تكنتُ قد سمِعتُ عن جبل قاف مِن حكايات جدّي، ومرّت السنوات والحكاية لا تبرح ذهني. وطفق الشوق يستبدَّ إلى صعودِ الجبلِ ورؤية قمّته، قال الروّاة إنّه جبلٌ يقعُ في الجهة الشرقية مِن جانب الطورِ، وهو جبل يحيطُ العالمَ ويشملُ الجميعَ بسكونه، ولا تفارِقه الأنوار.
اجتهدُ كثيرون في محاولةٍ للوصول إليه، لكنّ الثابت في الأخبار فشلُ الجميع في الوصول. كان الجبلُ يبعدُ عني آلاف الأميالِ، والرحلة شاقة، والطرق وعرة، فتملّكني اليأسُ مِن الوصولِ. غلبني النومُ فآويتُ إلى فِراشي وانفتحتْ بوابات الحُلْمِ العاجيّة. بدأ حُلمْي بصوت هديلٍ يمامٍ يتناهى إلىّ مِن جهة الشرق. وقفتْ يمامةٌ فوقَ رأسي وهمستْ: لا تيأس... مَن قال لك ابتِئس؟ فما دمتَ تعرفُ مقصدك فامضِ إليه، وضع زادك واخلعْ نعليكَ إذا مررتَ بالوادي المقدّسِ عندَ سفحِ الجبل، وكُن على يقين أن أسراب اليمام سيحمِلونَكِ إلى قمّته. واخلعْ نعلك إذا نسيتَ، حتى ولو أحرقتكَ رمال الصحراء اللاهبة ولدغتكَ عقاربُ الوديان المتأهّبة.
سألتها: ومَنْ أنتم؟ قالت الملكة: نحن يمام الأبد؛ نرحلُ منذ خروجنا مِن البيضة حتى دنوّ الأجلِ ولا نموتُ إلا غرقي في بحرِ النور. كتب الله علينا أنْ نطوفَ في الفضاءِ إلى الأبدِ ولا نحطّ، ونسبحَ في العوالم العُلوية والمدارات النورانية، نروى العطشان ونُرشِدَ التيهان ولو حطَطنا على أرضٍ نموتُ. طُـفْـتُ أجوبُ طرقَ الصحراءِ كالهائم. كانت الشمسُ حارِقةٌ، فحِرتُ كيف أخلعُ نعليّ وأسير على ذلك الجمر، ولكنّ لله الأمر. خلعتُ نعليَّ ووضعتهما تحت إبطيّ، وبقيتُ أسيرُ في الصحراء. وكأن أولّ شأني أنْ لسعتني نار الرمال، تذكّرتُ قولَ ملكة اليمام، فلمحتُ السماء تُمطِرُ مطرًا مِن وردٍ وروح وريحان، فصارتْ نارُها بردًا وسلامًا على كعبيّ.
كنتُ عطشانًا، فانطلقتُ أبحثُ عن بئرٍ وصلتُ البئرَ، ونظرْتُ إلى قاعها فخُـيّلَ لي الماء، بل شَعُـرتُ ببرودة الماء تلفح وجهي الصهيد من الشمس. أهذا ماء أم هو السراب؟ فـَرِحتُ، لكني لم أدرِ ماذا أفعل، فقد ألقيتُ زادي وزوّادي وراءَ ظهري ولمْ أعدْ أمـلـكُ كأسًا ولا إبريقًا، فـمَـدَّدت يدي على قدر ما أستطيع حتى لامستْ أطراف أصابعي شيئًا من الماء، فشعرَت أنَّ الفرج قريب. ثبتُّ جسدي على الأرض حتى ظـنّنتُ أن قدمي راسختين، ثم أدخلَتُ رأسي في فتحة البئر، ومَـددتُ عنقي لتطاول صفحة الماء، فلم أطلها، فزدتُ مِن مَـدِّ عنقي ثم أخرجْتُ لساني حتى يصلَ ولو لقطرة من الماء، لكني أحسست فجأة بلسعة تلهبُ عرقوب قدمي اليمنى، فجذبت رجلي، وحاولت إخراج رأسي لأرى ما جرى. فلما رأتْ ملكة اليمام حالي وأنني حفظتُ العهد ولم ألبسْ نعليّ. دنتْ وتدلّتْ لتلعق جرح كعبي، حتى طابَ واستطاب.
كان قرص الشمس قد استوى على عرشِ السماء، ولم أصل بعد إلى جبل قاف. ووجدتني في وادٍ غير ذي زرعٍ، أحجاره مِن اللؤلؤ المنثور. كنتُ قد ضقتُ ذرعًا بحملِ نعليّ تحت إبطيّ. فرميتُ النعليْن في قعرِ البئرِ، وراقبتُ سقوطهما، فلمْ أرَ شيئًا، وأرهفتُ أذني فلم أسمع شيئًا، هتفَ بي هاتفٌ: هذه بئر معطلّة لا أملَ فيها. فلما رفعتُ بصري، لمحتُ أسرابَ يمامٍ كثيفٍ يحلّـقٌ فوقَ رأسي، وهي تهفهف وترفرف وتدعو وتضرع. ثمّ حملتني فوقَ أجنحتها وألقتْ بي على قمّة الجبل. فلما تدلّيتُ، لمْ أجد أحدًا. عرجتُ في مدارات جبليّة وعِرة، حتى وصلتُ قمّة الجبل. وهناك رأيتُ عـشّ اليمامِ الذي كان يرشِدُني في الطريق، وشاهدتُ ملكة اليمامِ تفرد جناحيها كأنها تريدُ ضمّي وتقول: آنَ للمسافرِ أن يصلَ، وآن للطيرِ أن يعودَ للسربِ.
