حيدر عاشور - مصادفة


خرجت من كل شيء خاسرا، العمل المبكر ابتلع طفولتي ، وحاصر مراهقتي، الحروب انتزعت مني أجمل الأيام وحرمتني من أي طعم للفرح، فغدوت جسدا بلا روح ، كائنا مهشما يرثي نفسه ويحصي خيباته ومازالت الأيام تعبث بسكينته... في تلك الظهيرة نهضت من فراشي وقررت دون تخطيط مسبق أن أضع لحياتي في هذا اليوم حدا وأسدل الستار على مهزلة العمر، فربما أجد نفسي مفعما بالحيوية، والسعادة وأنا أعانق الأبدية ، فما عدت اشعر بأهمية أن أبقى على قيد البقاء.
مع الإصرار والتيقن من قراري النهائي هذا إلا إنني اصطدمت بمشكلة تتعلق بالإجراء الميداني للخلاص والموت ، فالموت ليس سهلا وسط الإجراءات الأمنية المشددة والقوانين القضائية، وأنا في الحقيقة أريد أن انسحب من الحياة بهدوء الملائكة فلا أود أن أتسبب في مشكلة لأي كان ،وان لا يستدعي أي شخص إلى التحقيق أريد موتا هادئا... قرأت خبرا غريبا قبل أيام عن وجود مصحات نفسية خاصة في احدى بلدان العالم لتسهيل مهمة الانتحار ويتسلم الراغب بالخلاص استمارة يملأ تفاصيلها ويذيلها بالتوقيع النهائي،انه انتحار حضاري دون اتهام أو شبهات جنائية.
تذكرت فجأة احد المعارف وهو متعلم وقد درس علم النفس، وغالبا ما كنت ارصده وهو يتحدث عن الحالات النفسية والقلق وغيرها من الأمراض والظواهر النفسية ، فتوجهت إلى المقهى التي يدمن الجلوس فيها ، كانت المقهى مزدحمة بالمرتادين والزبائن، لمحته في زاويته المعهودة وقد استغرق في قراءة إحدى الصحف ،كان يبدو متعبا بعض الشيء ، اقتربت منه نهض بتثاقل وهو يستقبلني ، واومأ للنادل بأن يأتي بالشاي لنا وبعد أن انتهى من الصحيفة التفت إلي:
- كيف هي أخبارك أما زلت تعمل في مكتب الإعلانات .
- ليس لي سواه فأنت تعرف الحاجة، وأنا لا أجيد غير هذا العمل.
فقررت في أعماقي أن أصارحه برغبتي بالخلاص من الحياة وذلك باختصار للزمن... اشعر بأنني أفكر بصمت فأخرجني من صمتي.
- قل ما عندك !
- فهمست في أذنه .
- إنني يا صديقي جئتك لكي ترشدني لوصفة انهي بها مهزلة الحياة التي ما عدت أطيقها.
ضحك ... وبعد أن تخلص من هول المفاجأة قال:
- هل أنت جاد أم إنها مجرد مزحة في مقهى .
- اقسم لك بأنني جاد ،وإذا لم تنقذني فأنني سأبحث عن غيرك .
ربت على كتفي وقال لي :
- سأصف لك وصفة سحرية هادئة لكني قبل أن اشرح لك التفاصيل أرجو أن تراجع نفسك فقرار النهاية واختيار الأبدية بديلا عن الحياة أمر ليس بالسهل العابر.
- لا تتعب نفسك لقد درست الأمر من كل جوانبه، ووصلت إلى قناعة تامة.
وبعد لحظات امسكني من كتفي وطلب مني الخروج من المقهى إلى الشارع لشعوره بالاختناق من أجواء المقهى وزحمتها... خرج قبلي، وتشاغلت أنا بدفع الحساب، ووجدنا أنفسنا خارج المقهى ، استقبلنا صخب الشارع وزعيق السيارات ووجوه المارة ، اخذ يبتسم لكني لمحت يده تضغط على بطنه ، ثم انطلق يصف لي الوصفة ، ملخصا اياها بان أتناول عصيرا ممزوجا بالسم وبهدوء ثم الخروج إلى مكان عام ، فالموت في الأماكن العامة لا يجلب الشبهات أو المشاكل، فالبيوت والمكاتب وأماكن العمل تجعل العملية معقدة وتبدأ حسابات المحققين ومن له مصلحة في موت صاحب القضية .. أقنعني كلامه وأردف قائلا:
- والأفضل أن تكتب رسالة النهاية، وتضمنها أهم وصاياك أو ملاحظاتك، وكل ما يتعلق بك وما ستتركه من بعدك .
شعرت بالجوع، وأنا أسير بقربه ،فطلبت منه أن ندخل المطعم القريب ، استحسن الفكرة وقال لي بأنه يحتاج إلى الماء فقط .. دخلنا وظل رافضا لتناول الطعام وبدأ (يكرع) الماء بشراهة وكأنه يسير في صحراء قاحلة ، وقبل أن يأتي النادل بالطعام الذي طلبته ، بدأ صديقي ينهار أمامي، وسقط بالفعل تحت المائدة.. نهضت وبدأت اسكب الماء على وجه ، وقد تمدد تماما على ارض المطعم.. طلبت من احد الجالسين مساعدتي، فلقد ذهلت أمام حالته الغريبة،وكأنه فقد كل حراك، وخرجت مسرعا أوقف إحدى سيارات الأجرة ونقله بسرعة إلى اقرب مستشفى، وفي الطوارئ استقبله الطبيب الخفر، وبقيت أنا بعيدا أراقب الحالة وبعد متابعة علاجه ونقله بـ (السدية) واستقراره على السرير ذهبت إلى الطبيب الذي انتهى من فحصه تماما قال لي:
- حالة تسمم، أو قل حالة انتحار لقد ودع الحياة ... ماذا تقرب له.
فوجئت بالاستجواب.
- صديقي من بعيد
أدرك الطبيب مخاوفي وقال لي :
- اطمئن من حسن حظك إننا وجدنا في جيبه هذه الرسالة التي يشرح فيها قراره بالانتحار وهناك تفاصيل اجتماعية أخرى ،فأنت، وبشهادتي، لا تعلم شيئا، وكان وجودك معه في ساعاته الأخيرة ليس سوى مصادفة قدرية.
ضحكت
في سري ووضعت يدي على وجهي وقررت أن الغي قرار الانتحار وأعود إلى الحياة مرة أخرى .

*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى