وكان صباحاً بعد صباحات حلمية حاشدة, خلت أنني ألملم فيه ما تناثر من أحلام ومرموزات لم تحط بها حتى فرشاة دالي السيريالية ووهج تفسيرات فرويد بمخيلته المشتعلة الكاشفة لأعمق أسرار النوم ودلالاته وإشاراته لما يبرق في التقاط أبعد الرموز المختفية في اعماق العقل والروح.. لكشفها وتعريتها وفضح ما حاولت أن تستره في يقظة النهارات الواقعية الأليمة.. صارت تلك الأحلام ممتعة لي رغم ما تسببه من صداع وأرق متقطع.. ساعة بما يشبه النوم تتداخل معها ساعات من يقظة حالمة مستنيرة سرعان ما تغرق في احلام جديدة متتابعة قد تبدو كابوسية ولكنها تظل مثيرة ممتعة بلا معقوليات غرائبياتها التي ما دخلت حتى في مصهر ماركيز وفي كل متاهات الروائيين المستقبلية المنفلتة الجامحة ومع كل حالات الجنون الإبداعية.. مشتعلات أحلامي العاقلة أو الجنونية.. لا أدري صارت بهجة لروحي مع معايشتها والاكثر بعد يقظتي رغم محاولاتي العسيرة في لملمتها وتجميع أجزائها المتشظية مع الرغبة العنيدة في ملاحقة الهارب من حركاتها وصورها وملامحها وعندما تجتاحني رغبات أن أستمتع بكل متوحّد مما سامرني من حلم أو أحلام متصلة وقد تبدو متداخلة.. عندها أستعيد محاولة فرزها لأستطيع أن أسمّيها أو أضع لها عنواناً, وما كان هذا الأمر سهلاً مع تداخل الرؤى والأخيلة، وما استطعت يوماً أن أحصل على تسميات دقيقة أو تحديد أزمنتها وأمكنتها.. وكثيراً رغم ما أبذله من جهد عقلي وتفاسير عقلية وحتى من اللامعقول، فتظل تلك الأحلام عارية بلا مسمّيات كاشفة او مستورة وكما يحصل مع العجز الكلي لإيجاد عنوان لقصة أو رواية أو قصيدة وفي الواقع ومع امهر المبدعين..
رأيت كما يقولون فيما يرى النائم.. رأيت وأرى كل ليلة وحتى في اغفاءات النهار القصيرة بعد همّ وتعب، وقد تتواصل هذه الأحلام لسنين قادمة، فكل المؤشرات صارت تعلن لي وتبين أن الأمر سيطول معها وهي قد تبدو أحياناً ثقيلة مرهقة، لكن نفسي بدأت تتقبلها، وربما صار العقل مستوفزاً منتظرا معمياتها ليعمل بعدها على كشف قدراته في تفكيك وتحليل معطياتها واسبابها… ومن هذه الاحلام ما بات كلازمة تتكرر منذ نصف قرن واكثر… قاعة امتحان ولهيب صيف… مدير صارم ومراقبون منتبهون… لعلعة صوت المدير تعقبها اصوات المراقبين الصارمة الخارقة بلا رحمة… نداءات تتكرر معلنة ان وقت الساعات الثلاثة مضى وان نضع الاقلام… تأتي هذه التهديدات في وقت لم اقرر فيه عن اي سؤال ابدأ بالإجابة, عقلي مشلول وروحي مرعوبة وجسدي ينزّ عرقاً.. الاصوات تعلو واصابعي تلفظ القلم ودفتر الاجابة ما يزال ابيض ناصعاً وأنا لم أقررّ بعد السؤال الذي ابدأ به الاجابة ومع تلك اليد السريعة باصابعها كمخالب تلم دفترا مدعوكاً ملوناً بخطوط عرق وليس الدفتر كله غير الاسئلة وعلى الغلاف الاسم والرقم…
أي صحو وأي رعب ودفتر امتحان الرياضيات تلقفه المخلب ممسوحاً من ايّ حلول… ذلك الحلم كنت اخشاه، وظل معانداً معي يتكرر بين سنة وأخرى وحتى بين شهور متقاربة، عند يقظة الرعب وانا ارى سطح منضدتي خالياً من الدفتر المنهوب، اتحسس جسدي كله معرقاً وكانه يتمم ما اساله على وجه الدفتر بعد صيحات التهديد التي خنقت أيّ امل بأن اعطى الفرصة للبدء بالإجابة ولكن أي شيء من ذلك لم يحدث فلا عقلي المضطرب القلق المذعور استطاع ان ينهي تردده في الاختيار، ولا اليد الغاضبة سمحت لو بدقائق اخرى مضافة…
ما كان يخفف من قسوة وخيبة مثل هذا الحلم وقد يحدث ان تابعاً من حلم اخر بفاصل قصير… ارى فيه وجه ابي الجميل بعينيه الزرقاوين يشرق بابتسامة كأنها الربيع… هذا ما اتذكره… تلك الابتسامة الرائعة الحنون هي هي، كان يعانق بها وجهي كلما زرته في ايام مرضه الاخيرة… ما تكلم ابداً… في واقعيات وجوده معي في الحلم السعيد… الابتسامة الدافئة كانت ابدأ هديته لي وقد خفّفت من بشاعة تلك الوجوه الصارمة المهددة لي وكأن الساعات الثلاثة هي القدر المخيف ونهاية الحياة… وذلك الحلم الذي رأيته مرّة واحدة وكم تمنيت لو عاد معي وتكرّر ولكن ذلك لم يحدث رغم جنوني به… مساحة كبيرة من ارض جبلية صخرية قاسية تكاد تكون بحجم مدينة… الارض الجبلية بمرتفعاتها وكل منخفضاتها كانت منحوتة بتماثيل كبيرة هائلة تشحب معها حتى التماثيل الآشورية والفرعونية الضخمة… ورغم ان ذلك المعرض التشكيلي كان محادداً لبحر ازرق مثير بانعكاسات مساقط اضواء الشمس… كل سحر الزرقة لم تحصد شيئاً من ناظري… ادرت له ظهري مذهولاً بما ارى من تكوينات الألف الأشكال لشخوص واقعية وهياكل فانتازية لفنون فطرية وموضوعات تشكيلية مختلفة منحوتة بألف ازميل مما نجد اولاً نجد في ابهى أكاديميات الفنون ومعارض النحت… الضخامة هي سمة هذا المعرض الصخري… وانت تشاهد مثل هذا المعرض الحلمي لن ترتسم لناظريك ملامح أيّ فنان من دنيا الواقع… ربمّا يمرّ خاطفاً وجه هنري مور وتهمش في أذنيك حروف اسمه… ولكن اكبر الحجوم من تماثيل هنري مور لم تكون غير فأرة قميئة أمام هذا المجد الصخري المنبثق من القمم والجدران كبانوراما تتسع لألف معرض من معارض الدنيا… لا تلوين ولا خطوط ولا رسوم… فقط هذه الكتل الجبارة بأحلى التكوينات الانسانية والحيوانية والطبيعية مسلوخة من الصخر الأصم الناطق بكل تعبير دنيوي حيّ ومؤثر ومن معالم ميثولوجية سحرية مذهلة…
احلم… احلم… احلم… هل اقول ان حياتي صارت في سنواتي الاخيرة حلماً متواصلاً ليلاً ولولا قمع النهارات وروح اليقظة لمحت هذه الاحلام فروق ليالٍ ونهارات وبت اخشى على عقلي، وما يطمئنني ان علم النفس يرى فيها مسرباً ومصفاة لهموم الحياة وبكل لظاها وقهرها ولا انسانيتها الموجعة… من هذه الاحلام وما هو عاديّ وطبيعي ومقبول وعقلاني ولكن في غالبيتها. ومع سنين العمر الاخيرة صارت تتخبط وتزدحم بفانتازيات وسحريات لا يقنع او يقبل بها حتى العراة من ادغال افريقيا بأجسادهم المدهونة اللّماعة وبأشراط الآذان واصباغ الوجوه والدمى المعبودة والاقنعة الواقية من سحر الاشرار ومع قرع الطبول والاغاني الصارخة والرقصات العنيفة ارضاءً وخوفاً من معبود يرونه في لب شجرة او غابة او غيمة عابرة او في روح حيوان مخيف او قمة جبل او في بطن ضفدعة او رحم امرأة مسحورة يجب قتلها او في جناحي طائر خرافي.
حتى اولئك المفزوعين العراة لهم قناعاتهم وطرائقهم وردودهم وحذرهم مما قد يلحق بهم من ضرر وأذى وبتقاليد حتى لو كانت اساطير واعتمدوها جيلاً بعد جيل في كيفية التعامل مع سحر الاشرار وابطاله… اما هذه الاحلام وبفوضيتها ولا عقلانيتها فقد اتعبتني… أرأى احد منكم قافلة جمال صحراوية أنهكها وارهقها لفح الهجير تعوم بلذة كبيرة في بحر قطبي مستأنسة… ببرد يجمد العظام؟ هذا ما رأيته… وكنت اتحسس ان ذلك القطيع الكبير ومن ألف ناقة وجمل كانت منفردة بلا راع ولا حادٍ وقد بدا لي انها في متعة تعايشها مع طيور البطريق ولذّة البرد والتحرر من سخونة الرمال المحترقة, صارت راعية نفسها ولم تعد تحتاج او تتذكر حكاية الحادي… ها هي تسبح وتمرح ببهجة البحر والنوارس مكتشفة بعد قرون خديعة عبوديتها واستغلالها المريع من الانسان بحجة تحملها وصبرها على العطش والجوع ومع بؤس طعامها من اشواك الصبير الصحراوي وعفونة الماء المخزون الذي تستهلكه ذاتياً.
مما رأيته وحزنت له… لست عدوانيا فهو الذي بدأ العدوان بسرقة قلمي… ايّة ذكرى وأي سنين وعمر ممدود… هل يصدّق احد؟ حدث ذلك قبل سبعين سنة… كان صديقي وكنت احبّه… في الثاني الابتدائي… متجاوران في الصف… متجاوران في المحلة… شريكان في اللعب… شريكان في صيد الطيور… متعاونان في صنع طائرات الورق, والراديو من الطين، سائران معاً صباحاً للمدرسة مخترقين طرق الشاخات وغابات النخيل المسحورة المخيفة, عائدان معاً، لبيوتنا ونحن في اقسى حالات الجوع وتعب الساعات المدرسية الاربعة, معاً نحفظ الأشعار لنرضي معلمنا، معاً نكون في الاعياد، لا تفرقنا منا غير ساعات النوم.
وفي ليالي السهر الطويلة أظلّ معه ويظلّ معي نقرأ أو نكتب او نترامى بالمخدّات ولكنه سرقني، غافلني وسرق قلمي، أنكر السرقة، المعلم لم ينصفني ورأى اتهامي لصديقي باطلاً… كان المعلم يكتب على السبورة… صديقي لم يكن منتبهاً… اخطأ فأخرج القلم المسروق ليكتب… قلت له هذا قلمي… لم يردّ عليّ… كرّرت طلبي فغضب ورمى القلم من الشباك… غضبي كان اكبر فضربته بمسطرة الحديد على انفه وسال دم ونلت عقاباً… ياه سامر ما نسيت تلك الضربة… تريد ان تثأر… هذا الحلم تكرر أيضاً وبنفس مسطرتي يردّ لي سامر الضربة بعد سبعين عاماً… لست غاضباً الآن بعد أن اخذ سامر بثأره… نقط الدماء تلك هي هي محسوسة ويسيل بها انف سامر ويقولون ان وجود اقل من قطرة دم يلغي أيّ حلم ويفرغه من معانيه… لا ادري عن مصداقية وواقعية مثل هذا القول، ولكنه الدم وأنا اعترف انني ضربته ضربة غاضب وأسلت دمه… وهو لم ينس ذلك انا اقبل بما يفعله او فعله سامر في حلمي… ولكنني اكره منظر الدم واتمنى الا يتكرر ظهور سامر مرّة اخرى، فرغم محبتي وشوقي لذكراه، فأنا اتمنى ان اراه في اية لقطة جميلة من حياتنا بعيداً عن لقطة الانف النازف بالدم… ذلك الدم الذي اصابنا نحن الاثنين بالرعب واحرق يديّ بعصا المعلم في صبيحة ذلك اليوم الرمادي الكئيب المتجمد…
وعي احلامي الفنتازية المجنونة قلب وغير ومسح كل القوانين وشكليات الوجود… فالخفافيش الحائرة بين صنفي الطير والحيوان هي ولودة تعشق الظلمة وتكره النور… لها كهوفها ومخابئها المظلمة وعالمها الليل وهي في حذر أبدي من الانسان… احلامي صيّرتها حلوة بهية مغرّدة في نور الشمس وخضرة الشجر وسطوح الماء… مقابل ذلك أخرس حلم كئيب مزعج كل البلابل ودفع بها لمغاور الكهوف وبيوت الخفافيش وبعد ان غيّرت الدنيا اقدار الاثنين… المقولة التي تسخر من انتفاخ الضفادع ونقيقها بالغت عدسات احلامي في توصيفها… كل ضفدع صار بحجم هرّ والنقيق الذي ما كان يتجاوز غير امتار صار هديراً كالأبواق زاعفة ليل نهار وببطون زادت انتفاخاً ولكن مع وضوح الحلم لم تنفجر اي بطن منها… منظرها كريه ومقزز…
ارى فيما يرى النائم والنائمون أمي كانت طيّبة القلب، حنونة وغالبية صديقاتها من الفقيرات ومن مغدورات الحياة وهي الغنية، كانت تحبّ الالوان الزاهية في ملبسها ولكنني وفي اكثر من حلم كنت اجدها حزينة وسط كومة من النساء يغطيهن السواد… هي ايضاً كانت ملفوفة بالسواد… لا ادري هل كن في مأتم… صمتهن وكآبة وجوههن توحي بمشهد مأتم, وكان الغريب في المشهد انني لم أر باكية او نادبة بينهن ربما كان من أواخر ايام العزاء، أو انه ليس بمشهد مأتم… مجرّد لقاء صامت، ورغم تكرار مثل هذا الحلم فلم أجد تفسيراً لذلك الصمت الحزين… والغريب في حلم الأم انها لم تنتبه لوجودي رغم انني كنت اتمنى ان اسمع ولو كلمة واحدة منها… مرّة واحدة… ومع تكرار الحلم احسست انها لم تكن غافلة عن وجودي وان وجودها مع هذا الجمع هو ما عزلها عنّي… لا ادري سبب موقف الحياء عندها؟ أكانت غير راضية عنّي، ام ان موقفها هو ذلك الصمت وكما كانت في حال الدنيا؟
في الزمن المبكر من وهج الصبا ونشواته، لم ارسم ابداً قلباً مخترقاً بسهم دموي، ولكنني اهديت لها وبجرأة وجنون مع خشية الخيبة… اهديت لها وردة حمراء قانية.. الحلوة المشتهاه… خضراء العينين بجديلة ذهبية واحدة… لم تقل لا… أخذتها ولم تنطق بكلمة… أنا لم أرسم قلباً مجروحاً، وما كنت قد قرأت شيئاً، وما كان هناك أيامئذ تلفاز وحتى مذياع ولم اصادق عاشقاً محترفاً ليعينني بخبراته، ولم تلتقط أذناي وروحي اغنية حبّ، فمن علّمني أن أنبل وأحلى اللغات هي لغة الورد؟ ولماذا الأحمر؟ لا ادري أي بؤس وخسارة وضياع عندما تتكرر أحلام الكوابيس مرّات ولم احظ بذلك الحلم الجميل الّا مرّة واحدة وبعد ستين عاماً من واقعته… احلام القبح البشري والفقر والقتل والحروب والجوع والمهانات تتكرر ألف مرّة… وحلم حمرة دم القلب والزهرة وخضرة العينين يظل مخفياً مقيّداً لتستهتر كبدائل مرفوضة أحلام الشرور كأوبئة وتشوّهات مخيفة مما يدمّر حالات السكون وراحة البشر…
ويمضي قطار العمر سريعاً لاهثاً لا يترك غير أشارات ومخّلفات هزيلة لوجوده… ومع هذا القطار تلهث في روحي أحلام عابثة ساخرة, قطارات بلا سكك ودواليب لتمخر بسرعة وهياج جنوني البحار والمحيطات وبخفّة مركبات فضائية مذهلة… القطارات هجرت سككها وحلالها السباحة وصراع القرش والكواسج والحيتان لتحمي الاسماك الصغيرة، فإن ضجرت هجرت البحر لتسرح مع صقور الجو وطيور الفضاء العالي ملتهمه أعتى الغيوم وأشدّها ظلمة وسواداً ثم لتعود للأرض مطمئنة ان كل سككها الافعوانية قد صارت خردة وقد آن الأوان لها الآن لتستريح من سخام الفحم وأصوات الصافرات الحادّة ونزق المسافرين… ومن حلم ليلة شتائية صرت اتأمل مبهوتاً قطعان خراتيت وضباع وتماسيح وخنازير ومن كل الضواري القاتلة… كانت طائرة بعلو منخفض وبلا أجنحة تطاردها خيول عمياء بلا آذان وأعراف… كانت تبدو هاربة من سموم الآف العقارب والافاعي وهي لا تدري انها قد غزت جلودها وأجسادها والتفّت حول رقابها… غرزت اشواكها وسمومها مما جعلها كتلاً مدمّاة كريهة المنظر والرائحة…
حلم شتائي آخر… الحلم الناري… طوفان من نيران ملتهبة بمزيج من حمرة قانية وسواد، غطى الأفق لأبعد مديات، كانت ناراً وحرائق عارمة، الأنطفاء من طبع أي أيّة نار بعد دقائق او ساعات أو ايام مادام الماء موجوداً، حتى الماء مع حرائق الحلم كان احمرَ عكراً كلما تدفقت فوهاته ازدادت بها النار جنوناً وأتساعاً وشراهة… وبعد كل ذلك البهاء والاشراق في صباحها المضيء، استحالت آفاق المدينة وسماؤها لظلمة حمراء خانقة…
ابشع احلامي الكابوسية الثقيلة المؤذية المنهكة والمعاندة والتي تتكرر مع اختلاف بسيط في التوقيت وجزيئات المنظر… هو مشهد أنتظاري للأعدام… وابداً هو ذلك الضحى الجليدي في طريق مترب محظور… وحيد انتظر… ليس هناك سجن ولا زنزانة ولا تعذيب غير شعوري بقلق انتظاري وعذابي وخواء ايامي ورعبها…
رعب وجودي وقلقي وانتظاري حجب أيّ رعب من الساعة الحاسمة المخيفة التي قد يجيء منها نداء او صرخة شرطي أو حارس، لكنني ظللت وحيداً في عراء برد الطريق وكابته ولم تلتقط أذناي أيّ نداء رغم ان قرار الإعدام كان نهائياً ومحفوراً في عقلي… وحصل في حلم ان شاركني آخر في الانتظار، لكن الأوضح هو أنني كنت وحيداً بشكل آخر… انني وقد اجتاحني في ذلك الطريق المعزول الموحش رعب كاسح لانتظار المجهول… رغم انني لم اواجه فيه محكمة ولا قاضياً ولا محامياً وحتى قضيّة… ربّما يتباهى التحليل النفسي ان ذلك الوجود لم يكن بانتظار إعدام آلي لان الاعدام الحقيقي قد حصل ومرت عليه سنون من محبطات وخيبات الحياة, وما سحقني من رعب المصير ربما كان اقسى من اعدام لن يطول لغير دقائق مسرعة… في النهاية انا كنت حراً مطلقاً في هذا الطريق العاري واحساس بأنني قد أعدم أو سأُعدم ظل قوياً بتأثيره الروحي الخانق…
وحلم آخر… طائرة سوداء بحجم خرافي تنقضّ كباشق على الجسر الحديدي ممذّقة خاصرته لتنثرها مزقاً بقنابلها الذكية… أنا أقدس الذكاء وأباركه فهو هبة الله ولكنني أبداً أربط الذكاء بفعل الخير والبناء والمحبّة فأي ذكاء في فعلة تلك الطائرة الخرقاء وهي تشوّه الجسر الجميل…
وتسألونني أمّر بك حلم موت؟ ذلك لم يكن حلماً بل واقعة حيّة أشبه بحلم ثقيل… كنت في الثالث الابتدائي مهووساً بحب ركوب الخيل, كان مهراً جامحاً بلون القهوة وبطرّة بيضاء… اشتعلت بي رغبة عارمة ان ارّوضه, لكن ما حدث هو انه كان سباقاً لترويضي وبخفة طائر دون أي تأخير… لم تكن غير دقائق سريعة, كنت بعدها مطروحاً على بعد أمتار في كتف طريق رملي مليء بأشواك العاقول الجارحة، هي لم تكن غير ثوانٍ بلا انفاس وحجبت عني نسمات الهواء… لم يطل الأمر، ثم عاودني الوعي بنفس متقطع مخنوق… لم حدث ذلك؟ ربما كنت جاهلاً بمرونة التعامل مع مهر يتمرن على الجري ولم يحتمل نزق صبّي غرّ ألمه وأثاره بوخزات من عصا لحوحه, لم أجد للمهر أثراً وكانت كومة غربان تملأ أرض العاقول… تسألونني عن طعم الموت مُرّاً كان أم حلواً؟ أنا جرّبته… كان طعم موت ليس غير… هل بكم رغبة للتجريب؟ افعلوا فلكل منا موته الخاصّ…
