله بالريف الأنجليزي .، وخبر آخر أتت به صفحة الرياضه عن هزيمة الفريق القومي المصري لكرة القدم في أهم مبارياته الموهلة الى تصفيات كأس العالم مما بدا أثره مفزعاً على وجوه زملاءه وبالأخص رئيسه .
أما صفحة الوفيات ، فلم تشأ هي الأخرى أن تتركه وشأنه يعالج همومه وأحزانه ، بل فاجأته وأزعجته وكأنها توميء له برأسها مفصحة له عن حقد دفين وترصد بالأحزان ، ففي أعلى الصفحة ومن الجهة اليمنى برواز أسود عريض حمل اليه بداخله خبر وفاة صديق قديم له ، تقاسما سوياً في أيام الصبى ومطلع الشباب أحلامهما وآمالهما العريضه ، ثم تفرقا وقد صحبت الأيام صديقه في حلمها المخملي الناعم ، بينما قذفت به هو فوق اِشواك أرض جدباء في يوم عاصف طويل لم ينقض حتى الساعه .
طوى الصحيفة والقى بها في اسفل ادراج المكتب بينما علت وجه كآبة استجمعت فيها كل آلامه اليومية وانهزاماته المتتالية وطفق يحدث نفسه في صوت خافت لم يسمعه سواه ( انا لله وانا اليه راجعون ، مات الرجل ، كنت أود لقاءه ولا ادري مالذي منعني ، ماذا لو كنت فاجأته بزيارة خاطفه بعد طول انقطاع ، ماكان ينبغي لنا أن نتباعد الى هذا الحد ، كيف يتأتى لي استرجاع ذكرياتنا بمفردي ، دونه ، أعلم انني كنت اخشى ثرائه ونعومة حياته ، اخاف عليها واخاف مني ، وأشفق على طموحي الذي ذهب هباءً ،وأحلامي التي تلاشت في الهواء، كنت اخشى منه جفاء اللقاء و وأتحسب من شقاء التواصل ، الآن فقدته الى الأبد ، فقدته كله ، الوجه الصبوح ، خفة الظل ، نقطة الأنطلاق المشتركة بيننا ، فقدته دون أن اخبره كم كنت اشتاق لرؤياه ولحديث الذكريات .)
ثم مد سبابته أسفل عينيه ومسح بظهرها دمعة فاجأته ، شعر بعدها بقسط ضئيل من الراحه والسكينه وأيقن أن بأمكانه أن يتابع يومه
أنقضت ساعات العمل الروتيني السخيف ، فنهض من مكانه ، وسار منكسر القامه مطأطأ الهامه في الردهة الطويلة الشبه مظلمه المنتهية بالمصعد البطيء المكتظ باللحم البشري والأنفاس المختلطه ، أنتظر طويلاً ، ولا شيء أتى أو راح ، فقد كان المصعد معطلاً في احدى طوابق المبنى السفليه ، فقرر أن يترجل الدرج وصولاً الى بوابة الخروج .
(3)
الشارع مرة اخرى، صديق ممل حديثه ، سئيمة صحبته ، متناقض في ذاته ، ورغم ما فيه من بواعث للألم فيه من صدق الواقع ، فانك اذا سرت فيه كفاك حديث الناس وقراءة الكتب ومشاهده التلفاز ، فهو يعبر بصورة صريحة عما آلت اليه أوضاع الناس وما انتهت اليه أفكارهم ، ويعبر كذلك عن سطوة الدولة في الوقت الذي تتجلى فيه وبوضوح انسحابها منه في مشهد بالغ في التعقيد ، مشاهد تضحكك ومشاهد تبكيك ، نسمات عذبة تحمل اليك عطر الياسمين ورائحة كريهة تحملها اليك بالوعات الصرف الصحي المهملة ، سيارت فارهة وأخرى قديمة بالية ، رجال تعلو وجوههم البهجه وآخرون تملكهم اليأس وأطاحت بنضرة وجوههم الكأبة
