مع اندلاق الومضات الاولى لفجر كانوني يرسل لسعات برد تنبئ بنهار بارد توجست خفية وأنا اترك دفء الفراش لئلا يبخر الزمن ،وأغادر بسرعة جنونية وصوت أمي يلاحقني بأن اتناول فطوري ، اليوم هو غير الايام وعليّ أن اثبت جدارتي في أول تحقيق صحفي اكتبه ، وقد اخترت ( مسطر) عمال البناء وما فيه من مكابدة والبحث عن العمل وانتظار المجهول ، فشغيلة البناء يخرجون مع الفجر وهم غير موقنين بأن هذا اليوم هو يوم رزق ،ام هو يوم خالي الوفاض ، انها مغامرة كل صباح ،ونظراتهم لا تفارق وجوه المارة وحين يمر احدهم بملابس انيقة ينهض الجميع ويتحلقون حوله وكل ينادي ويستدل على حرفيته :
- حفر... بناء ... تفليش... صبغ ... خباطة .
تحسست القلم في جيبي ، وأمسكت الكاميرا وأنا انفخ الهواء في كفي من شدة البرد القارس . كانت الشمس بجمالها الصباحي تغطي جدارية فائق حسن وكأنها ثريا مضيئة ، وعلى اليسار وعبر الشارع يتجمع شغيلة البناء ، وما ان اقتربت من هذا ( الصيد الصحفي ) حتى وجدتني وقد ضعت بين مجموعة احاطت بي من كل حدب وصوب ، بعضهم حاول لفت انتباهي بمسك كتفي ،وآخرون امسكوا يدي ،وكل منهم يشرح لي عمله ،ويسائلني عن بغيتي ،وماذا أريد ،وازاء هذا الحشد ثقل لساني ،واصابني عجز لفظي وانا ادرك ان هذا السلوك التهالكي يؤشر عوزا حقيقيا لشباب يقدسون العمل ولايفكرون باية وسيلة قذرة اخرى تؤمّن العيش ، انهم رجال الفجر يحملون نقاءه وهو يهزم دنانير الظلام الشتائي المطبق.
في ظل جدار ليس ببعيد كان يجلس بهدوء وكأنه متعبد او زاهد بهذا المشهد الذي ربما اجترحته حواسه، سحق سيكارته على مقربة منه وبحركة لا ارادية تحسس علبة السكائر اطمئنانا على الخزين الدخاني ، بعد ان تخلصت من المجموعة وانا اردد بسرعة بانني لااحتاج الى عمال فليس لدي بناء او ترميم فانا صحفي اريد ان اكتب تحقيقا عن معاناتكم وعوالمكم السرية وطقوسكم، وانتم تعانقون الفجر وتحملون اجسادكم المتعبة طمعا برزق جديد وقد يأتي او لاياتي . ابتسم بعضهم بتهكم :
- تحقيق صحفي ، اللهّم ابعدنا عن كل تحقيق !
ما اصعب مهنة الانتظار ، انثالت في ذهني الكثير من الاحاسيس وانا اقارن بين هذه المهنة ومهنة الصيادين ، فهم يرمون بشباكهم وهم لايعرفون هل تعود الشباك محملة بصيد دسم وغال ،ام تعود خاوية على عروشها . شغيلة البناء صيادون من نوع آخر ، صيادون بلا نهر او شواطئ بل انهم متسربلون برائحة الاسمنت والايدي المتشققة من عناء مواد البناء.
تشاغلت بهذه الافكار وانا اتوجه اليه شعرت بان قوة تدفعني باتجاهه فهذا الرجل البعيد عن المجموعة ، لم يبد اي اهتمام ربما يخفي فلسفة شخصية في التعامل مع موقف كهذا.
قلت له : - سآخذ من وقتك فانت اصلح من يجيب على اسئلتي الصحفية .
- وقتنا الحقيقي يبدأ حين نجد فرصة عمل ، ولكن لماذا اخترتني .
- لا ادري احساس خفي دفعني اليك.
- هل الصحافة افقدتك الذاكرة وانستك اصدقاءك القدماء.
شعرت بوخزة جملته الاخيرة وكأنه دلق على وجهي رشقة ماء باردة وبدأت دون شعور ادقق في وجهه ، وانا احرض خلايا رأسي على تذكّره انقاذا للموقف ، وبغتة اندلعت في اعماقي شهقة كبيرة.
ياالهّي انه سمير يعقوب ، يالقسوة الزمن التي حولت هذا الكائن الجمالي والشاب الوسيم الى هذه السحنة المتعبة والوجه الشاحب وهل يعقل ان من يحمل شهادة جامعية وفي اختصاص التاريخ يقف في المسطر ، تطلع في وجهي .
- يا ليث انت تعرف انه لاقيمة للتاريخ في بلد فقد ذاكرته ،وفي كل عشر سنين نعيد المأساة نفسها ، انقلاب عسكري وبيان أول ،وحروب ،وحصارات ،واخيرا احتلال .
بعد هذا النقاش المبكر تعانقنا بحرارة وانثالت في ذهني كل الذكريات التي عشناها معا في باب المعظم وفي كلية الاداب حين كنت اطبّق في مطبعة دار الحكمة التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ،والممر القريب للكلية يخترق المطبعة ، وبما ان سوّقنا كارقام صماء الى الجيش وغمرتنا اجواء الحرب حتى اصابنا الفراق واندثرت معالم الذاكرة .
بدأنا نبتعد عن مجموعة العمال فبادرته بدعوتي له بالفطور الصباحي ، وحين جلسنا في احد المطاعم القريبة تجسد سمير امامي بكل جماله وطيبته وهو يدعونني الى بيتهم بين الحين والاخر ، ولم استطع ان اخفي مشاعري القديمة وكأنني امام قدري من جديد ساقت المصادفة الغريبة ان التقي سميرا بعد يأس مطبق ليثير احزاني وقصة قديمة آليت على نفسي بان انساها وانا اخفي صدى جرح قديم ، وبذكائه المعهود قرأ افكاري بعد ان قلبنا كل صفحات الماضي .
- مازالت سميرة تتذكرك .
- هل تزوجت ؟
- لم توفق بزواجها ،فانت تعرفها وتعرف مزاجها .
- هل لديها اطفال ؟
- كلا .. فان زواجها لم يدم طويلا .
انبعثت في دواخلي ومضات الزهو والمسرة الخفية . هل حقا ساراها من جديد ؟ .. وانا اعرف ان سميرا يحمل من الطيبة والموضوعية وتجاوز العقد الاجتماعية ، فقد فاتحته ابان عهد قديم برغبتي وانا اداري خجلا وحرجا تفهمه الرجل واستوعب براءتي ، ولكنني اليوم ساعيد عليه قراري الذي عطلته الايام الجائرة التي احاطتنا وحولتنا الى كائنات عديمة لاتدري ما الذي تخفيه الاقدار.
حسم سمير اللقاء وقد ساعدني في معطيات التحقيق الصحفي واسرار المسطر ، وضحك من اعماقه على هذه المصادفةالغرائبية التي جمعتنا بعد ان تحولنا الى اشلاء ضائعة . نهض وقال لي : سنلتقي بعد غد في هذا المكان واذا لم تجدني فمعنى ذلك ان الرزق قد جاءني وانا ارجح بقائي قرب الجدار ادخن مابقي من عمري على شكل سكائر تتساقط بين اصابعي .
عانقته وانا اودعه لاكمل التحقيق وتسليمه الى الجريدة .وحين وصلت باحة الجريدة اتجهت الى مدير التحرير وسلمته التحقيق ، اومأ لي بان اتركه امامه ، وذهبت لاستخراج الصور ولم استطع التخلص من صورة سمير ، وامه الطيبة ، واخته الروح العنيدة ،والكبرياء المتخم ، ولم اخف لهفتي وانا انتظر بعد غد فهو لايخرج الى المسطر بشكل يومي ، وقد راق له ان نلتقي ، ثم ترتيب لقاءاتنا لكي نتواصل هذه المرة من جديد دون انقطاع .
استيقظت صباحا وجفوني مثقلة بالافكار والذكريات والصور ، ولم انتبه مع هذا الغبش الصباحي الا على صوت السائق وهو ينادي : باب الشرقي ... باب الشرقي ركضت بسرعة واتخذت مكاني وروحي تسير عكس اتجاه السير ، واكاد انفض الغبار عن السنين والوجوه الخوالي ، وجها لوجه مع جدارية فائق حسن مرة اخرى ، شعرت بهاجس يمتد مثل اكف وحشية ، فعلى الجانب الاخر يسود صمت جنائزي ولمحت لافتة سوداء تنعى مجزرة الامس حين انفجرت سيارة مفخخة وسط عمال البناء ، وعلى رغم هذه الفجيعة فان مجموعة من العمال تقف بحثا عن لقمة عيش جديدة اقتربت من احدهم وسالته عن سمير بقلق وخوف . فجأة استغرق الرجل ببكاء هستيري فادركت ان روح سمير صعدت الى ابدية الخالق وانسحق الحلم من جديد بل تحول كل شيء الى كابوس . لم استطع التوازن ولم اعرف الى اين ساذهب فتركت اقدامي تحملني الى اللاجدوى والمجهول من جديد.
[email protected]
قصة قصيرة من مجموعة( بوح مؤجل )
- حفر... بناء ... تفليش... صبغ ... خباطة .
تحسست القلم في جيبي ، وأمسكت الكاميرا وأنا انفخ الهواء في كفي من شدة البرد القارس . كانت الشمس بجمالها الصباحي تغطي جدارية فائق حسن وكأنها ثريا مضيئة ، وعلى اليسار وعبر الشارع يتجمع شغيلة البناء ، وما ان اقتربت من هذا ( الصيد الصحفي ) حتى وجدتني وقد ضعت بين مجموعة احاطت بي من كل حدب وصوب ، بعضهم حاول لفت انتباهي بمسك كتفي ،وآخرون امسكوا يدي ،وكل منهم يشرح لي عمله ،ويسائلني عن بغيتي ،وماذا أريد ،وازاء هذا الحشد ثقل لساني ،واصابني عجز لفظي وانا ادرك ان هذا السلوك التهالكي يؤشر عوزا حقيقيا لشباب يقدسون العمل ولايفكرون باية وسيلة قذرة اخرى تؤمّن العيش ، انهم رجال الفجر يحملون نقاءه وهو يهزم دنانير الظلام الشتائي المطبق.
في ظل جدار ليس ببعيد كان يجلس بهدوء وكأنه متعبد او زاهد بهذا المشهد الذي ربما اجترحته حواسه، سحق سيكارته على مقربة منه وبحركة لا ارادية تحسس علبة السكائر اطمئنانا على الخزين الدخاني ، بعد ان تخلصت من المجموعة وانا اردد بسرعة بانني لااحتاج الى عمال فليس لدي بناء او ترميم فانا صحفي اريد ان اكتب تحقيقا عن معاناتكم وعوالمكم السرية وطقوسكم، وانتم تعانقون الفجر وتحملون اجسادكم المتعبة طمعا برزق جديد وقد يأتي او لاياتي . ابتسم بعضهم بتهكم :
- تحقيق صحفي ، اللهّم ابعدنا عن كل تحقيق !
ما اصعب مهنة الانتظار ، انثالت في ذهني الكثير من الاحاسيس وانا اقارن بين هذه المهنة ومهنة الصيادين ، فهم يرمون بشباكهم وهم لايعرفون هل تعود الشباك محملة بصيد دسم وغال ،ام تعود خاوية على عروشها . شغيلة البناء صيادون من نوع آخر ، صيادون بلا نهر او شواطئ بل انهم متسربلون برائحة الاسمنت والايدي المتشققة من عناء مواد البناء.
تشاغلت بهذه الافكار وانا اتوجه اليه شعرت بان قوة تدفعني باتجاهه فهذا الرجل البعيد عن المجموعة ، لم يبد اي اهتمام ربما يخفي فلسفة شخصية في التعامل مع موقف كهذا.
قلت له : - سآخذ من وقتك فانت اصلح من يجيب على اسئلتي الصحفية .
- وقتنا الحقيقي يبدأ حين نجد فرصة عمل ، ولكن لماذا اخترتني .
- لا ادري احساس خفي دفعني اليك.
- هل الصحافة افقدتك الذاكرة وانستك اصدقاءك القدماء.
شعرت بوخزة جملته الاخيرة وكأنه دلق على وجهي رشقة ماء باردة وبدأت دون شعور ادقق في وجهه ، وانا احرض خلايا رأسي على تذكّره انقاذا للموقف ، وبغتة اندلعت في اعماقي شهقة كبيرة.
ياالهّي انه سمير يعقوب ، يالقسوة الزمن التي حولت هذا الكائن الجمالي والشاب الوسيم الى هذه السحنة المتعبة والوجه الشاحب وهل يعقل ان من يحمل شهادة جامعية وفي اختصاص التاريخ يقف في المسطر ، تطلع في وجهي .
- يا ليث انت تعرف انه لاقيمة للتاريخ في بلد فقد ذاكرته ،وفي كل عشر سنين نعيد المأساة نفسها ، انقلاب عسكري وبيان أول ،وحروب ،وحصارات ،واخيرا احتلال .