ما كنت أوثر ان اشرككم في كوابيسي فهي من خصوصياتي، لكن الغلبة ستظل أبداً لهذه الرغبة الأزلية في إشراك الآخرين بأوجاع الأحزان وهذه الرغبة الحميمة ما تزال فاعلة بين بني البشر رغم ان امنيات المشاركة والتعاطف قلّما تحصل في الحالات السعيدة بل هي تجنح وتبدو مطلوبة عندما تقسو الحياة بمضطرباتها وأحزانها, الرغبة في امنيات أشتراك الآخرين في أحزانهم… أهي الانانية أم العجز عن مواجهة ما ذكرته ومررت وسحت فيه هو نتف قليلة ونزر يسير قد يلتقط العقل الواعي واللاواعي بعض التفسيرات… هي كانت أحلاماً على كل حال، أما الكوابيس الثقيلة القاسية، فهي مما تخرج بدلالاتها ورمزياتها عن قدرات العقل البشري، ولن يستوعب أو يهضم أو يفكّك رموزها غير أذكى عقلاء المجانين وحتى مجانين العقول، فهي ابداً متمردة على العقول السويّة… عقل مجنون حرّ منفلت ربّما هو فقط من يستطيع أن يجد معاني لرموزها المغلقة المخيفة ومع عسرها يمكن استخلاصه من فم مجنون ومخيلة مجنون… لست أخشى الفضائح والمرعبات فأنا بريء منها، ولكنها الرموز والملامح والاشارات والعلامات ومقاطع من كلمات مبهمة هي ما يجعلني أحتفظ بها مخزونة في عوالم التيه والجنون خشية أن تنحرف التفسيرات كلها وتتجرّأ لتجعل مني بؤرة وعدسة لامّة، ثم تحمّلني أوزار ما أراه، وعندها يكون المفسّر والشارح قد بلغ أعلى مراتب الجنون، فلن تكون النتائج التي يتوصل لها أو ينطق بها حتى لو كان مطمئناً لتخيلاته غير تخبطات وسفاهات لن تكون في صالحي…
بعد حلم واكثر مما يثقل على نفسي وفي صفاء ضوء الصباح كنت اتساءل رغم أنني لا أحظى بإجابة على مثل هذه الاسئلة العقيمة التي طال بها الزمن لماذا تكثر عندنا مثل هذه الاحلام المخيفة والكوابيس وتكاد تبدو نادرة في دنيا بشر آخرين… كل أحلامهم زهر وفرح وما استطاعت أيّة كوابيس حمقاء ان تخلخل طمأنينة نفوسهم وحياتهم في اليقظة والمنام… صرنا ولكثرة ما مرّ بنا من متاهات هذه الاحلام ووعورتها نأنس بها بل وننتظرها كبدائل مما حرمنا منه غياب سينما الخيال العلمي في أشدّ افلامها مخالفة لمنطق الأشياء ليتيه بعيداً في مستقبليات تتجاوز الغرائبيات في عروضها ولأبعد مديات المخيلة العلمية الجامحة وغير المنضبطة… بل صرنا نأنس بها كخوارق مسليّة… ما ألتقط مشاهدها حتى هيتشكوك وطيوره، ما سرد من امثالها القلم البوليسي المثير لأجاثا كريستي، وما طاولها حتى دون كيشوت بكل بطولاته الإنسانية المضحكة ومقارعاته لطواحين الهواء وأوهام صراعاته وتصدّيه لقوى الشر السحرية الظاهرة والخفيّة والتي غالباً ما أنتهت بخيبات وانكسارات وهزائم أوصلته لحالة أن يرى فيه الجميع مهزلة كوميدية جديرة بالإشفاق… أي خواء وأيّ بؤس وهزيمة عندما تستحيل حياة الأنسان لمجرّد كوابيس وتهويمات ليلية قاتمة مظلمة لا منفذ للسعادة والفرح فيها… وهي ليست غير تعويضات بائسة مضطربة لما إجترحته الحياة في بهاء النهارات… أيّة نتيجة وأيّة محصلة خائبة ترسم ما رحل من عمر الانسان لتخلق مشاهد خادعة أقرب ما تكون لحالات الجنون وبعد ان أضاع أو ضيّعت الحياة مسيرة مضطربة متخمة بالأخطار؟ أيّ تيه وأيّة احباطات مدمّرة شوّهت حتى الأحلام بعد أن حرمت أصحابها من صفاء فرح الدنيا؟ هذا ما كان يجب أن يحصل لكن المسيرة الأقوى والأشد جموحاً وطغياناً كانت لمشاعر اللوم والكراهية والغدر والكذب وسحق مشاعر البراءة والطيب… الحياة كانت متيسرة مترفة بهيّة نقيّة مقبولة حتى لو مرّت بأسوأ ظروف القهر والقمع والترويع، ولكنهم لم يقبلوا حتى بهذا الحدّ الادنى من شروط عيش البشر في كل مكان… وهذا ماكان وقد استقر الذي حصل على هذه المخطوءات لتقرير اذعان الآخرين وحرمانهم من متعة الوجود بل والتنغيص عليهم حتى بدهشة وفرح أحلام سعيدة وبسطوة ان الواقع هو هكذا او على هذه البقعة من ارض الله ويقولون لا تحلم فالرؤيا هي الصادقة والاحلام ليست غير كوابيس وأضغاث… صدقوا، لكننا لا نستطيع التحكم في رسم احلامنا… هي هي تجيء كطيف عابر جميل او كوابيس مخيفة مثقلة بالرعب وهي الاغلب اذا اقتنعنا بها كبدائل وتعويضات عما لم نحققه في الحياة وظلّ عجزاً وخيبة وطعماً مُرّاً… ربما هذا صحيح كله أو بعضه، ولكن السؤال يظلّ ملحاً ويقترب أن يكون من التمنيات ليس غير هذه البدائل الكابوسية الكريهة، لم أصبحت هي الغالبة في نوم الليالي ولم يعد للحلم الطبيعي الجميل أمكنة في المخيلة تتحرك بروح من الصفاء والمرح والفرح واللذّة في مشاهده, أهو شذوذ انسان هي الأرض وعيوبه ومتاعبه؟ أم ان المسألة عسيرة على الفهم وستظّل تلف وتدور كأسئلة حائرة مضطربة تظل تبحث عن الجواب… أيّ جواب مقنع أو غير مقنع… ولكن يبدو أن مثل هذه الأسئلة ستظل تدور لاهثة عاجزة عن الإجابة ولو بكلمة واحدة ولألف سنة قادمة…
