وجد نفسه مشدودا الى خلية (سعيد متروك) للعمل والفكر اللذين نذر عمره لهما منذ تحسساته الاولى بان الفكر لا يمكن ان يقف على قدميه ويؤثر ويقاتل الموتورين واعداء الهمجية الا بالإقدام دون هوادة.. والمثقف لا يمكن ان تثمر ثقافته واقعا متغيرا ما لم يغادر لعنة الجبن والتردد طالما ان هناك بعض الاقوام لا تعرف لغة الحوار.
دارت في ذهنه هذه الافكار وهو يمسك برشاشته وسط مدينة الكاظمية وتحديدا في منطقة (ام النومي) او كما يطلقون عليها (موسكو الصغيرة)، ارتقى السلم بعجالة وانتصب بقامته فوق بناية الحريق ليراقب من علو حركة الاعداء الذين يمزقون كل يوم اللافتات ويغرسون رصاصهم في الاجساد والجدران ويثيرون الرعب في اجواء المدينة دون خشية من طقسها الديني وابنائها المسالمين، شاهد احدهم يقترب من البناية كان ملثما كأي لص وبدأ يشهر سلاحه فاستمكنه تماما واطلق نيرانه عليه فارداه قتيلا وشعر بزهو وقد خلص مجموعته من هذا الجرذ المتسلل وهبط الى الارض ليبحث عن اصدقائه وعلى رأسهم سعيد متروك الذين تأخروا بعض الوقت وبدا يقلق عليهم من الاوغاد لكنه استدرك على نفسه وحرص على البقاء وحراسة المكان وصد اي محاولة غادرة ودارت في ذهنه الصور والافكار والوساوس وخلال لحظات مرت كالبرق شعر بصوت مرعب ومدو يقتلعه من مكانه وسرت في فخذه سخونة دم، بدأ يتدفق بتهور انتبه الى تفاصيل المكان فاصطدمت عيناه وأدرك ان رشقة هوجاء انطلقت من فوهة الدبابة التي حشرت هيكلها المخيف في الزقاق الضيق الذي تقع فيه بناية الحريق سقط على الارض رويدا رويدا فقد وعيه لكن عينيه لم تفارقا بداية الزقاق الذي سيطل منه سعيد متروك، ايعقل انهم تركوه يواجه هذه الشراسة ويغرق في بركة الدم القاني والساخن، وقد سرى الخدر في كل اوصاله.. اراد ان يزحف باتجاه الجدار فاسقط في يده وعرف ان قواه قد خارت تماما وما عليه سوى الالتصاق بالأرض انتظارا لمن يسعفه بعد ان هيمن عليه الهلع من هذا النزف الذي لم يتوقف، غاب عنه الوعي وبعد زمن لا يعرف مقداره وجد نفسه امام طبيب مسيحي وسيم الطلعة وقد استغرق في معالجته كان الطبيب يتوجس خفية من اوغاد الليل ومتطرفي السياسة الرعناء من ان يهجموا عليه ويردوه قتيلا لأنه يعالج اليساريين دون غيرهم، كان معجبا بفكرهم واندفاعهم الانساني العميق والحقيقي..
وحين انشغل الطبيب في المعالجة انطلقت ذاكرة عاشور سلامة في تذكر صورة امه وهي تتضرع اليه بان لا يخرج بعد ان شعرت بان الموت بدأ يجتاح الكاظمية من كل اطرافها.. وحماسته وعشقه للاستماتة جعلته يتسلل الى الخارج في غفلة منها بقي في الكرادة مدة تزيد على ستة اشهر حيث تقع دار ذلك الطبيب المسيحي نوراني الوجه والتوجه وهو لا يتردد في التضحية ومعالجة اي يساري يسقط في حرب الشوارع التي اشعلها دهاقنة الشر وهم يستهدفون الفكر الذي يهدد زيفهم وحين شفي من الجراح القاتلة ادرك انه بقي بساق واحدة بعد ان ابتلعت شظايا الدبابة ساقه مما اضطره للهجرة الى كربلاء والتخفي في بساتينها حتى يهدأ الوضع الشائك والدامي لكن روحه ظلت متعلقة وهو يتابع اخبار رفيقه سعيد متروك وبقيت اعضاء الخلية في منطقة ام النومي.. هناك في تلك الليلة غابت ساقه باتجاه المجهول وفي مطلع الستينيات وتحديدا عام 1964 اكتحلت عيناه بمرأى المدينة المقدسة وفرسانها من حملة الفكر وبدا كطفل يتعكز على ساقه وعكازته بحثا عن الوجوه القديمة وسعيا لرائحة تلك الليلة الباسلة، وتملّكه الاسى حين لم يجد احدا من رفاق الامس فقد قضوا في ليل البنادق والدفاع المستميت وقرر حينها ان يتواصل مع الدرب الذي استغرق شبابه ورغم تبدل الاوضاع وحدوث المفارقات المحزنة فانه من المتعذر عليه ان يقتلع من دمه جذوة الفكر لاسيما وهو يتذكر موقف الطبيب وقصد في يوم ما منطقة الكرادة بحثا عنه واصطدم حيث اكتشف انه قرر الهجرة الى خارج الوطن ما الذي يفعله وقد غاب الامس بكل توجهاته واحداثه الجسيمة وكأن ما حدث كان بالأمس.. ولم يجد سوى ان ينتبه بان عبء الاسرة بدأ يثقل كاهله لكنه لم يتخلص من عبء الاستماتة لفكرة اعتنقها ولا يمكن ان تغادر عقله او جسده وقد ضحى بنصف الجسد وظل يعتاش على جذوة تلك الليلة الباسلة فهي زاده الروحي على مدى سني عمره انها ليلة عمره كله وهي وسام يحمله كلما انتابه الضعف ليلة اختزل بها وجودا لا يمحى وذكرى لا تغيب ما بقي يتنفس فوق هذه الارض التي لابد وان تتفجر طهرا وعنفوانا وان طال الامد..
*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)