مضى سائراً على قدميه يتأمل آلام الناس وأوجاعهم ويرسي لأحوالهم القاسية ، وفجأة تذكر أن عليه أن يتأهب لأستقبال نفس جديدة سوف تحل عليه بعد أيام قلائل ، فلسوف تضع زوجته مولودها الجديد عما قريب ، وأن عليه أن يتحمل أوجاعه وأوجاعها مثلما ذاب دون وعي في آلام الناس وأوجاعهم ، وأوشك اللاشعور لديه – البالغ في الدقه والحساسية- أن يتحكم في وقائع حياته وتفاصيلها ، حدث نفسه ( ماالضير فيما ألاقيه من آلآم او شقاء ، أن العالم كله من حولي يتألم ، نحن لم نخلق للرفاهيه أو التمتع بلذات الدنيا ثم نقضى، أن الألم مصير كوني وسنة الحياة ، ارادة الله التي تعلو فوق كل ارادة بشريه ، نعم ، اني أرى تلك المرأه البدينة تحمل طفلها بين ذراعيها وتتكأ على قدم واحده بينما تجرالأخرى المجهده من شقاء المسير ، العرق يتصبب من جبينها وعادم السيارات يسري مع أنفاسها ويصيبها بالصداع ،العالم من حولها لا يعبأ بها وخشونه الحياه تجرح ما تبقى من أنوثتها المتناهيه في الخفاء، أراها و قد بدا الفقر جلياً في رقعات الثوب المهترأ البالي ، وشبح الأعياء الذي أنقض عليها وتملك حتى أطرافها ، بيد أن ثمة أبتسامه عذبه يرسمها الحنين على وجه صغيرها قد تمحو معها آلام الأيام وتباريح الشجن .
وذاك صاحب الدكان ، تمر عليه الدقائق والساعات دونما عابر يبتاعه شيء من دكانه ، وخزانته فارغه الا من قروش ضئيله ، ولكن الأمل في استكمال الرزق يثنيه عن اليأس ، والرضى بالواقع يدفع عنه وساوس الشيطان .
وذاك ( سائق الأوتوبيس ) و رغم ما يلاقيه من معاناة في ساعة الظهيره و ازدحام الشارع وحرارة الطقس وضيق ذات اليد الا ان شيئاً من التفائل يتوارى خلف صبره ، وحلم بالعوده الى احضان أطفاله في آخر الليل يذيب فيح لهيب اليوم الطويل .
تلك هي الدنيا ، خيط من الألم وخيط من الأمل ، لحظه من سعاده ولمحة من كآبه ، صبح يفضي الي ليل ، وليلُ ينجلي بصباح . انه الصبر وليس سوى الصبر زاد ، أشعر انه عما قليل سوف تنفرج الأزمه ! )
ثمة أمل جديد اذاً سوف يطرأ على حياته ، شعاع من الأمل الرفيع بدا ممتد امامه اينما ولى، انه المولود الثاني ، ورغم ما يتطلبه هذا المولود من دعم قد يثقل كاهل ابوه فوق اثقاله الأخرى ، الا انه - وعلى اية حال- حدث يمثل بهجه ذات مذاق خاص .
غير مساره متجهاً الى احدى الدكاكين المتخصصه في بيع ملابس الأطفال حديثي الولاده ، وأخذ يتجول بين أروقتها الضيقه يختار ما يصلح للمولود الجديد ، عاد الى بيته محملاً بقدر لا بأس به من احتياجات الطفل الجديد ، وأخذ يختار لها موضعاً في خزانة الملابس . كان يفكر ملياً آنذاك كيف يمكنه التخلص من جملة آلامه من الآن فصاعداً ، بدت له حياته كلها وكأنها الشهر التاسع قبل الولاده كان يقترب اكثر وأكثر من الأقتناع بأنه ( عما قليل ستنفرج الأزمه ) .
أستبدل بملابسه حلة النوم ، واستلقى على ظهره فوق سريره ، ولأول مره كان غير عابيء بما سيلاقيه في نومه من أشباح تطارده لا يعرف لها مصدراً وتلك الأصوات المخيفه التي يسمعها كل ليله .
.استسلم جسده المتعب للذه الراحه ، بينما أخذت بقعة الضوء تزداد أتساعاً وخيط الأمل يمتد اليه من الفراغ البعيد ، ترائت له الأشباح من جديد كخيوط سوداء تتلاشي في وهج الضوء المبهج، لم تك تلك الأشباح وذاك الهزيع الذي كان يسمعه كل ليله الا نذير الموت يأتي اليه كل يوم ، أخذت أنفاسه المجهده تخفت قليلاً قليلاً و تتلاشى تدريجياً حتى أنحبست ، وأنفتحت له وقتذاك طاقه النوركاملة لتملأ أركان بصره . فلقد أنطوت صفحة الألم من حياته وأنقضت معها حياته كلها ، في احدى أيام الشهر التاسع ـــ قبل الولاده .