رأيت كما يقولون فيما يرى النائم.. رأيت وأرى كل ليلة وحتى في اغفاءات النهار القصيرة بعد همّ وتعب، وقد تتواصل هذه الأحلام لسنين قادمة، فكل المؤشرات صارت تعلن لي وتبين أن الأمر سيطول معها وهي قد تبدو أحياناً ثقيلة مرهقة، لكن نفسي بدأت تتقبلها، وربما صار العقل مستوفزاً منتظرا معمياتها ليعمل بعدها على كشف قدراته في تفكيك وتحليل معطياتها واسبابها… ومن هذه الاحلام ما بات كلازمة تتكرر منذ نصف قرن واكثر… قاعة امتحان ولهيب صيف… مدير صارم ومراقبون منتبهون… لعلعة صوت المدير تعقبها اصوات المراقبين الصارمة الخارقة بلا رحمة… نداءات تتكرر معلنة ان وقت الساعات الثلاثة مضى وان نضع الاقلام… تأتي هذه التهديدات في وقت لم اقرر فيه عن اي سؤال ابدأ بالإجابة, عقلي مشلول وروحي مرعوبة وجسدي ينزّ عرقاً.. الاصوات تعلو واصابعي تلفظ القلم ودفتر الاجابة ما يزال ابيض ناصعاً وأنا لم أقررّ بعد السؤال الذي ابدأ به الاجابة ومع تلك اليد السريعة باصابعها كمخالب تلم دفترا مدعوكاً ملوناً بخطوط عرق وليس الدفتر كله غير الاسئلة وعلى الغلاف الاسم والرقم…
أي صحو وأي رعب ودفتر امتحان الرياضيات تلقفه المخلب ممسوحاً من ايّ حلول… ذلك الحلم كنت اخشاه، وظل معانداً معي يتكرر بين سنة وأخرى وحتى بين شهور متقاربة، عند يقظة الرعب وانا ارى سطح منضدتي خالياً من الدفتر المنهوب، اتحسس جسدي كله معرقاً وكانه يتمم ما اساله على وجه الدفتر بعد صيحات التهديد التي خنقت أيّ امل بأن اعطى الفرصة للبدء بالإجابة ولكن أي شيء من ذلك لم يحدث فلا عقلي المضطرب القلق المذعور استطاع ان ينهي تردده في الاختيار، ولا اليد الغاضبة سمحت لو بدقائق اخرى مضافة…
ما كان يخفف من قسوة وخيبة مثل هذا الحلم وقد يحدث ان تابعاً من حلم اخر بفاصل قصير… ارى فيه وجه ابي الجميل بعينيه الزرقاوين يشرق بابتسامة كأنها الربيع… هذا ما اتذكره… تلك الابتسامة الرائعة الحنون هي هي، كان يعانق بها وجهي كلما زرته في ايام مرضه الاخيرة… ما تكلم ابداً… في واقعيات وجوده معي في الحلم السعيد… الابتسامة الدافئة كانت ابدأ هديته لي وقد خفّفت من بشاعة تلك الوجوه الصارمة المهددة لي وكأن الساعات الثلاثة هي القدر المخيف ونهاية الحياة… وذلك الحلم الذي رأيته مرّة واحدة وكم تمنيت لو عاد معي وتكرّر ولكن ذلك لم يحدث رغم جنوني به… مساحة كبيرة من ارض جبلية صخرية قاسية تكاد تكون بحجم مدينة… الارض الجبلية بمرتفعاتها وكل منخفضاتها كانت منحوتة بتماثيل كبيرة هائلة تشحب معها حتى التماثيل الآشورية والفرعونية الضخمة… ورغم ان ذلك المعرض التشكيلي كان محادداً لبحر ازرق مثير بانعكاسات مساقط اضواء الشمس… كل سحر الزرقة لم تحصد شيئاً من ناظري… ادرت له ظهري مذهولاً بما ارى من تكوينات الألف الأشكال لشخوص واقعية وهياكل فانتازية لفنون فطرية وموضوعات تشكيلية مختلفة منحوتة بألف ازميل مما نجد اولاً نجد في ابهى أكاديميات الفنون ومعارض النحت… الضخامة هي سمة هذا المعرض الصخري… وانت تشاهد مثل هذا المعرض الحلمي لن ترتسم لناظريك ملامح أيّ فنان من دنيا الواقع… ربمّا يمرّ خاطفاً وجه هنري مور وتهمش في أذنيك حروف اسمه… ولكن اكبر الحجوم من تماثيل هنري مور لم تكون غير فأرة قميئة أمام هذا المجد الصخري المنبثق من القمم والجدران كبانوراما تتسع لألف معرض من معارض الدنيا… لا تلوين ولا خطوط ولا رسوم… فقط هذه الكتل الجبارة بأحلى التكوينات الانسانية والحيوانية والطبيعية مسلوخة من الصخر الأصم الناطق بكل تعبير دنيوي حيّ ومؤثر ومن معالم ميثولوجية سحرية مذهلة…
احلم… احلم… احلم… هل اقول ان حياتي صارت في سنواتي الاخيرة حلماً متواصلاً ليلاً ولولا قمع النهارات وروح اليقظة لمحت هذه الاحلام فروق ليالٍ ونهارات وبت اخشى على عقلي، وما يطمئنني ان علم النفس يرى فيها مسرباً ومصفاة لهموم الحياة وبكل لظاها وقهرها ولا انسانيتها الموجعة… من هذه الاحلام وما هو عاديّ وطبيعي ومقبول وعقلاني ولكن في غالبيتها. ومع سنين العمر الاخيرة صارت تتخبط وتزدحم بفانتازيات وسحريات لا يقنع او يقبل بها حتى العراة من ادغال افريقيا بأجسادهم المدهونة اللّماعة وبأشراط الآذان واصباغ الوجوه والدمى المعبودة والاقنعة الواقية من سحر الاشرار ومع قرع الطبول والاغاني الصارخة والرقصات العنيفة ارضاءً وخوفاً من معبود يرونه في لب شجرة او غابة او غيمة عابرة او في روح حيوان مخيف او قمة جبل او في بطن ضفدعة او رحم امرأة مسحورة يجب قتلها او في جناحي طائر خرافي.