اجتهدُ كثيرون في محاولةٍ للوصول إليه، لكنّ الثابت في الأخبار فشلُ الجميع في الوصول. كان الجبلُ يبعدُ عني آلاف الأميالِ، والرحلة شاقة، والطرق وعرة، فتملّكني اليأسُ مِن الوصولِ. غلبني النومُ فآويتُ إلى فِراشي وانفتحتْ بوابات الحُلْمِ العاجيّة. بدأ حُلمْي بصوت هديلٍ يمامٍ يتناهى إلىّ مِن جهة الشرق. وقفتْ يمامةٌ فوقَ رأسي وهمستْ: لا تيأس... مَن قال لك ابتِئس؟ فما دمتَ تعرفُ مقصدك فامضِ إليه، وضع زادك واخلعْ نعليكَ إذا مررتَ بالوادي المقدّسِ عندَ سفحِ الجبل، وكُن على يقين أن أسراب اليمام سيحمِلونَكِ إلى قمّته. واخلعْ نعلك إذا نسيتَ، حتى ولو أحرقتكَ رمال الصحراء اللاهبة ولدغتكَ عقاربُ الوديان المتأهّبة.
سألتها: ومَنْ أنتم؟ قالت الملكة: نحن يمام الأبد؛ نرحلُ منذ خروجنا مِن البيضة حتى دنوّ الأجلِ ولا نموتُ إلا غرقي في بحرِ النور. كتب الله علينا أنْ نطوفَ في الفضاءِ إلى الأبدِ ولا نحطّ، ونسبحَ في العوالم العُلوية والمدارات النورانية، نروى العطشان ونُرشِدَ التيهان ولو حطَطنا على أرضٍ نموتُ. طُـفْـتُ أجوبُ طرقَ الصحراءِ كالهائم. كانت الشمسُ حارِقةٌ، فحِرتُ كيف أخلعُ نعليّ وأسير على ذلك الجمر، ولكنّ لله الأمر. خلعتُ نعليَّ ووضعتهما تحت إبطيّ، وبقيتُ أسيرُ في الصحراء. وكأن أولّ شأني أنْ لسعتني نار الرمال، تذكّرتُ قولَ ملكة اليمام، فلمحتُ السماء تُمطِرُ مطرًا مِن وردٍ وروح وريحان، فصارتْ نارُها بردًا وسلامًا على كعبيّ.
كنتُ عطشانًا، فانطلقتُ أبحثُ عن بئرٍ وصلتُ البئرَ، ونظرْتُ إلى قاعها فخُـيّلَ لي الماء، بل شَعُـرتُ ببرودة الماء تلفح وجهي الصهيد من الشمس. أهذا ماء أم هو السراب؟ فـَرِحتُ، لكني لم أدرِ ماذا أفعل، فقد ألقيتُ زادي وزوّادي وراءَ ظهري ولمْ أعدْ أمـلـكُ كأسًا ولا إبريقًا، فـمَـدَّدت يدي على قدر ما أستطيع حتى لامستْ أطراف أصابعي شيئًا من الماء، فشعرَت أنَّ الفرج قريب. ثبتُّ جسدي على الأرض حتى ظـنّنتُ أن قدمي راسختين، ثم أدخلَتُ رأسي في فتحة البئر، ومَـددتُ عنقي لتطاول صفحة الماء، فلم أطلها، فزدتُ مِن مَـدِّ عنقي ثم أخرجْتُ لساني حتى يصلَ ولو لقطرة من الماء، لكني أحسست فجأة بلسعة تلهبُ عرقوب قدمي اليمنى، فجذبت رجلي، وحاولت إخراج رأسي لأرى ما جرى. فلما رأتْ ملكة اليمام حالي وأنني حفظتُ العهد ولم ألبسْ نعليّ. دنتْ وتدلّتْ لتلعق جرح كعبي، حتى طابَ واستطاب.
كان قرص الشمس قد استوى على عرشِ السماء، ولم أصل بعد إلى جبل قاف. ووجدتني في وادٍ غير ذي زرعٍ، أحجاره مِن اللؤلؤ المنثور. كنتُ قد ضقتُ ذرعًا بحملِ نعليّ تحت إبطيّ. فرميتُ النعليْن في قعرِ البئرِ، وراقبتُ سقوطهما، فلمْ أرَ شيئًا، وأرهفتُ أذني فلم أسمع شيئًا، هتفَ بي هاتفٌ: هذه بئر معطلّة لا أملَ فيها. فلما رفعتُ بصري، لمحتُ أسرابَ يمامٍ كثيفٍ يحلّـقٌ فوقَ رأسي، وهي تهفهف وترفرف وتدعو وتضرع. ثمّ حملتني فوقَ أجنحتها وألقتْ بي على قمّة الجبل. فلما تدلّيتُ، لمْ أجد أحدًا. عرجتُ في مدارات جبليّة وعِرة، حتى وصلتُ قمّة الجبل. وهناك رأيتُ عـشّ اليمامِ الذي كان يرشِدُني في الطريق، وشاهدتُ ملكة اليمامِ تفرد جناحيها كأنها تريدُ ضمّي وتقول: آنَ للمسافرِ أن يصلَ، وآن للطيرِ أن يعودَ للسربِ.