✍ قال محفوظ أن الجبالي شاخ في أولاد حارتنا... شاخ جدا .. ولزم عزلته السرمدية ، لكن هذا لم يمر على حارتنا دون تداعيات...فمنذ ذلك الوقت وأهل الحارة يغادرونها الواحد تلو الآخر. حتى الحرافيش ، الذين كانوا يهبطون اليها ليلا من الجبال الكلسية الصفراء ، هجروا كهوفهم وغادروها بغير رجعة ؛ وغرب الحارة حيث تمتد الأرض الزراعية التي باتت اليوم جرداء حين لم ينزل المطر منذ سنوات ليروي ظمأها ، سترى تلك الشجرة التي كنا نسميها أروكان حتى أروكان انكمشت اغصانها التي كانت سميكة وقوية في شبابها ؛ واصابتها الشيخوخة ؛ أروكان اسم لسلطانة قطنت هذه المنطقة وحكمتها بالعدل لسنوات ثم اختفت فجأة ؛ وقيل أن الجبالي لم يعجبه انجذاب الناس اليها ، وهي تعيد تنظيم سقاية الناس من النبع اليتيم بمساواة مذهلة. لقد جمعت كل الفتوات ؛ وصالحتهم على عهد بوقف الصراع مقابل عطايا محددة ؛ وفي سنوات حكم أراكانة نبت الزرع وامتلأ الضرع ؛ وتجلت بركاتها على الجميع ؛ ثم فجأة استيقظ اجدادنا على سلطنة بلا سلطان ؛ واستعاد الجبالي نفوذه عبر وكلائه القساة من الفتوات. صحيح أنه شاخ ؛ إلا أن شيخوخته لم تفقده السيطرة على محيط الحارة التي نعيش فيها كأحفاد منبوذين ومغضوب عليهم رغم أنه لا جريرة لنا في أحداث الماضي... كان السيد متولي يحكي قصصه عن عالم يقبع خلف الصحراء ؛ قال بأنه درس فيه علوم الفلك ؛ ومع ذلك هاهو الآن يعمل في كرخانة أم جميل ، يدير حساباتها وينظم الداخلين والخارجين من زبائن الليل والنهار ؛ ويضبط عمل الفتوتين اللذين يحرسان الكراخانة. مع ذلك كان رجلا لطيفا جدا ؛ كان يحب تدخين الأرجيلة باستمرار في قهوة صباحي الأعور ؛ وكان يحكي قصص بلاد ما خلف الصحراء ؛ قال بأنه لا زال يراسلهم ويستذكر تاريخا مشتركا لم يخلو من التفكه والقليل من الصعاب. كان يقول وهو ينفث دخان الأرجيلة:
- هذه الكراخانة هي نوارة الحارة .. حيث الانسان يعود الى المشاعية .. والى تلاحمه مع روح التحرر من خلال الطبيعة.. قال بأنه اختار العمل فيها لأنها تذكره بتلك البلاد خلف الصحراء ؛ فهناك تكتشف ذاتك بلا مخاوف ، وحينما يكتشف المرء ذاته فإنه يتعرى من الجبن ، ويتعرى من الالتصاق بالمادة ؛ فهو زاهد على نحو يختلف شيئا كثيرا عن الرهبنة. فالذات هي سلطانة الضمير ، وبصيرة الخير والشر.
لقد شعرنا حينها بالخوف عليه ؛ فحديثه يعني تحريضا على قوانين الجبالي ؛ تلك المدونة التي نحتها على واجهة الجبل الكلسي الشرقية ؛ لتحدد نطاق حركتنا وتفكيرنا ، كان القانون واضحا ؛ فكلما خففت من حركتك وتفكيرك نلت رضى الجبالي . كانت مدونة من مادة واحدة فقط. قال متولي:
- العالم ليس شرا كله كما تتصورون .. انه شر بالفعل وليس مجرد تصور ؛ لكن الشر هو من انجب لنا الخير ، وبدون الشر لم يكن ليكون هناك خير... فتلك البلاد -التي هي وراء الصحراء- عانت كما نعاني نحن في حارتنا الصغيرة هذه.
كان الحوذيون والاسكافيون وانا وباقي رجال الحارة نتحلق حوله ونتابع حديثه باهتمام ؛ قال وهو يغرس ابهاميه خلف حمالتي بنطاله المطاطيتين:
- لن تفهوا ولن تشعروا أبدا بكم الشر الذي كان يلوث تلك البلاد.... ولكن سوف تتفاجؤون عندما تعلموا أن الأعداء لم يجدوا مكانا للاجتماع فيه والتحاور الا كرخانة ككرخانة أم جميل... وهناك أعلنوا عهودهم الخمس التي تنطلق من احترام الحرية... مع ذلك يجب أن أنوه الى حقيقة مهمة وهي أن تلك الكراخانة ليست بائسة كهذه مع احترامي طبعا لأم جميل ؛ تلك الكراخانة يا سادة يا كرام انتجت أعظم الفنون والآداب ، .. منها تجلى شعر شعرائهم العاطفي والثوري ، وكان الرسامون لا يجدون فسحة من الخيال والتأمل والابداع الا على غرفها المعبقة بالبخور الهندي ، وقواد الحرب ؛ وضعوا جميعا اتفاقا بينهم ينص على عدم انتهاك حرمة الكراخانة ، واعتبارها منطقة حياد لأنها ملاذ الجنود في ساعات الأزمات... وهكذا لاذ الفقراء والمستضعفون بالكراخانة ، فاحتضنتهم بلا من ولا أذى ، وقبلوا هم بكل مافيها بل وسعدوا به وعملوا على تطويرها . امتلأت الكراخانة بعطايا القواد والجنود المتحاربين ، كانت معلبات السمن والقشدة والبازلاء المطبوخة والحلوى الطحينية والشعير والفول وحتى العسلية تنقل اليها على عربات تجرها عشرات الأحصنة قوية العضلات ؛ كانت كراخانة عظيمة ؛ مع ذلك ؛ يجب أن تعرفوا يا سادة يا كرام أنها هي نفسها كانت سبب توقد الحرب بين المتصارعين. وكما كانت كذلك فقد أضحت سببا للسلام.
لقد تعجبنا من كلام متولي ؛ وضرب بعض الرجال كفا بكف مندهشين من حكاويه العميقة واللطيفة في آن واحد.
صاحب القهوة ، العم صباحي لم يكن يشارك زبائنه الحديث ؛ ربما كان ذلك حصافة منه ، فالأحاديث غالبا ما تنحرف الى مغالطات ، والمغالطات تفرض على المرء أن ينحاز لطرف وهو لن يغامر بفقد الطرف الآخر ؛ خاصة أن سنين القحط قد طالت... لكنه في ذلك اليوم قال بصوت خفيض وهو يطرف بجفنين خاليين من الرموش ، وتجاعيد وجهه النحيل تنقبض متوزعة على جلده:
- يا أستاذ متولي..
التفتنا اليه جميعا ونظر اليه متولي منتظرا السؤال ؛ فجر صباحي نفسا من سجارة ملفوفة بغير اتقان على ورق البفرة:
- انت عالم فلك ..اليس كذلك؟
اسبل متولي جفنيه وقال بتواضع:
- بالتأكيد يا صباحي...
قال صباحي:
- اذن الا يمكنك أن تجد لنا حلا لمشكلة الجفاف هذه..أو على الأقل ان تحدد لنا متى سينتهي...
نظر متولي الى الأفق بحيرة وقال:
- صباحي...
- نعم يا استاذ متولي...
- هل أنت أعور يا صباحي...
أطفأ صباحي سجارته بحذائه المرقع وهز رأسه نفيا ، فقال متولي:
- مع ذلك ينادونك صباحي الأعور .. حقيقة لا أعرف السبب .. لكن خالتي حكت لي قصة غريبة عندما كنت صبيا .. فأنت لست صغيرا في السن حينها .. أنت أكبر مني تقريبا بعشر سنوات .. المهم أن خالتي وهي تخبز وتعجن وتطرح العجين داخل الفرن قالت والدقيق يعفر يديها والعرق ينحت وجهها بالأخاديد أنك ولدت أعورا .. كانت عينك مختفية خلف جلدة كبيرة تغطي محجر عينيك.... ثم أن شيئا ما .. ربما معجزة .. حدثت خلال سنوات حياتك الأولى ... هي أن هذه اللحيمة انكمشت وماتت خلاياها وظهرت عينك سليمة بالكامل...
ابتسم صباحي وحك ذقنه قائلا بسعادة:
- نعم .. حكت لي المرحومة أمي هذه القصة فأنا لا أتذكر شيئا ... لسنوات اعتبروني أعورا .. وفجأة عادت عيني الى الظهور..مع ذلك التصق اللقب بي حتى اليوم...ولكن ما علاقة هذا بسؤالي يا سيد متولي؟
قال متولي:
- علاقة قوية يا صديقي الطيب... فلكي نعرف لماذا جف ضرع السحاب علينا أن نزيل الغطاء عن أعيننا لنبصر... اذا كنت تعتقد أنك كنت الأعور الوحيد فأنت مخطئ يا عزيزي ، فالعور كثيرون بل ربما هم جميع أهل حارتنا هذه ...
قال صباحي:
- ولكنك من يستطيع ازالة هذا الغطاء فأنت من تعلم في العالم وراء الصحراء ...
طلب متولي من الصبي حجرا جديدا للارجيلة وقال:
- هذا صحيح الى حد ما ... انت لا تعرف كم الشقاء الذي عانيته لأفلت من تيه هذه الصحراء بل ولا تعلم المعجزات التي انقذتني من الموت فيها ... المسألة ليست في كوني عالما بالفلك ، فالمزارع القديم كان يعلم الفلك أكثر مني أنا الآن ... وكان يعلم متى ستهطل الأمطار فيستعد لها ومتى ستشح فيمتنع عن الزرع .. بل ويعلم متى ستزيد عن حاجة الزرع ومتى ستنقص عن ذلك ... وفوق هذا كان يعلم متى يكون المناخ باردا وحارا .. رطبا أو جافا ... لأنه كان ملتصقا بالأرض التصاقا لا انفصام له ولأنه أيضا تلقى جزءا من معرفته من آبائه... لكنه لو كان معنا اليوم لما فهم شيئا ولفقدت كل معارفه قيمتها في ظل هذا التخبط الذي نعيشه ، لا شيء صار مستقرا يا صباحي سوى جلستنا أمام قهوتك هذه منذ سنوات ، الا تتذكر قبل اربعة سنوات كيف انفجرت السماء بالمطر لمدة يوم واحد ثم توقفت حتى يومنا هذا .. بالطبع لم نستفد شيئا من مطرة يوم واحد .. ولم نتهيأ حتى لهذا اليوم لكي نستفيد منها ان كان ذلك ممكنا ... ولكن هذا ما حدث... فالسببية التي كانت تعين المزارع القديم على فهم العلاقات بين الظواهر فقدت انتظامها ...
قال صباحي بحزن:
- لكننا نموت يا سيد متولي ... ضاع الهاربون من الحارة في الصحراء ولم نعرف عنهم شيئا ... يجب أن نفكر في حل...
- من يفكر يفقد رضى الجبالي .. وهذا خطر ..
قال أحد الحوذيين ذلك... ثم اردف:
- إن حصاني نفسه بات يخاف من التفكير .. إنني لا أمزح.. فحصاني لم يعد محتاجا لضربات السوط لكي يعرف طريقه دون توجيه لقد حفظه حتى لا يفكر ... لم يخبرني بذلك بالطبع فالأحصنة لا تكلم البشر ، لكن علاقتي بحصاني هذا لها سنوات ففهمته وفهمني...
قال حوذي آخر مازحا:
- بضعة سنوات مع الحيوانات تجعلك تفهمها .. انا لم افهم زوجتي حتى الآن رغم مرور ثلاثين عاما على الزواج ...
قال صباحي:
- ولكنها تفهمك جيدا يا حزونبل .. ولذلك انت لن تستطيع أبدا فهمها ...
ضحك حزونبل وأمن على ذلك:
- نعم وحق الله يا صباحي .. تفهمني قبل أن اتفوه بكلمة .. حتى أنها لو ارادت خيانتي فستستطيع ذلك بكل سهولة ...
ثم ارتسمت جدية على وجه حزونبل وقال مخاطبا متولي:
- لكن يا سيد متولي عليك ان تفكر حقا في ايجاد حل لنا..جوادي صار هزيلا لا يقوى على جر العربة ... وهو مصدر عيشي الوحيد....نزول مطرة واحدة ستنبت العشب له والقمح لنا ... ربما نحن قد نخاف التفكير لكنك لست كذلك .. انت تفكر دائما دون خوف من الجبالي ... وما دمت قد فكرت من قبل دون خوف فما المانع من أن تفكر الآن أيضا ...
قال صباحي:
- أروكان الحسناء شاخت يا متولي .. كان شعر اغصانها يتهدل مغتسلا بماء الترعة الصافي ... الآن تقف منحنية بألم .. وكأنها لم تكن شجرة من قبل ... والجبالي أيضا شاخ لكنه لم يفقد عزم حنقه علينا ... مضت القرون دون أن يلين له جانب .. أنه قاس كنيزك من صهارة الحديد المتجمدة...
استنشق متولي نفسا طويلا وزفره بصوت مسموع ؛ كانت ملامحه تعكس تأملا عميقا ؛ وران الصمت على الجميع. الحارة استقبلت صمتهم بشحوب أكبر ، شرفات المباني خلت من حبال الغسيل ، ومن ضحكات الأطفال ، النسوة نسين كيف يصنعن الخبز ، والشمس تستطيل بنهارات حارة لا نهاية لها ، وتحوم في الأفق سحابات صغيرة ساخرة فلا أمل منها... تأمل متولي ذلك كله وقال:
- الحل هو أن اراسل اصدقائي في العالم وراء الصحراء .. ربما أجد لديهم ما ينقذنا أو حتى ما يسهل علينا الهروب من هذه الحارة البائسة وليبق جدنا فيها غاضبا بشيخوخة مضطردة يقتات فيها على ذاته.
- إذا قلت هذا فحساب جميع اراجيلك عندي اليوم يا سيد متولي....
قال صباحي ذلك ثم لف الصمت الجميع.. كان يحوم أمام أعينهم شبح من الأمل.... واثر ذلك مط متولي حمالتي بنطاله فارتدتا على كرشه بصوت مسموع وقال وهو يغادر:
- ها ... الى اللقاء إذن ...
سار متولي بين الأزقة التي فقدت رائحتها تماما ، الكراخانة نفسها لم تعد مجزية كما كانت في السابق ، لكن متولي يعتبر إدارته لها مسألة مبدأ ، فهو رجل غادر من أجل مبادئه وعاد من أجل مبادئه وعمل في الكراخانة خصيصا ليظل متمسكا بمبادئه ، وعند انعطافه بأحد الأزقة سمع صرخة امرأة تقف في شرفتها بالأعلى كانت صرخة قصيرة تحمل تحذيرا له فرفع رأسه نحوها ؛ لكنه لم يشعر إلا بضربات عنيفة ترج دماغه.
نقلت المرأة الخبر الى جميع أهل الحارة الذين تجمهروا لانقاذ متولي ، كان رأسه ينزف بشدة ، وحينما رفعه الرجال اكتشفوا قطع عرقوبي قدميه أيضا ، كان ذلك وحشيا جدا. انكرت المرأة قدرتها على تبين وجوه المعتدين الثلاثة ، قالت انهم كانوا ملثمين ، فعلوا فعلتهم بسرعة وفروا من المكان.
وفي الكراخانة اهتمت الفتيات بجروح متولي وربطت أم جميل عرقوبيه ببضعة خرق مزقتها من ردائها الوحيد ، فبان ثديان ضخمان لم يفقدا طلاوتهما رغم مضي السنين. ومضت الأيام بمتولي وقد فقد القدرة على المشي تماما ، لكنه أوفى بعهده لرجال الحارة فقد راسل أصدقاءه في العالم وراء الصحراء ، ثم ابهج الجميع بخبر قدوم أحد خبرائهم الى الحارة لتحقيق المعجزة. وهكذا ترقب الجميع الأجنبي بفارغ الصبر ، حتى رأوا صورة هودجه وقد تلاعبت بها أجواء الصحراء الساخنة فكانت تتموج من بعيد على جمل ضخم الكراديس.
كان شابا ثلاثينيا ابيضا مشرب الحمرة ، ذو شعر اسود شديد النعومة وكان قصير القامة حتى أن احدهم قال: القصير فتنة ..اللهم أجعله كذلك لخيرنا...
هبط الشاب وغرس حذائه في الرمال واتجه نحو متولي الذي قال باسما:
- لقد كبرت يا بني .. والدك قال بأنك أفضل من سيعالج مشكلتنا...
- اتمنى ذلك حقا .... ولماذا يحملك هاذان الرجلان يا سيد متولي؟
أجابه بحزن:
- قصة طويلة يا بني ...
كان الشاب يقلب وجهه في السماء باستمرار .... وكان امل اهل الحارة يتضاعف كلما رفع الشاب رأسه نحو السماء ... قال صباحي:
- فلتسترح يومين يا بني قبل ان ترهق نفسك بالتفكير ...
لكن الشاب قال:
- لا حاجة لي بذلك... مشكلتكم شديدة البساطة يا سيدي ... وسأحلها لكم خلال هذا النهار ... ولكن لا تجعلوا قائد الجمل يغادر لأنني لن ابقى هنا الى الغد ...
هلل الجميع عند سماع هذه البشريات ، الصبية الصغار لم يكونوا يفهمون شيئا لكنهم سعدوا بابتهاج الكبار فتباروا في الهرولة بين الحشد وهم يصرخون ضاحكين ...
قال الشاب :
- اجمعوا كثيرا من الأخشاب الجافة بل شديدة الجفاف والاقمشة والخرق التي لا ترغبون فيها ، وكذلك الورق وسائر ما لديكم من اخشاب حتى لو حطمتم ما تملكونه من خزائن ودواليب .. واجمعوها في هذه المساحة من الصحراء ...
ثم أخرج زجاجة متوسطة الحجم وقال:
- وهذا الزرنيخ ... سيسهل مهمتنا كثيرا ... وهو كاف جدا ... لكن حذار فهو سام وقاتل... لذلك من الأفضل أن أحتفظ به في جيبي..
صاح الرجال:
- هيا ..هيا... فلننفذ أوامر السيد الشاب .....
انطلق صباحي والرجال ليجمعوا ما استطاعوا ، وعاد الحمالان بمتولي ومعهم الشاب الى الكراخانة ، ... قالت أم جميل للفتيات:
- هذه مسألة حياة أو موت يا فتيات ... اتركوا الرجلين هنا ولنذهب جميعنا للعمل ...
انطلقت أم جميل والفتيات وتبعنها نساء الحارة الأخريات ، لم تبق قطعة أثاث خشبية الا وتم تحطيمها ونقلها الى الخلاء ، حتى تلك القطع التي مثلت ذكريات للبعض تخلى عنها هؤلاء عن طيب خاطر ... الاقمشة من ملاءات الأسرة والستائر تم تكويمها في المكان ، الأطفال لم يتوقفوا عن العمل ، الاسكافيون والحوذيون والسرماطية وغيرهم القوا بكل ما يملكونه في الكومة ... صاح صباحي:
- الشاب لم يخبرنا عن الكمية التي يجب ان نبلغها ...