حتى اولئك المفزوعين العراة لهم قناعاتهم وطرائقهم وردودهم وحذرهم مما قد يلحق بهم من ضرر وأذى وبتقاليد حتى لو كانت اساطير واعتمدوها جيلاً بعد جيل في كيفية التعامل مع سحر الاشرار وابطاله… اما هذه الاحلام وبفوضيتها ولا عقلانيتها فقد اتعبتني… أرأى احد منكم قافلة جمال صحراوية أنهكها وارهقها لفح الهجير تعوم بلذة كبيرة في بحر قطبي مستأنسة… ببرد يجمد العظام؟ هذا ما رأيته… وكنت اتحسس ان ذلك القطيع الكبير ومن ألف ناقة وجمل كانت منفردة بلا راع ولا حادٍ وقد بدا لي انها في متعة تعايشها مع طيور البطريق ولذّة البرد والتحرر من سخونة الرمال المحترقة, صارت راعية نفسها ولم تعد تحتاج او تتذكر حكاية الحادي… ها هي تسبح وتمرح ببهجة البحر والنوارس مكتشفة بعد قرون خديعة عبوديتها واستغلالها المريع من الانسان بحجة تحملها وصبرها على العطش والجوع ومع بؤس طعامها من اشواك الصبير الصحراوي وعفونة الماء المخزون الذي تستهلكه ذاتياً.
مما رأيته وحزنت له… لست عدوانيا فهو الذي بدأ العدوان بسرقة قلمي… ايّة ذكرى وأي سنين وعمر ممدود… هل يصدّق احد؟ حدث ذلك قبل سبعين سنة… كان صديقي وكنت احبّه… في الثاني الابتدائي… متجاوران في الصف… متجاوران في المحلة… شريكان في اللعب… شريكان في صيد الطيور… متعاونان في صنع طائرات الورق, والراديو من الطين، سائران معاً صباحاً للمدرسة مخترقين طرق الشاخات وغابات النخيل المسحورة المخيفة, عائدان معاً، لبيوتنا ونحن في اقسى حالات الجوع وتعب الساعات المدرسية الاربعة, معاً نحفظ الأشعار لنرضي معلمنا، معاً نكون في الاعياد، لا تفرقنا منا غير ساعات النوم.
وفي ليالي السهر الطويلة أظلّ معه ويظلّ معي نقرأ أو نكتب او نترامى بالمخدّات ولكنه سرقني، غافلني وسرق قلمي، أنكر السرقة، المعلم لم ينصفني ورأى اتهامي لصديقي باطلاً… كان المعلم يكتب على السبورة… صديقي لم يكن منتبهاً… اخطأ فأخرج القلم المسروق ليكتب… قلت له هذا قلمي… لم يردّ عليّ… كرّرت طلبي فغضب ورمى القلم من الشباك… غضبي كان اكبر فضربته بمسطرة الحديد على انفه وسال دم ونلت عقاباً… ياه سامر ما نسيت تلك الضربة… تريد ان تثأر… هذا الحلم تكرر أيضاً وبنفس مسطرتي يردّ لي سامر الضربة بعد سبعين عاماً… لست غاضباً الآن بعد أن اخذ سامر بثأره… نقط الدماء تلك هي هي محسوسة ويسيل بها انف سامر ويقولون ان وجود اقل من قطرة دم يلغي أيّ حلم ويفرغه من معانيه… لا ادري عن مصداقية وواقعية مثل هذا القول، ولكنه الدم وأنا اعترف انني ضربته ضربة غاضب وأسلت دمه… وهو لم ينس ذلك انا اقبل بما يفعله او فعله سامر في حلمي… ولكنني اكره منظر الدم واتمنى الا يتكرر ظهور سامر مرّة اخرى، فرغم محبتي وشوقي لذكراه، فأنا اتمنى ان اراه في اية لقطة جميلة من حياتنا بعيداً عن لقطة الانف النازف بالدم… ذلك الدم الذي اصابنا نحن الاثنين بالرعب واحرق يديّ بعصا المعلم في صبيحة ذلك اليوم الرمادي الكئيب المتجمد…
وعي احلامي الفنتازية المجنونة قلب وغير ومسح كل القوانين وشكليات الوجود… فالخفافيش الحائرة بين صنفي الطير والحيوان هي ولودة تعشق الظلمة وتكره النور… لها كهوفها ومخابئها المظلمة وعالمها الليل وهي في حذر أبدي من الانسان… احلامي صيّرتها حلوة بهية مغرّدة في نور الشمس وخضرة الشجر وسطوح الماء… مقابل ذلك أخرس حلم كئيب مزعج كل البلابل ودفع بها لمغاور الكهوف وبيوت الخفافيش وبعد ان غيّرت الدنيا اقدار الاثنين… المقولة التي تسخر من انتفاخ الضفادع ونقيقها بالغت عدسات احلامي في توصيفها… كل ضفدع صار بحجم هرّ والنقيق الذي ما كان يتجاوز غير امتار صار هديراً كالأبواق زاعفة ليل نهار وببطون زادت انتفاخاً ولكن مع وضوح الحلم لم تنفجر اي بطن منها… منظرها كريه ومقزز…
ارى فيما يرى النائم والنائمون أمي كانت طيّبة القلب، حنونة وغالبية صديقاتها من الفقيرات ومن مغدورات الحياة وهي الغنية، كانت تحبّ الالوان الزاهية في ملبسها ولكنني وفي اكثر من حلم كنت اجدها حزينة وسط كومة من النساء يغطيهن السواد… هي ايضاً كانت ملفوفة بالسواد… لا ادري هل كن في مأتم… صمتهن وكآبة وجوههن توحي بمشهد مأتم, وكان الغريب في المشهد انني لم أر باكية او نادبة بينهن ربما كان من أواخر ايام العزاء، أو انه ليس بمشهد مأتم… مجرّد لقاء صامت، ورغم تكرار مثل هذا الحلم فلم أجد تفسيراً لذلك الصمت الحزين… والغريب في حلم الأم انها لم تنتبه لوجودي رغم انني كنت اتمنى ان اسمع ولو كلمة واحدة منها… مرّة واحدة… ومع تكرار الحلم احسست انها لم تكن غافلة عن وجودي وان وجودها مع هذا الجمع هو ما عزلها عنّي… لا ادري سبب موقف الحياء عندها؟ أكانت غير راضية عنّي، ام ان موقفها هو ذلك الصمت وكما كانت في حال الدنيا؟
