عبد القادر وساط - ابن علي يخطب في شعراء نجْدان

أخبرنا أبوالقاسم هبة الله بن علي، عن الصاحب بن هلال، عن الصابي، عن مالك بن عمارة اللخمي، قال:
كنتُ في نجدان حين أمرَ الطاغية ابنُ علي أن يُجمع له الشعراء من مختلف الأصقاع ، في ساحة الكتيبة، فجمعَ منهم المقدمون و الشيوخُ خلقاً كثيراً، ولبثوا ساعات ينتظرون تحت حر الشمس، وذلك في يوم قائظ من أيام الصيف.
إثر ذلك جاء الطاغية، وحوله الحراس الأشداء، فوقف تحت مظلة عريضة، خلف جهاز يقال له الميكروفون، كان قد بعثه إليه عظيم الروم، ثم خطبَ في جموع الشعراء الواقفين وقال:
يا شعراء نجدان، اعلموا أني رأيت البارحة في منامي شيخَنا هشام بن معاوية النحوي الضرير، تلميذ الكسائي الكوفي، وصاحب كتاب ( الحدود). رأيته - رحمه الله - كعهدي به في الأيام الخوالي، وهو يسألني:
- يابن علي، من القائل:
ردَّ الخليطُ الجمالَ فانصرفوا = ماذا عليهمْ لوْ أنهمْ وقفوا
فأجبته:
- هو قيس بن الخطيم، يا شيخنا الجليل.
فعاد يسألني:
- فعلى أي بحر هذا البيت؟
قلت:
- على المنسرح
قال:
- فانظر معي، رعاك الله. أليس في المنسرح ليونة؟ أليس فيه رقة؟ فما بال شعراء نجدان لا ينظمون أشعارهم على هذا البحر؟ هل أعرضوا عنه يا ترى لصعوبته، أم لأن وزنه يبدو مضطربا بعض الاضطراب، أم لأنه قريب من النثر؟ ثم أخبرني يا بن علي، مالي أراك لا تفعل شيئا لتحثهم على العودة إليه؟ أم تريد أن يقول الناس عنك إن بحر المنسرح قد اندثر واختفى في عهدك أنتَ بالذات؟
ولم يكد شيخنا الضرير ينهي حديثه حتى اختفى مثلما ظهر، فأفقتُ من نومي وأنا مبلبل الفكر، أتساءل عن معنى هذا الحلم الغريب. فيا شعراء نجدان، اتقوا الله في شيخنا الضرير وفيّ وفي أنفسكم، وبادروا إلى إحياء هذا البحر، انطلاقا من يومكم هذا، بل من ساعتكم هذه .فقد أصدرتُ أوامري بأن تنظموا كل قصائدكم على المنسرح، ( مستفعلاتن مستفعلن فاعلن ) أو ( مستفعلن مفعولات مستفعلن ). وأدخلوا زحاف الخبن وزحاف الطي على مستفعلن، كما يحلو لكم، ثم احملوا قصائدكم تلك إلى أقرب قيادة أو مقاطعة، من أجل تصحيح الإمضاء، وقوموا بتسليم تلك القصائد الموقّعة للمقدمين والشيوخ، الذين سيتولون إرسالها إليّ في أقرب الأوقات. وليكن في علمكم أني قد حرمتُ عليكم باقي بحور الخليل، بمرسوم، وذلك انطلاقا من ساعتنا هاته وحتى إشعار آخر. فإن أنتم وجدتم بعض العنت في النظم على المنسرح، فعودوا إلى قصائد القدماء على هذا البحر، واحفظوها عن ظهر قلب. عودوا - رعاكم الله - إلى قصيدة العَرْجي، التي يقول فيها
و قولها و الركاب سائرةٌ = تتركني هكذا وتنطلق
وقصيدة الجميح التي مطلعها
سائلْ مَعَدّاً منِ الفوارسُ لا = أوفوا بجيرانهم ولا غنموا
ولا تنسوا فائية قيس بن الخطيم، التي حدثني عنها شيخنا الضرير في المنام ، فهي من عيون الشعر العربي. ومطلعها، كما تقدم:
ردَّ الخليطُ الجمالَ فانصرفوا = ماذا عليهمْ لوْ أنهمْ وقفوا
وإياكم ومخالفة أوامري فإني، كما علمتم، مِسْعَرُ حَرْب إذا هممْتُ ألقيتُ عزمي بين عينَيّ ونكَّبْتُ عن ذكْر العواقب. وإني لا أستشير في رأيي غيرَ نفسي ولا أميل للحلم في ساعة الغضب، ولا أجنح للرفق في أوان الحزم، بل أعُدُّ العقابَ تأدية لحق الله تعالى. فلا تحسبوا أني سأرحمكم إذا أنتم نظمتم أشعاركم على الطويل أو الكامل أو الوافر أو السريع أو البسيط أو الرجز أو غير ذلك من البحور. وقد بلغكم دون شك كيف نكلتُ بزميلكم ( سجين الرجز )، حين خالفني الرأي وخرج عن طاعتي، فاعتبروا به إذا رغبتم في النجاة من غضبي، فإن لي عليكم السمع والطاعة فيما أحببتُ، والسلام عليكم ورحمة الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى