✍ رأى فتاة صغيرة عذراء ؛ مع ذلك كانت تتأوه بألم وثديها ينساب منه اللبن في خطوط بيضاء ليغمر الأرض؛ كان ذلك أشبه بالتقيوء ؛ وكان عليه انقاذها ؛ حملها بين يديه وحاول التحدث اليها وطمأنتها ؛ لكن جسدها كان بضاً جدا ؛ فحدث ما حدث ؛ واستيقظ من نومه ودوار غريب يشق رأسه. الساعة كانت الثالثة والربع والظلام والصمت يغمران الكون ؛ وأوروبا كلها ساكنة ؛ اوروبا المحافظة جدا كمعبد بوذي في هذا الوقت. بعد ساعة ونصف ستصل سيارة توزيع الصحف للموزعين الفرعيين ؛ وحصته هذا اليوم هي نفسها قبل ثمانية اشهر ؛ لا تدر له شيئا كثيرا لكنها افضل من لا شيء ؛ قهوة الصباح فارت وانسكبت من فوهة الكنكة ؛ فاطفأت نار البوتوجاز ؛ وسمع شخير باقي نزلاء الغرفة ؛ حملها وخرج الى البلكونة المطلة على شارع ضيق تتراص على جانبيه محلات تجارية غافية وان كانت مصابيحها الباهتة لا زالت تقاوم النعاس. صيف اوروبا الجميل مقارنة بصيف افريقيا القاتل ؛ درجة الحرارة التي بلغت الثلاثين قتلت العديد من الاوروبيين ؛ وفي افريقيا يكره الناس الشتاء لأنهم يحتاجون فيه لانفاق المال بغرض شراء ما يدفؤهم . الشارع مبلل قليلا ؛ رغم عدم هطول المطر ؛ والأرض من الطوب المتعاشق الرمادي لامعة ورائعة... وتغري بالسير فيها ؛ هنا ، وقبل ساعات قليلة كانت جوقات الموسيقيين تعزف والراقصات اللائي يمثلن دور الغجريات يرقصن ؛ رسامون ، وفنانون من شتى بلاد العالم والاجناس يأتون لتقديم عروضهم في هذا الشارع الضيق ؛ فيصاب الجميع بالسعادة ثم بالاجهاد من فرط السعادة ، ثم يهجدوا جميعا للاحتفاء بعطلة الاسبوع. اوروبا التي لا زالت تقدم دعما اجتماعيا له كمهاجر غير شرعي لم تقصر في اداء واجبها الانساني ؛ ومع ذلك فالأمر ليس بالسهولة التي كان يتصورها ؛ إنه يفتقد حميمية ما كانت تلتصق بقلبه ؛ فتقويه. لكن كل شيء مسالم ، قليل من العنصرية غير المؤثرة ؛ وقليل من العداء ولكن هناك غالبية من اللطفاء. والغريب ان المهاجرين كانوا الأقل لطفا مع بعضهم البعض ؛ فقبل اسبوع فقط تمكنت الشرطة من تفريق حرب شوارع بالسكاكين والحجارة بين طائفتين دينيتين من المهاجرين.. مما افزع السكان الأصليين الذين لم يشاهدوا من قبل مثل هذا المشهد منذ صلح وستفاليا . لن يندمجوا ابدا فقد جاءوا بذات ادمغتهم المليئة بالديدان. نسيم عليل رفع اطراف الصحف التي فرشها على زاوية الشارع ، لا زال البعض يفضل الشراء منه بدلا عن الشراء من الماكينة ؛ يبدو الأمر اكثر دفئا وحياة اليس كذلك؟ وبحلول أول خيوط الفجر تسرب المارة أمامه ؛ العجوز الذي يقطع مسافات قصيرة كعلاج لألم المفاصل ، والفتاة التي تعمل حلاقة ماهرة ؛ فتاة بيضاء ذات شعر قصير وكرش تبدو من بلوزتها الضيقة ، كم رغب في أن ينصحها بتغيير ملابسها هذه التي تظهر عيوب ترهلاتها الجسدية وعدم التناسق الواضح في بنيتها. لكنه سيبدو صفيقا ان فعل ذلك وربما تتوقف عن شراء صحيفتها السياسية المفضلة. على الناصية يمكنه أن يشاهد الميدان الدائري الواسع والذي تتوسطه مساحة من النجيلة الخضراء ، المحاطة بإطار من الحجر الرخامي ؛ حيث يجلس العشاق ليتبادلوا اللعب ؛ فالعشق غذاؤه اللعب ؛ لا جدية مع العشق ؛ ومع ذلك ربما يكون لعبا جادا في نفس الوقت. تأتي سيارة النظافة لغسل الأرض كل نصف ساعة ؛ تشفط الاوراق واعقاب السجائر وتضخ زخات من الماء وفي مؤخرتها فرشتان دائريتان ضخمتان تدوران لتمسحا الأرض . ذكره هذا المشهد بأول تجربة له مع طبيب الأسنان ؛ نفس هذه الفرشاة بحجم صغير جدا تدور لتمحق البقايا الجيرية ؛ محققة لمعانا خفيا . من على البعد رأى جسدين انثويين ؛ احداهما طويلة والأخرى اقصر وإن كانت القصيرة اكثر شبابا وعنفوانا في حركتها ؛ كانت تتقدم الطويلة وتتذمر من بطئها ، وحين سقط ضوء الفجر الباهت على وجهها ؛ اتسعت عيناه بدهشة ؛ انها نفس فتاة الحلم ؛ تلك التي كان اللبن ينسكب من ثديها.... اقتربت المرأتان منه ووقفتا لتتصفحا عناوين الصحف ؛ لم يتوقفا كثيرا ولكن الطويلة اشترت صحيفة دون ان تهتم لاسمها ، كانت تشتريها كيفما اتفق ، وحينما مدت يدها بالنقود رأى عروقا خضراء نافرة ، قال:
- هل هذه شقيقتك؟
فتحت القصيرة فمها بدهشة وقالت:
- انها أمي وليست شقيقتي؟ هل ابدو عجوزا؟
- لا ولكن امك تبدو صغيرة... لكنني لم اسأل بدون سبب ففي الواقع لقد رأيتك البارحة.
كانت الأم صامتة ؛ شعرها أحمر قصير ، وتبدو بائسة جدا بأجفان متهدلة وكأنها كانت تسكر طوال الليل ، أما الفتاة فكانت نضرة ؛ وترتدي ملابس شبابية وعلى رقبتها سماعة مشغل صوتي. قالت الام بحذر:
- ماذا تقصد بأنك رأيت ابنتي؟
قال بثقة: رأيتها في حلم... واعلمي يا سيدتي أنني صادق في ذلك... ولا يعتريني أدنى شك في أن من رأيتها في الحلم هي نفسها ابنتك ...
قالت الفتاة:
- اوووه ... انا غير مهتمة أبدا ... اشكرك على لطفك ... ولكن علينا ان نغادر يا أمي ..
نفضت الأم رأسها رافضة وقالت:
- ماذا رأيت بالضبط يا سيدي؟
قدم صحيفة لأحد المشترين ، كان قد ترجل من دراجته الصغيرة والتي لا تتناسب مع حجمه أبدا .
استطرد:
- كان حلما غريبا يا سيدتي ... لكن ما يمكنني قوله أن تفسيره معقد نحوا ما... لا اعرف ان كان خيرا أم شرا ..
اسبلت الأم جفنيها وقالت:
- يبدو أنه فعلاً حلم غريب... أنني اؤمن بهذه الأشياء حقا .. ابنتي ورثت عقلها الأداتي من والدها ... انه استاذ جامعي مغرور ويعتقد أن العلم هو الحقيقة الوحيدة على هذه الأرض..انه ملحد ... وهذه كارثة بالنسبة لبروتستانتية نشأت على الايمان بالمعجزات مثلي....
قال: ابنتك غالبا ما ستترهبن يا سيدتي رغم وصفك لها هكذا... هذا هو تفسيري للحلم ... اعتقد أنها ستترهبن ولا اعرف ان كان ذلك جيدا ام سيئا ...
اطلقت الفتاة ضحكة عالية وقالت باعتراض:
- أمي هل ستستمعين لهذا الهراء... دعينا نذهب...
ابتسمت الام بانتصار وقالت:
- ألم أقل لك... حسنا سعدت بلقائك...
مضت المرأتان وسقطت اشعة الشمس عليه فتراجع الى الخلف حيث يمتد ظل قصير ؛ لم يجد في اوروبا حلمه كما كان يتصوره ، لكن هناك شعور ما بالارتياح ؛ لم يصبح غنيا ، ولم يجد عملا مريحا أكثر من بائع صحف. لكن مع ذلك هو مرتاح نفسيا. الإعلام الذي نقل صورة حضارة منتصرة لحضارة افريقيا المنهزمة ؛ جعل كل الافارقة يعيشون ذلك الوهم الأوروبي. وحينما يصلوا الى اوروبا ينغمسون في السكر والجنس وتجارة المخدرات والقوادة ؛ وقليل منهم من يقتنص الفرص الجيدة فينفصل عن زملائه ويندمج مع الجنس الأبيض دون أن يفقد شعوره بتفوقهم عليه فيزداد خضوعا وانتاجا كدجاجة لا تبيض الا بعد اكل علفها المخصوص.
كل شيء صناعي في هذا العالم ؛ قال ذلك ؛ وسأل رجلا وامرأة في بادرة الخمسين من العمر:
- هل تعلمان لماذا هناك صفار بيض أبيض شاحب وآخر برتقالي رائع؟
رفعت المرأة حاجبيها ونصف ابتسامة ترتسم على شفتيها أما الرجل فنظر الى زوجته وكأنها استاذته التي تمنحه كل الإجابات.
قال: هذا يا سادتي بسبب الفيتامينات .. نعم هناك فتمينات معينة يتم منحها للدجاج لتزيد من لون الصفار الفاقع ... الا يبدو ذلك صناعيا جداً؟
قالت المرأة:
- يبدو مقززاً حقاً ... إن كل طعامنا صار صناعيا في الواقع .. هل هذه دجاجة أم ماكينة قطع البسكويت؟
قال الرجل:
- حقا عزيزتي... لا يمكنني أن اتخيل كيف يتدخل الانسان حتى في تشكيل لون صفار البيضة ... لكن لم لا إذا كان بإمكان الأطباء الآن التدخل لتحديد جنس الجنين بل ولون بشرته...
سألهما:
- هل هذا دليل على ذكاء الانسان أم على مرونة مكوننا الحيوي كأحياء...
أمال الرجل رأسه وزم شفتيه وقال:
- حسنا..ربما خليط من هذا وذاك...
غادرا وتركاه وخياله المريض يغرق عقله الى الأعماق ...
قال: ليس صحياً للدماغ أن يحاول تجذير الأشياء بحثا عن الحقيقة... من الأفضل ان نسلم بصورتها النهائية كحقيقة... ان كل شيء يصبح لا شيء حينما نحاول تتبع تاريخ انبثاقه الى الوجود.. ونحن نتراجع الى الخلف نصل الى اللا شيء...فينهار الشيء ويتلاشى ويفقد قيمته بفقدانه لوجوده.
عجوز اسود يرتدي قبعة ويسير بعصا خشبية طويلة ، هل يعتبر نفسه أفريقيا أم اوروبيا..... القى اليه السلام وحياه بابتسامة واسعة:
- أيها الأب الطيب.... اريد أن اسألك سؤالا....
قال العجوز الأسود:
- اعطني صحيفتي اولا ... ثم أن وقوفي يعقد من احتمالي للسير مرة أخرى...
- هل أنت افريقي أم أوروبي...
رفع العجوز يده وحرك سبابته محذرا:
- لا تسأل هذا السؤال مرة أخرى... انا اوروبي ... ولا أعرف شيئا عن أفريقيا الا ما اقرؤه في الأخبار عن المجاعات والحروب .. حقيقة لا اتمنى ان اكون هناك يوما ما ... مع ذلك فأنت تقصد لوني الأسود... حسنا ... ليس جيدا ان تكون شاذا عن القطيع ... لكنني اتمتع بكل حقوقي كأوروبي وهذا فخر لي....
- إذن أنت لا ترغب حتى في مجادلة عميقة لجذورك ... انت تسلم بالصورة الأخيرة وتخاف من أن تعود الى الوراء ... اليس كذلك؟...
قال العجوز:
- الوراء ليس جيدا دائما ..جاء أجدادنا كعبيد ... وقد انتهى هذا الآن .. عمت صباحا يا بني...
- عمت صباحا أيها الأب...