في الزمن المبكر من وهج الصبا ونشواته، لم ارسم ابداً قلباً مخترقاً بسهم دموي، ولكنني اهديت لها وبجرأة وجنون مع خشية الخيبة… اهديت لها وردة حمراء قانية.. الحلوة المشتهاه… خضراء العينين بجديلة ذهبية واحدة… لم تقل لا… أخذتها ولم تنطق بكلمة… أنا لم أرسم قلباً مجروحاً، وما كنت قد قرأت شيئاً، وما كان هناك أيامئذ تلفاز وحتى مذياع ولم اصادق عاشقاً محترفاً ليعينني بخبراته، ولم تلتقط أذناي وروحي اغنية حبّ، فمن علّمني أن أنبل وأحلى اللغات هي لغة الورد؟ ولماذا الأحمر؟ لا ادري أي بؤس وخسارة وضياع عندما تتكرر أحلام الكوابيس مرّات ولم احظ بذلك الحلم الجميل الّا مرّة واحدة وبعد ستين عاماً من واقعته… احلام القبح البشري والفقر والقتل والحروب والجوع والمهانات تتكرر ألف مرّة… وحلم حمرة دم القلب والزهرة وخضرة العينين يظل مخفياً مقيّداً لتستهتر كبدائل مرفوضة أحلام الشرور كأوبئة وتشوّهات مخيفة مما يدمّر حالات السكون وراحة البشر…
ويمضي قطار العمر سريعاً لاهثاً لا يترك غير أشارات ومخّلفات هزيلة لوجوده… ومع هذا القطار تلهث في روحي أحلام عابثة ساخرة, قطارات بلا سكك ودواليب لتمخر بسرعة وهياج جنوني البحار والمحيطات وبخفّة مركبات فضائية مذهلة… القطارات هجرت سككها وحلالها السباحة وصراع القرش والكواسج والحيتان لتحمي الاسماك الصغيرة، فإن ضجرت هجرت البحر لتسرح مع صقور الجو وطيور الفضاء العالي ملتهمه أعتى الغيوم وأشدّها ظلمة وسواداً ثم لتعود للأرض مطمئنة ان كل سككها الافعوانية قد صارت خردة وقد آن الأوان لها الآن لتستريح من سخام الفحم وأصوات الصافرات الحادّة ونزق المسافرين… ومن حلم ليلة شتائية صرت اتأمل مبهوتاً قطعان خراتيت وضباع وتماسيح وخنازير ومن كل الضواري القاتلة… كانت طائرة بعلو منخفض وبلا أجنحة تطاردها خيول عمياء بلا آذان وأعراف… كانت تبدو هاربة من سموم الآف العقارب والافاعي وهي لا تدري انها قد غزت جلودها وأجسادها والتفّت حول رقابها… غرزت اشواكها وسمومها مما جعلها كتلاً مدمّاة كريهة المنظر والرائحة…
حلم شتائي آخر… الحلم الناري… طوفان من نيران ملتهبة بمزيج من حمرة قانية وسواد، غطى الأفق لأبعد مديات، كانت ناراً وحرائق عارمة، الأنطفاء من طبع أي أيّة نار بعد دقائق او ساعات أو ايام مادام الماء موجوداً، حتى الماء مع حرائق الحلم كان احمرَ عكراً كلما تدفقت فوهاته ازدادت بها النار جنوناً وأتساعاً وشراهة… وبعد كل ذلك البهاء والاشراق في صباحها المضيء، استحالت آفاق المدينة وسماؤها لظلمة حمراء خانقة…
ابشع احلامي الكابوسية الثقيلة المؤذية المنهكة والمعاندة والتي تتكرر مع اختلاف بسيط في التوقيت وجزيئات المنظر… هو مشهد أنتظاري للأعدام… وابداً هو ذلك الضحى الجليدي في طريق مترب محظور… وحيد انتظر… ليس هناك سجن ولا زنزانة ولا تعذيب غير شعوري بقلق انتظاري وعذابي وخواء ايامي ورعبها…
رعب وجودي وقلقي وانتظاري حجب أيّ رعب من الساعة الحاسمة المخيفة التي قد يجيء منها نداء او صرخة شرطي أو حارس، لكنني ظللت وحيداً في عراء برد الطريق وكابته ولم تلتقط أذناي أيّ نداء رغم ان قرار الإعدام كان نهائياً ومحفوراً في عقلي… وحصل في حلم ان شاركني آخر في الانتظار، لكن الأوضح هو أنني كنت وحيداً بشكل آخر… انني وقد اجتاحني في ذلك الطريق المعزول الموحش رعب كاسح لانتظار المجهول… رغم انني لم اواجه فيه محكمة ولا قاضياً ولا محامياً وحتى قضيّة… ربّما يتباهى التحليل النفسي ان ذلك الوجود لم يكن بانتظار إعدام آلي لان الاعدام الحقيقي قد حصل ومرت عليه سنون من محبطات وخيبات الحياة, وما سحقني من رعب المصير ربما كان اقسى من اعدام لن يطول لغير دقائق مسرعة… في النهاية انا كنت حراً مطلقاً في هذا الطريق العاري واحساس بأنني قد أعدم أو سأُعدم ظل قوياً بتأثيره الروحي الخانق…
وحلم آخر… طائرة سوداء بحجم خرافي تنقضّ كباشق على الجسر الحديدي ممذّقة خاصرته لتنثرها مزقاً بقنابلها الذكية… أنا أقدس الذكاء وأباركه فهو هبة الله ولكنني أبداً أربط الذكاء بفعل الخير والبناء والمحبّة فأي ذكاء في فعلة تلك الطائرة الخرقاء وهي تشوّه الجسر الجميل…
وتسألونني أمّر بك حلم موت؟ ذلك لم يكن حلماً بل واقعة حيّة أشبه بحلم ثقيل… كنت في الثالث الابتدائي مهووساً بحب ركوب الخيل, كان مهراً جامحاً بلون القهوة وبطرّة بيضاء… اشتعلت بي رغبة عارمة ان ارّوضه, لكن ما حدث هو انه كان سباقاً لترويضي وبخفة طائر دون أي تأخير… لم تكن غير دقائق سريعة, كنت بعدها مطروحاً على بعد أمتار في كتف طريق رملي مليء بأشواك العاقول الجارحة، هي لم تكن غير ثوانٍ بلا انفاس وحجبت عني نسمات الهواء… لم يطل الأمر، ثم عاودني الوعي بنفس متقطع مخنوق… لم حدث ذلك؟ ربما كنت جاهلاً بمرونة التعامل مع مهر يتمرن على الجري ولم يحتمل نزق صبّي غرّ ألمه وأثاره بوخزات من عصا لحوحه, لم أجد للمهر أثراً وكانت كومة غربان تملأ أرض العاقول… تسألونني عن طعم الموت مُرّاً كان أم حلواً؟ أنا جرّبته… كان طعم موت ليس غير… هل بكم رغبة للتجريب؟ افعلوا فلكل منا موته الخاصّ…