لكني حين يكف المذياع وتنغلق الحجرات
أنبش قلبي ، أخرج هذا الجسد الشمعي
وأسجيه فوق سرير الألام
أفتح فمه ، أسقيه نبيذ الرغبة
فلعل شعاعاً ينبض في الأطراف الباردة الصلبه
لكن تتفتت بشرته في كفي
لا يتبقى منه .. سوى : جمجمة .. وعظام
أمل دنقل ـــ يوميات كهل صغير السن
***
(1)
الظلام يخيم على أرجاء الغرفه ، النوم عميق ولكنه مضطرب ، تطارده فيه أسراباً من خيالات موحشة وأطيافاً من أشباح وأناسي كثيرة ، وسحباً كثيفة من الغمام تحجب عنه رؤيتهم جميعاً بينما تقترب منه أصواتهم الجهورية وتتعاقب أنفاسه المتقطعه على نظم خطاهم الثابتة السريعة ، فلا يدري من أي صوب يتهدده هذا الخطر ومن هم هؤلاء الزاحفين خلفه قاصدين أذاه ، فتزداد خطواته سرعةً أكثر فأكثرفتنزلق قدماه في منخفض من باطن الأرض سحيق ، فيصيح (ألحقووووووووني) . يهب فجأة من فراشه فزعاً ، شاخصاً بصره في سقف الغرفه والعرق يتصبب من جبينه ورأسه ويسيل على مخدعه وقد ظفر به كله واستحال رطباً مبللا ..
كل شيء مازال في محله لم يتحرك ، أثاث الغرفة ، مصباح السقف ، الكتاب الذي كان يقرأ فيه ، نظاراته الطبية وهي تجلس فوق كتابه القرفصاء ، منبه الساعه الذي توقف عند الثالثة صباحاً وأبى أن يتتبع الزمن ، أمراته القابعة عن يساره الغارقة في سبات عميق ، كل شيء من حوله ينضح بالملل ، كل شيء من حوله أبى أن يحقق أمانيه .
استيقظ الفجر من سباته وخلع عنه رداء الظلمة والليل الطويل منذ ما يقرب من ساعتين وتدفقت آشعة الشمس الحارة تلهب سماء الدنيا من جديد ، يغط الشارع بأصوات الماره ، السيارات ، بائعي الفول ، صيحات طلاب المدرسة المجاورة لمسكنه ( تحيا جمهورية مصر العربيه ، تحيا جمهورية مصر العربيه ) ، الساعة بلغت السابعة والنصف اذاً و لم يعد لديه خيار بين أن ينام أو أن يبقى مستدفئاً في فراشه ، يحدث نفسه ( سوف أعاود النوم حين العودة من العمل )
ينهض من فراشه متمتماً بكلمات الأمل التي يطمئن بها نفسه في كل صباح ( اليوم سيكون أفضل من الأمس ، ربما استطيع أن أظفر بشيء من مترفات الحياة كفرصة عمل أفضل من تلك الرتيبة التي امتهنها ، جائزة من جوائز برامج المسابقات التلفزيونية التي اتابعها بأمل يائس ، رب طارق ببابي أتياً الي بخبر سعيد ، أو ربما تعلن الدولة عن تشكيل حكومة جديده تدرك عمق هذا النفق الذي حفرته سابقاتها بين دخلي ونفقاتي )، تظل تتتابع على عقله أفكاره وأمانيه البسيطة حتى يصل الى الحمام ، وهناك ، وأمام صنبور المياه الذي يتدفق منه الماء البارد ، يرفع رأسه فتنطبع في المرآة صورته ، وجهه المنتفخ وعينيه المقفلتين من أثر النوم المفزع ، وشعره الأشعث من جراء التدحرج على المخدع وعلى خديه تتناثر في غير انتظام شعيرات نابته ... ، ولكن دائماً تتبدد أمام الماء والمشط بشاعة الصورة ، الا صورته هو ، تنجلي أثار النوم منها وتبقى آثار اليأس والأحباط لا تفارقها ابدا .
