19 - 09 - 1949
إلى الأديب اللبناني الصديق سهيل إدريس:
سألتني أن أطالعك برأيي في قصتك اللبنانية الطويلة (سراب)، وتفضلت فبعثت إليَّ بعشرة أعداد من (بيروت المساء) في كل عدد منها فصل من فصول القصة، وهاأنذا أطالعك بهذا الرأي على صفحات (الرسالة) بعد أن فرغت من قراءة فصلك الأخير، ذلك الفصل الرائع الذي هزَّ في عينيَّ قطرات الدموع!
إذا قلت لك إنك قد بلغت غاية التوفيق فثق أنني لا أجاملك، وإذا قلت لك إنني أود أن أشد على يديك مهنئاً فثق مرة أخرى أنني لا أجاملك! وأظنك تعلم حق العلم أنني ما جاملتك قط، أنت بالذات، بل لعلي كنت أقسو عليك أحياناً حتى لا أترك في نفسي قارئ أثراً للشبهات ولا موضعاً للظنون!
ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغت من قراءة قصتك: ترى أي صدى خلفته هذه القصة بين جوانح القراء والأدباء في لبنان؟
أما القراء، فأنا أعلم أنهم يعجبون بك ويعطفون عليك، وأما الأدباء، فلهم معك شأن آخر؛ شأن أبرز سماته الحقد الذي يدفع إلى الظلم، وملء الطريق بالحجارة لتتعثر أقدام الناجحين!
هذا هو الشعور الذي كان يخالجني كلما خطوتَ إلى الأمام خطوة، شعور بعطف القراء وحقد الأدباء. . . هذا الحقد الذي كنت ألمسه كلما ظهرت لك مجموعة قصصية جديدة. لقد كان إخوانك في لبنان يحرصون دائماً على أن يقدموك إلى الناس في كفة تغلب فيها السيئات على الحسنات، بل لعلهم لم يشيروا إلى حسناتك إلا في القليل النادر، ومع ذلك يقال عنهم إنهم حملة الأقلام وأصحاب الميزان! وأشهد أنك كنت تلقى ظالميك دائماً وعلى شفتيك ابتسامة، وعلى قسمات وجهك آيات من الصبر الجميل. . . وتشهد رسائلي إليك أنني كنت ألومك أعنف اللوم على هذا المسلك الذي كان يثيرني منك، ذلك لأن أكثر الناس لا يفهمون ولا يدركون. . . لا يفهمون سر الابتسامة على أنه من أثر الثقة بالنفس، ولا يدركون أن الصبر الجميل مصدره الإيمان بالمستقبل! وكم قلت لك إن بين يديك قلماً يستطيع أن يرد الطعنة طعنات، وأن يدرأ عن صاحبه تلك الحملات الظالمة التي لا تستند إلى شرعة من إنصاف ولا إلى مسكة من ضمير، فلم لا ترفع معول الهدم لتهوى به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!
وتزداد أنت صمتاً وأزداد أنا ثورة، لأنني أريد لك ولكل إنسان ناجح أن يتخذ شعاره من هذه الكلمات التي نطق بها نيتشه: (حطم كل مألوف يعترض طريقك)!
ومع ذلك، فقد مضيت في طريقك لا تكاد تصغي إلى هذا الصوت الثائر الذي يهيب بك أن تلقى العنف بالعنف، ولا إلى تلك الصيحات المنكرة التي كانت تتجاوب من حولك كلما قطعت مرحلة من مراحل الطريق. . . لقد كانت البسمة على شفتيك وليدة الثقة، وكان الصبر بين جنبيك ضريبة الإيمان! وبهذين السلاحين النادرين استطعت أن تبلغ الغاية التي كنت أرجوها لك. . . صدقني إن الدموع التي اضطربت في قلبي قبل أن تندفع إلى عينيَّ، كانت صدى صادقاً لهذا الفصل الرائع الذي ختمت به (سراب)، وكانت - فوق ذلك - انعكاساً مباشراً لتلك الأضواء التي غمرت جوانب نفسي وأنا أراك تجني ثمار الصبر والجهد والأيام المضنية!
لقد كنت آخذ عليك أحياناً ضعف النبض المنبثق من قلب الحياة خفاقاً على صفحات فنك، وكنت آخذ عليك أحياناً أخرى عدم العناية بوضع التصميم الفني الكامل قبل رص اللبنات الأولى في بناء القصة. . . وكأنك كنت تحشد تجاربك كلها وتشحذ أسلحتك كلها لهذه المعركة الفنية التي انتصرت فيها على وخزات النقد، وإذا (سراب) قصة تصور في جلاء مراحل هذه المعركة قبل أن تصور في صدق حياة الجبل في لبنان. . . قصة تروي لقرائها قصة أخرى، خير ما فيها أنك قد رسمت خط الاتجاه التفكيري في صبر وأناة، فبدوت ثابت القدم إلى حد بعيد. . . هذه واحدة، أما الثانية، فهي اكتمال التصميم الفني قبل الشروع في البناء، ومن هنا ظهرت كل طبقة من طبقات القصة وهي في مكانها الذي حددته المقاييس، وتبقى بعد ذلك هذه الإنسانية التي تترجم في صدق عن لغة الشعور، وتلك الواقعية التي تنقل في أمانة عن لغة الحياة!
ولقد كنت أود أن أقدم للقراء تلخيصاً كاملاً لقصتك ولكنني عدت أخيراً فأحجمت. . . أحجمت لأن التلخيص سيظلم (سراب) الطويلة كل الظلم، وأنا لا أحب أن أظلم هذه القصة التي يجب أن تقرأ كاملة. هناك الأفق الذي رحب، وهناك القلب الذي وجب، وهناك رفات الجناح المحلق في سماء جديدة، وكل تلك القيم يجنى عليها التلخيص العابر والعرض السريع!
يا صديقي، حسبك هذه الكلمات رأياً فيك وفي قصتك. . . ويشهد الله أنها كلمات تمليها نزاهة النقد لا عاطفة الصداقة!!
************************
- رسالة الدكتور سهيل إدريس لأنور المعداوي
عزيزي أنور……
قبلات وتحيات وبعد وأحسب أن قد وصلتك رسالتي الأخيرة التي كنت بعثت بها من باريس على أثر مناقشة اطروحتي ونيل الدكتوراه ، وها قد انقضىعلى وصولي إلى وطني أكثر من ثلاثة أسابيع صرفتها كلها في الاستقبالات والزيارات ، وأنت الآن أول من أفرغ له ، وهذا أمر طبيعي ، فأنور المعداوي كان ولا يزال الصديق المجي الحبيب .
ولعله يهمك أن تعرف بعض شأني إثر عودتي . والواقع أن هذه الأشهر الثلاثة من الصيف ستكون بالنسبة لي وقتا للتحفز والاستعداد . وأنا أسعى منذ الآن لتأمين مركزين هامين لي ، أولهما التدريس في الجامعة اللبنانية المنشأة حديثا ، وهذا أمر يكاد يكون ميسورا ، وثانيهما تسلم وظيفة هامة في وزارة الأنباء تؤهلني لها شهادة الصحافة التي نلتها ، وإن لم تكن الكفاءة تؤهل … على أني سأفيد من أشهر الصيف كذلك بكتابة أطروحتي عن القصة العربية ، ولا أقول لترجمتها ففيها بعض نواحي النقص التي ينبغي أن تستكمل . غير أن معظم نشاطي سيكون موجها لهذه المجلة الأدبية التي كنت حدثتك عنها من قبل ، والتي تم الآن القرار في اصدارها . وقد حدثتهما طويلا عنك ، يا أخي أنور ، وعما يمكن أن تؤديه لنا من معونة وعن قيمة كل ما يخطه قلمك في الميدان الأدبي ، وسوف تكون عضوا بارزا من أعضاء هيئة التحرير الدائمة للمجلة ، وستتكون هذه الهيئة من بضعة عشر اسما لأقلام لامعة قوية تنتمي إلى جميع البلاد العربية . وقد سمحت لنفسي أن أتخذ قرار اعتبارك من هذه اللجنة ، لأني أعلم حبك وإخلاصك وتشجيعك الدائم ، وكنت عبرت لي عن رضاك من قبل .
إننا لم نخط بعد أية خطوة في مضمار اصدار هذه المجلة ، ولكم الوسائل كلها متوفرة . ونحن نتأنى في كل شئ لنصدرها مجلة شهرية من أقوى المجلات العربية إن لم تكن أقواها جميعا . وأنا حريص على أن أوافيك بأنبائها يوما بعد يوم لأني طامع بنصائحك وملاحظاتك.
أكتفي الآن بهذا القدر على أن أكتب لك عما قليل ، وأرجو أن أسمع أخبارك دائما ، فإلى اللقاء القريب أيها الصديق الحبيب .