ما كنت أوثر ان اشرككم في كوابيسي فهي من خصوصياتي، لكن الغلبة ستظل أبداً لهذه الرغبة الأزلية في إشراك الآخرين بأوجاع الأحزان وهذه الرغبة الحميمة ما تزال فاعلة بين بني البشر رغم ان امنيات المشاركة والتعاطف قلّما تحصل في الحالات السعيدة بل هي تجنح وتبدو مطلوبة عندما تقسو الحياة بمضطرباتها وأحزانها, الرغبة في امنيات أشتراك الآخرين في أحزانهم… أهي الانانية أم العجز عن مواجهة ما ذكرته ومررت وسحت فيه هو نتف قليلة ونزر يسير قد يلتقط العقل الواعي واللاواعي بعض التفسيرات… هي كانت أحلاماً على كل حال، أما الكوابيس الثقيلة القاسية، فهي مما تخرج بدلالاتها ورمزياتها عن قدرات العقل البشري، ولن يستوعب أو يهضم أو يفكّك رموزها غير أذكى عقلاء المجانين وحتى مجانين العقول، فهي ابداً متمردة على العقول السويّة… عقل مجنون حرّ منفلت ربّما هو فقط من يستطيع أن يجد معاني لرموزها المغلقة المخيفة ومع عسرها يمكن استخلاصه من فم مجنون ومخيلة مجنون… لست أخشى الفضائح والمرعبات فأنا بريء منها، ولكنها الرموز والملامح والاشارات والعلامات ومقاطع من كلمات مبهمة هي ما يجعلني أحتفظ بها مخزونة في عوالم التيه والجنون خشية أن تنحرف التفسيرات كلها وتتجرّأ لتجعل مني بؤرة وعدسة لامّة، ثم تحمّلني أوزار ما أراه، وعندها يكون المفسّر والشارح قد بلغ أعلى مراتب الجنون، فلن تكون النتائج التي يتوصل لها أو ينطق بها حتى لو كان مطمئناً لتخيلاته غير تخبطات وسفاهات لن تكون في صالحي…
بعد حلم واكثر مما يثقل على نفسي وفي صفاء ضوء الصباح كنت اتساءل رغم أنني لا أحظى بإجابة على مثل هذه الاسئلة العقيمة التي طال بها الزمن لماذا تكثر عندنا مثل هذه الاحلام المخيفة والكوابيس وتكاد تبدو نادرة في دنيا بشر آخرين… كل أحلامهم زهر وفرح وما استطاعت أيّة كوابيس حمقاء ان تخلخل طمأنينة نفوسهم وحياتهم في اليقظة والمنام… صرنا ولكثرة ما مرّ بنا من متاهات هذه الاحلام ووعورتها نأنس بها بل وننتظرها كبدائل مما حرمنا منه غياب سينما الخيال العلمي في أشدّ افلامها مخالفة لمنطق الأشياء ليتيه بعيداً في مستقبليات تتجاوز الغرائبيات في عروضها ولأبعد مديات المخيلة العلمية الجامحة وغير المنضبطة… بل صرنا نأنس بها كخوارق مسليّة… ما ألتقط مشاهدها حتى هيتشكوك وطيوره، ما سرد من امثالها القلم البوليسي المثير لأجاثا كريستي، وما طاولها حتى دون كيشوت بكل بطولاته الإنسانية المضحكة ومقارعاته لطواحين الهواء وأوهام صراعاته وتصدّيه لقوى الشر السحرية الظاهرة والخفيّة والتي غالباً ما أنتهت بخيبات وانكسارات وهزائم أوصلته لحالة أن يرى فيه الجميع مهزلة كوميدية جديرة بالإشفاق… أي خواء وأيّ بؤس وهزيمة عندما تستحيل حياة الأنسان لمجرّد كوابيس وتهويمات ليلية قاتمة مظلمة لا منفذ للسعادة والفرح فيها… وهي ليست غير تعويضات بائسة مضطربة لما إجترحته الحياة في بهاء النهارات… أيّة نتيجة وأيّة محصلة خائبة ترسم ما رحل من عمر الانسان لتخلق مشاهد خادعة أقرب ما تكون لحالات الجنون وبعد ان أضاع أو ضيّعت الحياة مسيرة مضطربة متخمة بالأخطار؟ أيّ تيه وأيّة احباطات مدمّرة شوّهت حتى الأحلام بعد أن حرمت أصحابها من صفاء فرح الدنيا؟ هذا ما كان يجب أن يحصل لكن المسيرة الأقوى والأشد جموحاً وطغياناً كانت لمشاعر اللوم والكراهية والغدر والكذب وسحق مشاعر البراءة والطيب… الحياة كانت متيسرة مترفة بهيّة نقيّة مقبولة حتى لو مرّت بأسوأ ظروف القهر والقمع والترويع، ولكنهم لم يقبلوا حتى بهذا الحدّ الادنى من شروط عيش البشر في كل مكان… وهذا ماكان وقد استقر الذي حصل على هذه المخطوءات لتقرير اذعان الآخرين وحرمانهم من متعة الوجود بل والتنغيص عليهم حتى بدهشة وفرح أحلام سعيدة وبسطوة ان الواقع هو هكذا او على هذه البقعة من ارض الله ويقولون لا تحلم فالرؤيا هي الصادقة والاحلام ليست غير كوابيس وأضغاث… صدقوا، لكننا لا نستطيع التحكم في رسم احلامنا… هي هي تجيء كطيف عابر جميل او كوابيس مخيفة مثقلة بالرعب وهي الاغلب اذا اقتنعنا بها كبدائل وتعويضات عما لم نحققه في الحياة وظلّ عجزاً وخيبة وطعماً مُرّاً… ربما هذا صحيح كله أو بعضه، ولكن السؤال يظلّ ملحاً ويقترب أن يكون من التمنيات ليس غير هذه البدائل الكابوسية الكريهة، لم أصبحت هي الغالبة في نوم الليالي ولم يعد للحلم الطبيعي الجميل أمكنة في المخيلة تتحرك بروح من الصفاء والمرح والفرح واللذّة في مشاهده, أهو شذوذ انسان هي الأرض وعيوبه ومتاعبه؟ أم ان المسألة عسيرة على الفهم وستظّل تلف وتدور كأسئلة حائرة مضطربة تظل تبحث عن الجواب… أيّ جواب مقنع أو غير مقنع… ولكن يبدو أن مثل هذه الأسئلة ستظل تدور لاهثة عاجزة عن الإجابة ولو بكلمة واحدة ولألف سنة قادمة…