****
هذا هو الشهر الأخير لهذه السنة ؛ سيكمل سنتين في اوروبا ... هذا جيد .. سنتان لم يتطور فيهما قيد أنملة سوى في تعلم لغة جديدة ... ؛ اليوم سيتخلى عن بيع الصحف ليعمل في مكتبة صغيرة ، سينظف الكتب ويعيد ترتيبها بحسب أبجديات العناوين ، كما أنه سيمتلك حاسباً آليا لتسهيل مهمة البحث للرواد. مكتبة اطلاع صغيرة قدمتها امرأة مسنة توفيت منذ عقدين من الزمان كهدية لمنطقتها ؛ وتتولى شركة ائتمانية إدارتها. انها تقبع في شارع قليل الطراق ، خاصة في هذا الشتاء ، وهو شارع يرتفع الى الأعلى بوضوح تشعر به الأقدام والرئتان...أزاح الباب الزجاجي ودلف الى قاعة صغيرة توزعت عليها أرفف خشبية تحمل الكتب ؛ وفي الركن القصي جلست امرأة اربعينية ؛ ذات أنف كبير محمر من الزكام ، ابتسمت بألق واضح ومدت يدها وصافحته:
- حسنا سيدي ... لن تحتاج لخبرة كبيرة فالمكتبة صغيرة كما يبدو ..اليس كذلك... كل الكتب موثقة على الكمبيوتر ... وبرنامج البحث سهل جدا ... ما عليك سوى أن تكتب عنوان الكتاب أو اسم المؤلف وسيظهر لك رقم الكتاب ... يمكنك ان تبحث عنه لمن يطلبه ويفضل ان تساعده في ذلك .. هذا كل شيء... هناك خاصية جيدة أخرى .. لقد وفرتها لنا الفوائد القليلة من هبة المتبرعة .. وهي اننا يمكننا أن نحاول توفير نسخة من اي كتاب يطلبه الشخص خلال اسابيع إن قبل الانتظار ... لن يدفع شيئا بالتأكيد ولن يخسر سوى الوقت ... اليس هذا رائعا؟... هذا كل شيء... يمكنك استلام العمل منذ الآن .. وبعد نهاية الدوام يمكنك ارسال كل ملاحظاتك عن هذا اليوم من خلال البريد الالكتروني....حسنا هذا كل شيء... الى اللقاء...
حركت جسدها الرشيق وحينما اقتربت من الباب الزجاجي التفتت اليه قائلة:
- آه نسيت....كل معلومات الشركة ستجدها في الكمبيوتر ... في الديسك توب ... لن تتعب كثيرا لتجدها... هذا كل شيء ... الى اللقاء...
ربما انطفأت نار فضوله كما كان من قبل ؛ قبل عدة سنوات كان سيدور على كل أرفف المكتبة ليقرأ عناوينها ، ثم يدخل الى الكمبيوتر ليستكشف برامجه ومحتواه ... أما اليوم فلا يتمتع بذلك الدافع الذي لم يكن يقاوم في اكتشاف ما حوله ... ذلك الدافع الذي يجعل الطفل يمد يده الى لهب الشمعة ليعرف كنه هذا الضوء الأصفر. لم يعد مستعدا لحرق يده ....
كانت رائحة الكتب تغمر المكان ... الرائحة التي تشبه عطن سبخ الأرض الطينية في الخريف....
مسح الأرفف بنظرة واحدة نصف دائرية... للكتب روح يشعر بها ترفرف في المكان ... للكتب إذن رائحة وروح ... فهل الكتب كائنات حية؟
مكتبهُ صغير والمقعد ايضا لم يكن مريحا .. سيشرب كوب قهوة .. ربما عاوده الفضول لمعرفة طعم قهوة المكتبة ... الفضول الوحيد الذي شعر به منذ ان وصل أوروبا...
انفتح الباب فرأى الأم ورأته ، التقت نظراتهما فندت من المرأة آهة دهشة وقالت:
- يا آلهي... انه أنت.... بحق المسيح ... لقد بحثت عنك طويلا...
قال بصوت ودود:
- أوووه سيدتي لم انسك ابدا .. كم انت لطيفة لتتذكرينني على هذا النحو...
قالت بسرعة:
- ابنتي ترهبنت....
- حقا .. هذا مدهش ... لقد تحقق الحلم إذن ...
دخل شاب وشابة كانا يبدوان كيابانيين ؛ وجهت الأم حديثها نحوهما وكأنها تعرفهما وهي تقول:
- لن تصدقا أبداً ما سأخبركما به...
قصت عليهما القصة ؛ واندهش الشابان ... قال الشاب:
- هذا أمر مدهش حقا ... إننا نؤمن بهذه الأشياء ... لقد ورثنا ثقافتنا الروحية رغم أننا ولدنا وترعرعنا هنا .. يبدو أن هذا يعتمد على الجينات الآسيوية ... ففي موطني الأصلي بحسب جوجل توجد عندنا مئات المعتقدات ... ورغم تطورنا التكنولوجي لكننا لا زلنا نؤمن بالمعجزات ... قصتك هذه مع ابنة هذه السيدة تؤكد أن هناك عالما موازيا لعالم المادة ...
قالت الشابة:
- أصدق هذا فعلا ... تحدث لي أمور مشابهة منذ أن كنت طفلة ... لكنني بالطبع كنت أخجل من التحدث عنها.... لا اعتقد أنها ترتبط بدين معين...
قالت الأم:
- لا .. لا اعتقد أنها ترتبط بدين معين.. انما ترتبط بقدراتنا البشرية التي تختفي داخلنا ... ربما سنكتشفها يوما ما بشكل علمي .. وربما سنصبح كائنات خارقة ... هل يمكننا حينها أن نعرف ما سيحدث في المستقبل قبل أن يحدث بالفعل.....
قال الشاب:
- شاهدت أفلاما عدة عن هذا الأمر.. لكن بالتأكيد لا أحد يحمل ما تقصه الأفلام على محمل الجد...
كانوا يتبادلون حديثا جادا وكان ينظر اليهم فقط ، انهم يعودون لنقطة الصفر بمحاولة منطَقة ما لا يمكن منطقته ... الحديث عن ذلك في حد ذاته يلغي قيمته الروحية ... قال:
- عندنا في افريقيا لا يحبذ الحديث عن مثل هذه الخوارق ... انهم يعتقدون أنها منحة من السماء يجب وقايتها من الآخرين ... كما ان الحديث عنها يفقدها رائحتها الماورائية .. فالحديث هو في حد ذاته منطق ... لا يوجد حديث لا يعتمد على المنطق وإلا كان هذياناً.... وهذه الخوارق لا منطقية وبالتالي لا يجوز الحديث عنها باستخدام لغة هي نفسها ممنطقة...
قال الشاب بعينين متسعتين:
- هذا رائع حقاً ...
قالت الشابة بحركة متدللة:
- ألا يمكنك أن تحلم لي أنا أيضا .. كم اتوق لمعرفة مستقبلي....
ضحك الشاب وظهر تقويم اسنانه الشفاف ؛ وقال:
- اعتقد ان مستقبلك رائع يا عزيزتي .. لست بحاجة لمعرفته .. حقيقة أنا شخصيا لا أود معرفة مستقبلي شراً أو خيراً ... فلو كان خيراً فسأفقد طعم المفاجأة .. وان كان سيئاً فسأعيش في ألم مستمر ... دعينا يا عزيزتي نعيش اللحظة بلحظتها ...
****
انتشرت قصة الحلم في المنطقة الصغيرة هذه ؛ وصار السكان يتوافدون على المكتبة ؛ كانوا يسألونه بفكاهة:
- الم تحلم بي البارحة؟
وكان يجيبهم بالايجاب او النفي ... كان يحلم بالبعض ولا يحلم بالبعض الآخر ... وكانت احلامه تتحقق ...
لقد كسب العديد من رواد المكتبة بل وتبرع الكثيرون لها بسببه ، حتى اصبح يخشى من أن لا ينام .....
- هل هذه شقيقتك؟
فتحت القصيرة فمها بدهشة وقالت:
- انها أمي وليست شقيقتي؟ هل ابدو عجوزا؟
- لا ولكن امك تبدو صغيرة... لكنني لم اسأل بدون سبب ففي الواقع لقد رأيتك البارحة.
كانت الأم صامتة ؛ شعرها أحمر قصير ، وتبدو بائسة جدا بأجفان متهدلة وكأنها كانت تسكر طوال الليل ، أما الفتاة فكانت نضرة ؛ وترتدي ملابس شبابية وعلى رقبتها سماعة مشغل صوتي. قالت الام بحذر:
- ماذا تقصد بأنك رأيت ابنتي؟
قال بثقة: رأيتها في حلم... واعلمي يا سيدتي أنني صادق في ذلك... ولا يعتريني أدنى شك في أن من رأيتها في الحلم هي نفسها ابنتك ...
قالت الفتاة:
- اوووه ... انا غير مهتمة أبدا ... اشكرك على لطفك ... ولكن علينا ان نغادر يا أمي ..
نفضت الأم رأسها رافضة وقالت:
- ماذا رأيت بالضبط يا سيدي؟
قدم صحيفة لأحد المشترين ، كان قد ترجل من دراجته الصغيرة والتي لا تتناسب مع حجمه أبدا .
استطرد:
- كان حلما غريبا يا سيدتي ... لكن ما يمكنني قوله أن تفسيره معقد نحوا ما... لا اعرف ان كان خيرا أم شرا ..
اسبلت الأم جفنيها وقالت:
- يبدو أنه فعلاً حلم غريب... أنني اؤمن بهذه الأشياء حقا .. ابنتي ورثت عقلها الأداتي من والدها ... انه استاذ جامعي مغرور ويعتقد أن العلم هو الحقيقة الوحيدة على هذه الأرض..انه ملحد ... وهذه كارثة بالنسبة لبروتستانتية نشأت على الايمان بالمعجزات مثلي....
قال: ابنتك غالبا ما ستترهبن يا سيدتي رغم وصفك لها هكذا... هذا هو تفسيري للحلم ... اعتقد أنها ستترهبن ولا اعرف ان كان ذلك جيدا ام سيئا ...
اطلقت الفتاة ضحكة عالية وقالت باعتراض:
- أمي هل ستستمعين لهذا الهراء... دعينا نذهب...
ابتسمت الام بانتصار وقالت:
- ألم أقل لك... حسنا سعدت بلقائك...
مضت المرأتان وسقطت اشعة الشمس عليه فتراجع الى الخلف حيث يمتد ظل قصير ؛ لم يجد في اوروبا حلمه كما كان يتصوره ، لكن هناك شعور ما بالارتياح ؛ لم يصبح غنيا ، ولم يجد عملا مريحا أكثر من بائع صحف. لكن مع ذلك هو مرتاح نفسيا. الإعلام الذي نقل صورة حضارة منتصرة لحضارة افريقيا المنهزمة ؛ جعل كل الافارقة يعيشون ذلك الوهم الأوروبي. وحينما يصلوا الى اوروبا ينغمسون في السكر والجنس وتجارة المخدرات والقوادة ؛ وقليل منهم من يقتنص الفرص الجيدة فينفصل عن زملائه ويندمج مع الجنس الأبيض دون أن يفقد شعوره بتفوقهم عليه فيزداد خضوعا وانتاجا كدجاجة لا تبيض الا بعد اكل علفها المخصوص.
كل شيء صناعي في هذا العالم ؛ قال ذلك ؛ وسأل رجلا وامرأة في بادرة الخمسين من العمر:
- هل تعلمان لماذا هناك صفار بيض أبيض شاحب وآخر برتقالي رائع؟
رفعت المرأة حاجبيها ونصف ابتسامة ترتسم على شفتيها أما الرجل فنظر الى زوجته وكأنها استاذته التي تمنحه كل الإجابات.
قال: هذا يا سادتي بسبب الفيتامينات .. نعم هناك فتمينات معينة يتم منحها للدجاج لتزيد من لون الصفار الفاقع ... الا يبدو ذلك صناعيا جداً؟
قالت المرأة:
- يبدو مقززاً حقاً ... إن كل طعامنا صار صناعيا في الواقع .. هل هذه دجاجة أم ماكينة قطع البسكويت؟
قال الرجل:
- حقا عزيزتي... لا يمكنني أن اتخيل كيف يتدخل الانسان حتى في تشكيل لون صفار البيضة ... لكن لم لا إذا كان بإمكان الأطباء الآن التدخل لتحديد جنس الجنين بل ولون بشرته...
سألهما:
- هل هذا دليل على ذكاء الانسان أم على مرونة مكوننا الحيوي كأحياء...
أمال الرجل رأسه وزم شفتيه وقال:
- حسنا..ربما خليط من هذا وذاك...
غادرا وتركاه وخياله المريض يغرق عقله الى الأعماق ...
قال: ليس صحياً للدماغ أن يحاول تجذير الأشياء بحثا عن الحقيقة... من الأفضل ان نسلم بصورتها النهائية كحقيقة... ان كل شيء يصبح لا شيء حينما نحاول تتبع تاريخ انبثاقه الى الوجود.. ونحن نتراجع الى الخلف نصل الى اللا شيء...فينهار الشيء ويتلاشى ويفقد قيمته بفقدانه لوجوده.
عجوز اسود يرتدي قبعة ويسير بعصا خشبية طويلة ، هل يعتبر نفسه أفريقيا أم اوروبيا..... القى اليه السلام وحياه بابتسامة واسعة:
- أيها الأب الطيب.... اريد أن اسألك سؤالا....
قال العجوز الأسود:
- اعطني صحيفتي اولا ... ثم أن وقوفي يعقد من احتمالي للسير مرة أخرى...
- هل أنت افريقي أم أوروبي...
رفع العجوز يده وحرك سبابته محذرا:
- لا تسأل هذا السؤال مرة أخرى... انا اوروبي ... ولا أعرف شيئا عن أفريقيا الا ما اقرؤه في الأخبار عن المجاعات والحروب .. حقيقة لا اتمنى ان اكون هناك يوما ما ... مع ذلك فأنت تقصد لوني الأسود... حسنا ... ليس جيدا ان تكون شاذا عن القطيع ... لكنني اتمتع بكل حقوقي كأوروبي وهذا فخر لي....
- إذن أنت لا ترغب حتى في مجادلة عميقة لجذورك ... انت تسلم بالصورة الأخيرة وتخاف من أن تعود الى الوراء ... اليس كذلك؟...
قال العجوز:
- الوراء ليس جيدا دائما ..جاء أجدادنا كعبيد ... وقد انتهى هذا الآن .. عمت صباحا يا بني...
- عمت صباحا أيها الأب...
****
هذا هو الشهر الأخير لهذه السنة ؛ سيكمل سنتين في اوروبا ... هذا جيد .. سنتان لم يتطور فيهما قيد أنملة سوى في تعلم لغة جديدة ... ؛ اليوم سيتخلى عن بيع الصحف ليعمل في مكتبة صغيرة ، سينظف الكتب ويعيد ترتيبها بحسب أبجديات العناوين ، كما أنه سيمتلك حاسباً آليا لتسهيل مهمة البحث للرواد. مكتبة اطلاع صغيرة قدمتها امرأة مسنة توفيت منذ عقدين من الزمان كهدية لمنطقتها ؛ وتتولى شركة ائتمانية إدارتها. انها تقبع في شارع قليل الطراق ، خاصة في هذا الشتاء ، وهو شارع يرتفع الى الأعلى بوضوح تشعر به الأقدام والرئتان...أزاح الباب الزجاجي ودلف الى قاعة صغيرة توزعت عليها أرفف خشبية تحمل الكتب ؛ وفي الركن القصي جلست امرأة اربعينية ؛ ذات أنف كبير محمر من الزكام ، ابتسمت بألق واضح ومدت يدها وصافحته:
- حسنا سيدي ... لن تحتاج لخبرة كبيرة فالمكتبة صغيرة كما يبدو ..اليس كذلك... كل الكتب موثقة على الكمبيوتر ... وبرنامج البحث سهل جدا ... ما عليك سوى أن تكتب عنوان الكتاب أو اسم المؤلف وسيظهر لك رقم الكتاب ... يمكنك ان تبحث عنه لمن يطلبه ويفضل ان تساعده في ذلك .. هذا كل شيء... هناك خاصية جيدة أخرى .. لقد وفرتها لنا الفوائد القليلة من هبة المتبرعة .. وهي اننا يمكننا أن نحاول توفير نسخة من اي كتاب يطلبه الشخص خلال اسابيع إن قبل الانتظار ... لن يدفع شيئا بالتأكيد ولن يخسر سوى الوقت ... اليس هذا رائعا؟... هذا كل شيء... يمكنك استلام العمل منذ الآن .. وبعد نهاية الدوام يمكنك ارسال كل ملاحظاتك عن هذا اليوم من خلال البريد الالكتروني....حسنا هذا كل شيء... الى اللقاء...
حركت جسدها الرشيق وحينما اقتربت من الباب الزجاجي التفتت اليه قائلة:
- آه نسيت....كل معلومات الشركة ستجدها في الكمبيوتر ... في الديسك توب ... لن تتعب كثيرا لتجدها... هذا كل شيء ... الى اللقاء...
ربما انطفأت نار فضوله كما كان من قبل ؛ قبل عدة سنوات كان سيدور على كل أرفف المكتبة ليقرأ عناوينها ، ثم يدخل الى الكمبيوتر ليستكشف برامجه ومحتواه ... أما اليوم فلا يتمتع بذلك الدافع الذي لم يكن يقاوم في اكتشاف ما حوله ... ذلك الدافع الذي يجعل الطفل يمد يده الى لهب الشمعة ليعرف كنه هذا الضوء الأصفر. لم يعد مستعدا لحرق يده ....
كانت رائحة الكتب تغمر المكان ... الرائحة التي تشبه عطن سبخ الأرض الطينية في الخريف....
مسح الأرفف بنظرة واحدة نصف دائرية... للكتب روح يشعر بها ترفرف في المكان ... للكتب إذن رائحة وروح ... فهل الكتب كائنات حية؟
مكتبهُ صغير والمقعد ايضا لم يكن مريحا .. سيشرب كوب قهوة .. ربما عاوده الفضول لمعرفة طعم قهوة المكتبة ... الفضول الوحيد الذي شعر به منذ ان وصل أوروبا...
انفتح الباب فرأى الأم ورأته ، التقت نظراتهما فندت من المرأة آهة دهشة وقالت:
- يا آلهي... انه أنت.... بحق المسيح ... لقد بحثت عنك طويلا...
قال بصوت ودود:
- أوووه سيدتي لم انسك ابدا .. كم انت لطيفة لتتذكرينني على هذا النحو...
قالت بسرعة:
- ابنتي ترهبنت....
- حقا .. هذا مدهش ... لقد تحقق الحلم إذن ...
دخل شاب وشابة كانا يبدوان كيابانيين ؛ وجهت الأم حديثها نحوهما وكأنها تعرفهما وهي تقول:
- لن تصدقا أبداً ما سأخبركما به...
قصت عليهما القصة ؛ واندهش الشابان ... قال الشاب:
- هذا أمر مدهش حقا ... إننا نؤمن بهذه الأشياء ... لقد ورثنا ثقافتنا الروحية رغم أننا ولدنا وترعرعنا هنا .. يبدو أن هذا يعتمد على الجينات الآسيوية ... ففي موطني الأصلي بحسب جوجل توجد عندنا مئات المعتقدات ... ورغم تطورنا التكنولوجي لكننا لا زلنا نؤمن بالمعجزات ... قصتك هذه مع ابنة هذه السيدة تؤكد أن هناك عالما موازيا لعالم المادة ...
قالت الشابة:
- أصدق هذا فعلا ... تحدث لي أمور مشابهة منذ أن كنت طفلة ... لكنني بالطبع كنت أخجل من التحدث عنها.... لا اعتقد أنها ترتبط بدين معين...
قالت الأم:
- لا .. لا اعتقد أنها ترتبط بدين معين.. انما ترتبط بقدراتنا البشرية التي تختفي داخلنا ... ربما سنكتشفها يوما ما بشكل علمي .. وربما سنصبح كائنات خارقة ... هل يمكننا حينها أن نعرف ما سيحدث في المستقبل قبل أن يحدث بالفعل.....
قال الشاب:
- شاهدت أفلاما عدة عن هذا الأمر.. لكن بالتأكيد لا أحد يحمل ما تقصه الأفلام على محمل الجد...
كانوا يتبادلون حديثا جادا وكان ينظر اليهم فقط ، انهم يعودون لنقطة الصفر بمحاولة منطَقة ما لا يمكن منطقته ... الحديث عن ذلك في حد ذاته يلغي قيمته الروحية ... قال:
- عندنا في افريقيا لا يحبذ الحديث عن مثل هذه الخوارق ... انهم يعتقدون أنها منحة من السماء يجب وقايتها من الآخرين ... كما ان الحديث عنها يفقدها رائحتها الماورائية .. فالحديث هو في حد ذاته منطق ... لا يوجد حديث لا يعتمد على المنطق وإلا كان هذياناً.... وهذه الخوارق لا منطقية وبالتالي لا يجوز الحديث عنها باستخدام لغة هي نفسها ممنطقة...
قال الشاب بعينين متسعتين:
- هذا رائع حقاً ...
قالت الشابة بحركة متدللة:
- ألا يمكنك أن تحلم لي أنا أيضا .. كم اتوق لمعرفة مستقبلي....
ضحك الشاب وظهر تقويم اسنانه الشفاف ؛ وقال:
- اعتقد ان مستقبلك رائع يا عزيزتي .. لست بحاجة لمعرفته .. حقيقة أنا شخصيا لا أود معرفة مستقبلي شراً أو خيراً ... فلو كان خيراً فسأفقد طعم المفاجأة .. وان كان سيئاً فسأعيش في ألم مستمر ... دعينا يا عزيزتي نعيش اللحظة بلحظتها ...
****
انتشرت قصة الحلم في المنطقة الصغيرة هذه ؛ وصار السكان يتوافدون على المكتبة ؛ كانوا يسألونه بفكاهة:
- الم تحلم بي البارحة؟
وكان يجيبهم بالايجاب او النفي ... كان يحلم بالبعض ولا يحلم بالبعض الآخر ... وكانت احلامه تتحقق ...
لقد كسب العديد من رواد المكتبة بل وتبرع الكثيرون لها بسببه ، حتى اصبح يخشى من أن لا ينام .....