سهيل إدريس
بيروت لبنان – صندوق بريد :1085 – تليفون : 0063
إلى الأديب اللبناني الصديق سهيل إدريس:
سألتني أن أطالعك برأيي في قصتك اللبنانية الطويلة (سراب)، وتفضلت فبعثت إليَّ بعشرة أعداد من (بيروت المساء) في كل عدد منها فصل من فصول القصة، وهاأنذا أطالعك بهذا الرأي على صفحات (الرسالة) بعد أن فرغت من قراءة فصلك الأخير، ذلك الفصل الرائع الذي هزَّ في عينيَّ قطرات الدموع!
إذا قلت لك إنك قد بلغت غاية التوفيق فثق أنني لا أجاملك، وإذا قلت لك إنني أود أن أشد على يديك مهنئاً فثق مرة أخرى أنني لا أجاملك! وأظنك تعلم حق العلم أنني ما جاملتك قط، أنت بالذات، بل لعلي كنت أقسو عليك أحياناً حتى لا أترك في نفسي قارئ أثراً للشبهات ولا موضعاً للظنون!
ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغت من قراءة قصتك: ترى أي صدى خلفته هذه القصة بين جوانح القراء والأدباء في لبنان؟
أما القراء، فأنا أعلم أنهم يعجبون بك ويعطفون عليك، وأما الأدباء، فلهم معك شأن آخر؛ شأن أبرز سماته الحقد الذي يدفع إلى الظلم، وملء الطريق بالحجارة لتتعثر أقدام الناجحين!
هذا هو الشعور الذي كان يخالجني كلما خطوتَ إلى الأمام خطوة، شعور بعطف القراء وحقد الأدباء. . . هذا الحقد الذي كنت ألمسه كلما ظهرت لك مجموعة قصصية جديدة. لقد كان إخوانك في لبنان يحرصون دائماً على أن يقدموك إلى الناس في كفة تغلب فيها السيئات على الحسنات، بل لعلهم لم يشيروا إلى حسناتك إلا في القليل النادر، ومع ذلك يقال عنهم إنهم حملة الأقلام وأصحاب الميزان! وأشهد أنك كنت تلقى ظالميك دائماً وعلى شفتيك ابتسامة، وعلى قسمات وجهك آيات من الصبر الجميل. . . وتشهد رسائلي إليك أنني كنت ألومك أعنف اللوم على هذا المسلك الذي كان يثيرني منك، ذلك لأن أكثر الناس لا يفهمون ولا يدركون. . . لا يفهمون سر الابتسامة على أنه من أثر الثقة بالنفس، ولا يدركون أن الصبر الجميل مصدره الإيمان بالمستقبل! وكم قلت لك إن بين يديك قلماً يستطيع أن يرد الطعنة طعنات، وأن يدرأ عن صاحبه تلك الحملات الظالمة التي لا تستند إلى شرعة من إنصاف ولا إلى مسكة من ضمير، فلم لا ترفع معول الهدم لتهوى به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!
وتزداد أنت صمتاً وأزداد أنا ثورة، لأنني أريد لك ولكل إنسان ناجح أن يتخذ شعاره من هذه الكلمات التي نطق بها نيتشه: (حطم كل مألوف يعترض طريقك)!
ومع ذلك، فقد مضيت في طريقك لا تكاد تصغي إلى هذا الصوت الثائر الذي يهيب بك أن تلقى العنف بالعنف، ولا إلى تلك الصيحات المنكرة التي كانت تتجاوب من حولك كلما قطعت مرحلة من مراحل الطريق. . . لقد كانت البسمة على شفتيك وليدة الثقة، وكان الصبر بين جنبيك ضريبة الإيمان! وبهذين السلاحين النادرين استطعت أن تبلغ الغاية التي كنت أرجوها لك. . . صدقني إن الدموع التي اضطربت في قلبي قبل أن تندفع إلى عينيَّ، كانت صدى صادقاً لهذا الفصل الرائع الذي ختمت به (سراب)، وكانت - فوق ذلك - انعكاساً مباشراً لتلك الأضواء التي غمرت جوانب نفسي وأنا أراك تجني ثمار الصبر والجهد والأيام المضنية!
لقد كنت آخذ عليك أحياناً ضعف النبض المنبثق من قلب الحياة خفاقاً على صفحات فنك، وكنت آخذ عليك أحياناً أخرى عدم العناية بوضع التصميم الفني الكامل قبل رص اللبنات الأولى في بناء القصة. . . وكأنك كنت تحشد تجاربك كلها وتشحذ أسلحتك كلها لهذه المعركة الفنية التي انتصرت فيها على وخزات النقد، وإذا (سراب) قصة تصور في جلاء مراحل هذه المعركة قبل أن تصور في صدق حياة الجبل في لبنان. . . قصة تروي لقرائها قصة أخرى، خير ما فيها أنك قد رسمت خط الاتجاه التفكيري في صبر وأناة، فبدوت ثابت القدم إلى حد بعيد. . . هذه واحدة، أما الثانية، فهي اكتمال التصميم الفني قبل الشروع في البناء، ومن هنا ظهرت كل طبقة من طبقات القصة وهي في مكانها الذي حددته المقاييس، وتبقى بعد ذلك هذه الإنسانية التي تترجم في صدق عن لغة الشعور، وتلك الواقعية التي تنقل في أمانة عن لغة الحياة!
ولقد كنت أود أن أقدم للقراء تلخيصاً كاملاً لقصتك ولكنني عدت أخيراً فأحجمت. . . أحجمت لأن التلخيص سيظلم (سراب) الطويلة كل الظلم، وأنا لا أحب أن أظلم هذه القصة التي يجب أن تقرأ كاملة. هناك الأفق الذي رحب، وهناك القلب الذي وجب، وهناك رفات الجناح المحلق في سماء جديدة، وكل تلك القيم يجنى عليها التلخيص العابر والعرض السريع!
يا صديقي، حسبك هذه الكلمات رأياً فيك وفي قصتك. . . ويشهد الله أنها كلمات تمليها نزاهة النقد لا عاطفة الصداقة!!
************************
- رسالة الدكتور سهيل إدريس لأنور المعداوي
عزيزي أنور……
قبلات وتحيات وبعد وأحسب أن قد وصلتك رسالتي الأخيرة التي كنت بعثت بها من باريس على أثر مناقشة اطروحتي ونيل الدكتوراه ، وها قد انقضىعلى وصولي إلى وطني أكثر من ثلاثة أسابيع صرفتها كلها في الاستقبالات والزيارات ، وأنت الآن أول من أفرغ له ، وهذا أمر طبيعي ، فأنور المعداوي كان ولا يزال الصديق المجي الحبيب .
ولعله يهمك أن تعرف بعض شأني إثر عودتي . والواقع أن هذه الأشهر الثلاثة من الصيف ستكون بالنسبة لي وقتا للتحفز والاستعداد . وأنا أسعى منذ الآن لتأمين مركزين هامين لي ، أولهما التدريس في الجامعة اللبنانية المنشأة حديثا ، وهذا أمر يكاد يكون ميسورا ، وثانيهما تسلم وظيفة هامة في وزارة الأنباء تؤهلني لها شهادة الصحافة التي نلتها ، وإن لم تكن الكفاءة تؤهل … على أني سأفيد من أشهر الصيف كذلك بكتابة أطروحتي عن القصة العربية ، ولا أقول لترجمتها ففيها بعض نواحي النقص التي ينبغي أن تستكمل . غير أن معظم نشاطي سيكون موجها لهذه المجلة الأدبية التي كنت حدثتك عنها من قبل ، والتي تم الآن القرار في اصدارها . وقد حدثتهما طويلا عنك ، يا أخي أنور ، وعما يمكن أن تؤديه لنا من معونة وعن قيمة كل ما يخطه قلمك في الميدان الأدبي ، وسوف تكون عضوا بارزا من أعضاء هيئة التحرير الدائمة للمجلة ، وستتكون هذه الهيئة من بضعة عشر اسما لأقلام لامعة قوية تنتمي إلى جميع البلاد العربية . وقد سمحت لنفسي أن أتخذ قرار اعتبارك من هذه اللجنة ، لأني أعلم حبك وإخلاصك وتشجيعك الدائم ، وكنت عبرت لي عن رضاك من قبل .
إننا لم نخط بعد أية خطوة في مضمار اصدار هذه المجلة ، ولكم الوسائل كلها متوفرة . ونحن نتأنى في كل شئ لنصدرها مجلة شهرية من أقوى المجلات العربية إن لم تكن أقواها جميعا . وأنا حريص على أن أوافيك بأنبائها يوما بعد يوم لأني طامع بنصائحك وملاحظاتك.
أكتفي الآن بهذا القدر على أن أكتب لك عما قليل ، وأرجو أن أسمع أخبارك دائما ، فإلى اللقاء القريب أيها الصديق الحبيب .
سهيل إدريس
بيروت لبنان – صندوق بريد :1085 – تليفون : 0063