بعد هذا النقاش المبكر تعانقنا بحرارة وانثالت في ذهني كل الذكريات التي عشناها معا في باب المعظم وفي كلية الاداب حين كنت اطبّق في مطبعة دار الحكمة التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ،والممر القريب للكلية يخترق المطبعة ، وبما ان سوّقنا كارقام صماء الى الجيش وغمرتنا اجواء الحرب حتى اصابنا الفراق واندثرت معالم الذاكرة .
بدأنا نبتعد عن مجموعة العمال فبادرته بدعوتي له بالفطور الصباحي ، وحين جلسنا في احد المطاعم القريبة تجسد سمير امامي بكل جماله وطيبته وهو يدعونني الى بيتهم بين الحين والاخر ، ولم استطع ان اخفي مشاعري القديمة وكأنني امام قدري من جديد ساقت المصادفة الغريبة ان التقي سميرا بعد يأس مطبق ليثير احزاني وقصة قديمة آليت على نفسي بان انساها وانا اخفي صدى جرح قديم ، وبذكائه المعهود قرأ افكاري بعد ان قلبنا كل صفحات الماضي .
- مازالت سميرة تتذكرك .
- هل تزوجت ؟
- لم توفق بزواجها ،فانت تعرفها وتعرف مزاجها .
- هل لديها اطفال ؟
- كلا .. فان زواجها لم يدم طويلا .
انبعثت في دواخلي ومضات الزهو والمسرة الخفية . هل حقا ساراها من جديد ؟ .. وانا اعرف ان سميرا يحمل من الطيبة والموضوعية وتجاوز العقد الاجتماعية ، فقد فاتحته ابان عهد قديم برغبتي وانا اداري خجلا وحرجا تفهمه الرجل واستوعب براءتي ، ولكنني اليوم ساعيد عليه قراري الذي عطلته الايام الجائرة التي احاطتنا وحولتنا الى كائنات عديمة لاتدري ما الذي تخفيه الاقدار.
حسم سمير اللقاء وقد ساعدني في معطيات التحقيق الصحفي واسرار المسطر ، وضحك من اعماقه على هذه المصادفةالغرائبية التي جمعتنا بعد ان تحولنا الى اشلاء ضائعة . نهض وقال لي : سنلتقي بعد غد في هذا المكان واذا لم تجدني فمعنى ذلك ان الرزق قد جاءني وانا ارجح بقائي قرب الجدار ادخن مابقي من عمري على شكل سكائر تتساقط بين اصابعي .
عانقته وانا اودعه لاكمل التحقيق وتسليمه الى الجريدة .وحين وصلت باحة الجريدة اتجهت الى مدير التحرير وسلمته التحقيق ، اومأ لي بان اتركه امامه ، وذهبت لاستخراج الصور ولم استطع التخلص من صورة سمير ، وامه الطيبة ، واخته الروح العنيدة ،والكبرياء المتخم ، ولم اخف لهفتي وانا انتظر بعد غد فهو لايخرج الى المسطر بشكل يومي ، وقد راق له ان نلتقي ، ثم ترتيب لقاءاتنا لكي نتواصل هذه المرة من جديد دون انقطاع .
استيقظت صباحا وجفوني مثقلة بالافكار والذكريات والصور ، ولم انتبه مع هذا الغبش الصباحي الا على صوت السائق وهو ينادي : باب الشرقي ... باب الشرقي ركضت بسرعة واتخذت مكاني وروحي تسير عكس اتجاه السير ، واكاد انفض الغبار عن السنين والوجوه الخوالي ، وجها لوجه مع جدارية فائق حسن مرة اخرى ، شعرت بهاجس يمتد مثل اكف وحشية ، فعلى الجانب الاخر يسود صمت جنائزي ولمحت لافتة سوداء تنعى مجزرة الامس حين انفجرت سيارة مفخخة وسط عمال البناء ، وعلى رغم هذه الفجيعة فان مجموعة من العمال تقف بحثا عن لقمة عيش جديدة اقتربت من احدهم وسالته عن سمير بقلق وخوف . فجأة استغرق الرجل ببكاء هستيري فادركت ان روح سمير صعدت الى ابدية الخالق وانسحق الحلم من جديد بل تحول كل شيء الى كابوس . لم استطع التوازن ولم اعرف الى اين ساذهب فتركت اقدامي تحملني الى اللاجدوى والمجهول من جديد.
[email protected]
قصة قصيرة من مجموعة( بوح مؤجل )