( لا وقت للفطور ، سوف أقتات شيئاً في طريقي الى العمل ) ، يمد سبابته على مصباح الغرفه ويضغط بقوه ، وعندئذ ينطلق من أسفل لحاف يعج بالدفء والنوم والكسل صوت امرأته ، بعضاً من كلمات الضجر وكثيراً من السباب ، تأمره بأن يطفيء المصباح ويظلم الغرفه كي تعاود النوم الذي قطعه حماقته ، فيقرر أن يرتدي ثيابه في الظلام .!!
(آه ... ما أقسى أن تقرر المضي في أداء فعل قد فرض عليك ) - هكذا حدثته نفسه حين انصاع الى رغبات امراته ،
( ولكن ... لابأس ، لم يعد لدي وقت لشجار بالنهار ، الوقت يمر ، لقد فرغت من ارتداء ثيابي ، علي أن أغادر الشقه الآن )
يتجه مسرعاً صوب الباب ، يفتحه ويندفع الى الخارج فتتعثر قدماه في صندوق القمامة ، فتنكب على الأرض ، وينكفأ هو من فوقها ، فيعاود القيام ، ثم يواصل اندفاعه على سلمات الدرج الضيق الطويل ، وتعيقه القطط العابثة بصناديق القمامه ، وقد افرغتها على الأرض لتقتات .
( لماذا لا يأت عامل القمامه في وقت مبكر من النهار ، فيرفع الأذى ويزيل العثرات ويخلصنا من تلك الرائحه ؟!! )
تنفرج زاوية الضوء شيئاً فشيئاً ، وينفتح على ضوء الشارع الكلي ، هاهوذا الضوء الذي منعته منه امرأته يداعب عيونه وتلهو في آشعته أهدابه . يتجه صوب يمينه ويترجل تلك المسافه حتى الوصول الى (محطة الأوتوبيس ) .
الشارع يكتظ بالمارة والبائعين الجوالين ، رؤوس هشه فوق أجساد هزيلة تطل من نوافذ حافلة النقل العام ( الأوتوبيس) ، لا مكان لموضع قدم بداخله ، ولكن لامفر ( لقد تأخرت كثيراً ولا يمكنني الأنتظار أكثر، سوف أضع احدى قدماي على أول سلمة وأقبض بكلتى يدي على أحد جانبي الباب الخلفي ، الحافلة تسير ولا تتوقف في المكان المخصص لها ، لا سبيل اذاً غير القفز ، سأقفز قابضاً بقوه على الباب ...، الحمد لله ... لقد نجحت )
( آه ...ماأطول الطريق ، يدي تؤلمني وقدماي كذلك ، رائحة العرق الدافيء تنبعث من حولي وقد أجهدتني محاولات الخلاص منها مثلما أجهدتني تجارب الدخول الى موضع آمن بالداخل ، ولكن لا بأس ، ففي الداخل مقبرة بشرية حية ، ومرتع لمضايقات عده ) هنا فقط يحلو الخطر ، ويبدو السلم وكأنه الموقع الاستراتيجي الوحيد بالاوتوبيس - تحدثه نفسه انه عما قليل ستنفرج الأزمة - .
يتوقف الاوتوبيس فجأة ، فيندفع الناس اندفاعاً شديداً ويجد نفسه وقد أنفلتت يداه وأنزلقت قدماه الثابته فيسقط اسفل اطارات الحافله العملاقه فيعاود الوقوف من جديد .
تلك المره سوف يواصل المسير على قدميه حتى الوصول الى مقر عمله ، لا يدري لماذا شعر فجأة بالمهانة تلك المره بالذات ؟! ، فكثيراً ما يسقط من على درجات السلم ، حدثته نفسه بأشياء من الماضي وهو ينظر الى الحاضر المؤلم ويتألم ، بكى ،،، وبلل الدمع المسام .
لا شيء في الشارع يحنو على الآخر ، لا شيء يطمئنه على نفسه في حاضره ومستقبله ، لا رحمة ، لا صدق ، لا عدل ، الكذب يهب من الصحف ويسيل مع لعاب الأفاقين ، الشحاذون يتكففون الماره والفقراء يتعففون ، والأغنياء يشمئزون من هؤلاء وهؤلاء ، المقاهي ملأى بالعاطلين ، السيارات لا تكف عن الصراخ والناس وكأن أصابهم الصمم فهم لا يسمعون ، فتلك سيارة يقودها طاعن في السن يرى نافذتها بالكاد ويداه لا تفارق آلة التنبيه ( آلة الأزعاج) وشاب أرعن يقودها بكامل عنفوانه ، لا يعنيه عابر بالطريق ولا يردعه مخالفة القانون ، وأمرأة تبدو وكأنها أول تجربة لها في القيادة فهي لا تهتم باستخدام الكابح ولا تنتبه لمرور الناس والسيارات من حولها ، وهذا شرطي المرور ، المشهد كان أقوى من أن يدركه بأكمله ، وكلى الماره وقائدي المركبات يغفلون عنه ويتجاوزون أوامره والتي غالباً ماتصدر منه على استحياء وخوف ، وهكذا تفقد السلطة هيبتها .... وبالتدريج !!
الدكاكين تنبعج ببضاعتها خارج بواباتها ، تماماً كأمرأة في اخريات الحمل ، يتراجع لها المساكين السائرين على الأقدام فوق الرصيف وتتدافع خطواتهم المتعثرة أسفله ، بقايا ملصقات على جدران ابنية رمادية قديمة لدعايا انتخابيه مرت عليها سنوات عده، تداخل مهين بين صوت لمطرب شعبي يتغنى بكلمات رخيصة على أنغام موسيقى صاخبة مثيرة للأعصاب ودافعة للاْشمئزاز وصوت الشيخ مصطفى اسماعيل ينبعث من احدى دكاكين بيع الشرئط والكتب الدينية ينشد القرآن بصوت عذب .
كان الشارع في الصباح يشبه كثيراً حالة الفوضى التي يراها في بيته وفي عمله وفي نفسه ، وعلى طول الطريق وحتى الوصول الى البناية التي بها مقر عمله كان يتأمل مايجري بعينيه وأذنيه بينما راح قلبه يتمتم بدعاء الخلاص وكلمات الأمل في يوم بدا كسابقه ولكنه مازال يأمل أن يكون أشرق .
(2)
يقترب تدريجياً نحو مقر عمله .. يتزاحم الموظفون أمام البوابة الحديدية للشركة ، فيحاول النفاذ من بينهم متجهاً نحو المصعد حيث خليط من عملاء وموظفين وزائرين ، كلُُ ينتظر ويتأهب كي لا تفوته فرصه استخدام المصعد في تلك المرة .
تنفتح أبوابه ويتزاحم الواقفون ، كلُ يدفع بنفسه اندفاعاً داخله ، فيمتلء فوق سعته المقدره للصعود ، ينغلق الباب ويصعد الى أعلى في بطء شديد ، بينما هو لا يزال واقفاً أمام مدخله في الطابق الأرضي ــ فلقد فقد فرصة الدخول فيه ــ يحدث نفسه ( سوف أصعد الدرج ولا سبيل لي غير ذلك ، لا يمكنني الأنتظار حتى يعود المصعد فيمتلء من جديد وتخذلني حيلتي مرة أخرى )
مالبث يفكر في عدد سلمات الدرج وما سيلحق به من ألم خاصة أنه مريض بمرض عضال في قلبه حتى عدل عن فكرته تلك ، وبينما هو على هذا الحال ، اذ بالمصعد يقترب من الوصول الى محطته بالطابق الأرضي ، يشحذ كل طاقته الكامنه بداخله استعداداً للأندفاع ، ينفتح الباب الاوتوماتيكي ويجد نفسه اخيراً ملقى بداخله ، واقفاً كعود ثقاب بين أعواد على وشك الأشتعال .
يقع المكتب في الطابق السابع للمبنى ، ذاك الطابق المزدحم دائماً بالمراجعين وأصحاب الشكاوى والحاجات ، والمكتب لسوء الحظ يقع في الناحية الجنوبيه للمبنى ، فهو مظلم لا تصالحه الشمس ، رطباً لا يعرف الدفء ، أخذ يسير ببطء شديد بينما راحت قدماه تثني احداهما الأخرى عن المسير ، وذاك لعلمه ما سيلاقيه بالداخل ، لا شيء يعدو فوق كماً هائلاً من الأوراق والدفاتر المتهالكة المهترئه ، وقلم جاف أوشك الحبر بداخله على النفاذ ومالايقل عن عشرة وجوه عابسه لا يلتفتون اليه ولا يعبئون ، ورئيس له في العمل ــ مغرورق في الجهالة ــ لا يعي من أمر دنياه سوى البحث عن أخبار مباريات كرة القدم في الصحف القومية والرياضيه ومجالسة موظفات الشركة اللاواتي يظنهن حسناوات ، ثم مضايقه مرؤسيه وتكليفهم بالمستحيل أداءه دائماً ، وهو شكل من أشكال الاستبداد التي طالما مارسها العربي الكبير تجاه العربي الصغير في بلادنا تلك التي تنازعتها أنظمة الأستبداد والطغيان على مر الزمان .
يفتح الباب في تثاقل وهو يلقي بتحية الصباح على زملاءه بالغرفه
ـــ السلام عليكم
ـــ وعليكم السلام
ولا يزيد فوق ذلك بكلمة ، ولا يزيدون .
ثم لا يلبث أن ينكفأ فوق مكتبه المثقل بالدفاتر والأوراق الصفراء الخشنه ، يحاول في جهد يائس أن يمحو كل ذرات التراب الدقيقة التي علتها وتخللتها وأستقرت بين طياتها ، هنالك يقترب منه ساعي المكتب حاملأ اليه كوباً من الشاي الغامق الذي تعكر لونه بفعل الملعقة الصغيرة القذره الحامله لأصباغ اللبن الأبيض وقد أنسكب قليل منه وسال على الجدار الخارجي للكوب مكوناً طبقة لاصقة مثيرة للأشمئزاز ، يرشف رشفة منه وهو يطالع أوراقه ودفاتره .
كان يومه طويل ، ثقيل ، لا شي فيه يدفع الى الأجتهاد أو يحفز على العمل ، كان يعلم أنه لا طائل وراء مايؤديه كل يوم ، فانه اذا تغيب عن العمل لكسل او لمرض او حتى بسبب الموت ، فأنه سوف يوكل ما خلفه من مهام الى زميل آخر سوف يتكلف مؤونة ازاحة الأتربه الدقيقة من فوق أوراقه التي تجمعت عليها أثناء غيابه أو مرضه أوفي تلك الحظات التي كان يوارى فيها جسده الثرى .
كان يؤثر قراءة الصحف اليومية جميعها كل صباح باهتمام شديد رغم تشابهها وتكرار أخبارها وكأنه يبحث فيما بين سطورها على كلمة الخلاص ومفتاح الفرج ، بيد أن الصحافة كانت دائماً ما تخدله هي الأخرى وتحمل اليه ما يسؤه
لم تشأ عناوين الأخبار في صبيحة ذلك اليوم أن تحمل اليه خبراً واحداً سعيداً ، بدءً من الصفحة الأولى وحتى الأخيره ، وكأنها تتآمر ضده مع القطط العابثة بصناديق القمامة وسلم الأوتوبيس وأصوات آلات الأزعاج للسيارات وزملاءه الحاقدين ودفاتره المتربه الخشنه ، فهاك خبرٌ عن أنتشار فيروس خطير راح ضحيته العشرات من فقراء الوطن وآخر عن مسؤول كبير بالدوله أستغل مناصبه المتعدده في زيادة أرصدته بالبنوك بل ولم يكتف بذلك فراح يطلب الرشوة من كل من له حاجة لديه ، وخبر تصدر الصفحات الأولى من الصحف يحكي عن تمكن أحد المتهمين في قضية فساد كبرى من الأنفلات من قبضه ( المنع من السفر) واجتيازه حدود البلاد حيث انتهى به المستقر النهائي والسعيد في منزله بالريف الأنجليزي .، وخبر آخر أتت به صفحة الرياضه عن هزيمة الفريق القومي المصري لكرة القدم في أهم مبارياته الموهلة الى تصفيات كأس العالم مما بدا أثره مفزعاً على وجوه زملاءه وبالأخص رئيسه .
أما صفحة الوفيات ، فلم تشأ هي الأخرى أن تتركه وشأنه يعالج همومه وأحزانه ، بل فاجأته وأزعجته وكأنها توميء له برأسها مفصحة له عن حقد دفين وترصد بالأحزان ، ففي أعلى الصفحة ومن الجهة اليمنى برواز أسود عريض حمل اليه بداخله خبر وفاة صديق قديم له ، تقاسما سوياً في أيام الصبى ومطلع الشباب أحلامهما وآمالهما العريضه ، ثم تفرقا وقد صحبت الأيام صديقه في حلمها المخملي الناعم ، بينما قذفت به هو فوق اِشواك أرض جدباء في يوم عاصف طويل لم ينقض حتى الساعه .
طوى الصحيفة والقى بها في اسفل ادراج المكتب بينما علت وجه كآبة استجمعت فيها كل آلامه اليومية وانهزاماته المتتالية وطفق يحدث نفسه في صوت خافت لم يسمعه سواه ( انا لله وانا اليه راجعون ، مات الرجل ، كنت أود لقاءه ولا ادري مالذي منعني ، ماذا لو كنت فاجأته بزيارة خاطفه بعد طول انقطاع ، ماكان ينبغي لنا أن نتباعد الى هذا الحد ، كيف يتأتى لي استرجاع ذكرياتنا بمفردي ، دونه ، أعلم انني كنت اخشى ثرائه ونعومة حياته ، اخاف عليها واخاف مني ، وأشفق على طموحي الذي ذهب هباءً ،وأحلامي التي تلاشت في الهواء، كنت اخشى منه جفاء اللقاء و وأتحسب من شقاء التواصل ، الآن فقدته الى الأبد ، فقدته كله ، الوجه الصبوح ، خفة الظل ، نقطة الأنطلاق المشتركة بيننا ، فقدته دون أن اخبره كم كنت اشتاق لرؤياه ولحديث الذكريات .)
ثم مد سبابته أسفل عينيه ومسح بظهرها دمعة فاجأته ، شعر بعدها بقسط ضئيل من الراحه والسكينه وأيقن أن بأمكانه أن يتابع يومه
أنقضت ساعات العمل الروتيني السخيف ، فنهض من مكانه ، وسار منكسر القامه مطأطأ الهامه في الردهة الطويلة الشبه مظلمه المنتهية بالمصعد البطيء المكتظ باللحم البشري والأنفاس المختلطه ، أنتظر طويلاً ، ولا شيء أتى أو راح ، فقد كان المصعد معطلاً في احدى طوابق المبنى السفليه ، فقرر أن يترجل الدرج وصولاً الى بوابة الخروج .
(3)
الشارع مرة اخرى، صديق ممل حديثه ، سئيمة صحبته ، متناقض في ذاته ، ورغم ما فيه من بواعث للألم فيه من صدق الواقع ، فانك اذا سرت فيه كفاك حديث الناس وقراءة الكتب ومشاهده التلفاز ، فهو يعبر بصورة صريحة عما آلت اليه أوضاع الناس وما انتهت اليه أفكارهم ، ويعبر كذلك عن سطوة الدولة في الوقت الذي تتجلى فيه وبوضوح انسحابها منه في مشهد بالغ في التعقيد ، مشاهد تضحكك ومشاهد تبكيك ، نسمات عذبة تحمل اليك عطر الياسمين ورائحة كريهة تحملها اليك بالوعات الصرف الصحي المهملة ، سيارت فارهة وأخرى قديمة بالية ، رجال تعلو وجوههم البهجه وآخرون تملكهم اليأس وأطاحت بنضرة وجوههم الكأبة
مضى سائراً على قدميه يتأمل آلام الناس وأوجاعهم ويرسي لأحوالهم القاسية ، وفجأة تذكر أن عليه أن يتأهب لأستقبال نفس جديدة سوف تحل عليه بعد أيام قلائل ، فلسوف تضع زوجته مولودها الجديد عما قريب ، وأن عليه أن يتحمل أوجاعه وأوجاعها مثلما ذاب دون وعي في آلام الناس وأوجاعهم ، وأوشك اللاشعور لديه – البالغ في الدقه والحساسية- أن يتحكم في وقائع حياته وتفاصيلها ، حدث نفسه ( ماالضير فيما ألاقيه من آلآم او شقاء ، أن العالم كله من حولي يتألم ، نحن لم نخلق للرفاهيه أو التمتع بلذات الدنيا ثم نقضى، أن الألم مصير كوني وسنة الحياة ، ارادة الله التي تعلو فوق كل ارادة بشريه ، نعم ، اني أرى تلك المرأه البدينة تحمل طفلها بين ذراعيها وتتكأ على قدم واحده بينما تجرالأخرى المجهده من شقاء المسير ، العرق يتصبب من جبينها وعادم السيارات يسري مع أنفاسها ويصيبها بالصداع ،العالم من حولها لا يعبأ بها وخشونه الحياه تجرح ما تبقى من أنوثتها المتناهيه في الخفاء، أراها و قد بدا الفقر جلياً في رقعات الثوب المهترأ البالي ، وشبح الأعياء الذي أنقض عليها وتملك حتى أطرافها ، بيد أن ثمة أبتسامه عذبه يرسمها الحنين على وجه صغيرها قد تمحو معها آلام الأيام وتباريح الشجن .
وذاك صاحب الدكان ، تمر عليه الدقائق والساعات دونما عابر يبتاعه شيء من دكانه ، وخزانته فارغه الا من قروش ضئيله ، ولكن الأمل في استكمال الرزق يثنيه عن اليأس ، والرضى بالواقع يدفع عنه وساوس الشيطان .
وذاك ( سائق الأوتوبيس ) و رغم ما يلاقيه من معاناة في ساعة الظهيره و ازدحام الشارع وحرارة الطقس وضيق ذات اليد الا ان شيئاً من التفائل يتوارى خلف صبره ، وحلم بالعوده الى احضان أطفاله في آخر الليل يذيب فيح لهيب اليوم الطويل .
تلك هي الدنيا ، خيط من الألم وخيط من الأمل ، لحظه من سعاده ولمحة من كآبه ، صبح يفضي الي ليل ، وليلُ ينجلي بصباح . انه الصبر وليس سوى الصبر زاد ، أشعر انه عما قليل سوف تنفرج الأزمه ! )
ثمة أمل جديد اذاً سوف يطرأ على حياته ، شعاع من الأمل الرفيع بدا ممتد امامه اينما ولى، انه المولود الثاني ، ورغم ما يتطلبه هذا المولود من دعم قد يثقل كاهل ابوه فوق اثقاله الأخرى ، الا انه - وعلى اية حال- حدث يمثل بهجه ذات مذاق خاص .
غير مساره متجهاً الى احدى الدكاكين المتخصصه في بيع ملابس الأطفال حديثي الولاده ، وأخذ يتجول بين أروقتها الضيقه يختار ما يصلح للمولود الجديد ، عاد الى بيته محملاً بقدر لا بأس به من احتياجات الطفل الجديد ، وأخذ يختار لها موضعاً في خزانة الملابس . كان يفكر ملياً آنذاك كيف يمكنه التخلص من جملة آلامه من الآن فصاعداً ، بدت له حياته كلها وكأنها الشهر التاسع قبل الولاده كان يقترب اكثر وأكثر من الأقتناع بأنه ( عما قليل ستنفرج الأزمه ) .
أستبدل بملابسه حلة النوم ، واستلقى على ظهره فوق سريره ، ولأول مره كان غير عابيء بما سيلاقيه في نومه من أشباح تطارده لا يعرف لها مصدراً وتلك الأصوات المخيفه التي يسمعها كل ليله .
.استسلم جسده المتعب للذه الراحه ، بينما أخذت بقعة الضوء تزداد أتساعاً وخيط الأمل يمتد اليه من الفراغ البعيد ، ترائت له الأشباح من جديد كخيوط سوداء تتلاشي في وهج الضوء المبهج، لم تك تلك الأشباح وذاك الهزيع الذي كان يسمعه كل ليله الا نذير الموت يأتي اليه كل يوم ، أخذت أنفاسه المجهده تخفت قليلاً قليلاً و تتلاشى تدريجياً حتى أنحبست ، وأنفتحت له وقتذاك طاقه النوركاملة لتملأ أركان بصره . فلقد أنطوت صفحة الألم من حياته وأنقضت معها حياته كلها ، في احدى أيام الشهر التاسع ـــ قبل الولاده .