قالت أم جميل:
- ما جمعناه ليس كثيرا يا صباحي .. لا أراه كذلك...
صمت الجميع بحيرة ؛ وهنا تقدم صبي صغير وبدأ في خلع ملابسه قطعة قطعة والقاها في الكومة ، قالت أم جميل:
- انها مسألة حياة او موت والعري ليس شيئا خطيرا .. لقد جربته مرارا وتكرارا ... هيا اخلعوا ملابسكم كما فعل الصبي...
ترددت الجماهير قليلا فتقدم صباحي وبدأ في خلع ملابسه وهو يقول:
تذكروا ما قاله لنا استاذ متولي .. قال اننا نتحرر حين نتعرى أمام ذواتنا .... افعلوا ذلك... تحرروا ...
استجاب الجميع وتطايرت ملابسهم نحو الكومة حتى عظم حجمها ... مضت الدقائق قبل أن يقفوا عراة أمام بعضهم ولكن بقلوب قوية واصرار وعزيمة على النجاة .... قال صباحي:
- اذهب أيها الفتى ونادي على الشاب الأجنبي .. أخبره أننا انتهينا من المهمة ....
لم ينتظر الفتى اكمال صباحي لحديثه بل هرول مسرعا وغاب داخل ازقة الحارة ... كانت الشمس التي لا تغيب تنتصف السماء وتزداد سخونة وكأنها ساخطة على الجميع ... السحابات بدأت تتفرق وكأنها تدرك نوايا اهل الحارة تجاهها ... ومن الحارة جاء صوت الفتى صائحا:
- كارثة ... كارثة يا أهل الحارة ... لقد شنقوا متولي والشاب الأجنبي.....
نزل الخبر كالصاعقة على الجميع فهرولوا الى الكراخانة ... كانت المسافة تزداد كلما قطعوا منها شبرا وكأنها تقاوم رغبتهم الجزعة في نفي الخبر ، لكنهم وصلوا أخيرا واقتحم صباحي وأم جميل باب الكراخانة وهناك شاهدا جسدي متولي والشاب الأجنبي يتدليان من السقف ..
صرخت أم جميل باسم متولي ... كان خدا متولي منتفخين ...رفع صباحي يدا ثابتة واقحم اصابعه في فم متولي وأخرج زجاجة الزرنيخ الملفوفة بورقة ...
فرد الورقة وقرأ بصوت عال:
-المادة رقم واحد: لا تتحرك كثيرا .. لا تفكر .. وستنال رضى الجبالي الكبير .....
(تمت)
- هذه الكراخانة هي نوارة الحارة .. حيث الانسان يعود الى المشاعية .. والى تلاحمه مع روح التحرر من خلال الطبيعة.. قال بأنه اختار العمل فيها لأنها تذكره بتلك البلاد خلف الصحراء ؛ فهناك تكتشف ذاتك بلا مخاوف ، وحينما يكتشف المرء ذاته فإنه يتعرى من الجبن ، ويتعرى من الالتصاق بالمادة ؛ فهو زاهد على نحو يختلف شيئا كثيرا عن الرهبنة. فالذات هي سلطانة الضمير ، وبصيرة الخير والشر.
لقد شعرنا حينها بالخوف عليه ؛ فحديثه يعني تحريضا على قوانين الجبالي ؛ تلك المدونة التي نحتها على واجهة الجبل الكلسي الشرقية ؛ لتحدد نطاق حركتنا وتفكيرنا ، كان القانون واضحا ؛ فكلما خففت من حركتك وتفكيرك نلت رضى الجبالي . كانت مدونة من مادة واحدة فقط. قال متولي:
- العالم ليس شرا كله كما تتصورون .. انه شر بالفعل وليس مجرد تصور ؛ لكن الشر هو من انجب لنا الخير ، وبدون الشر لم يكن ليكون هناك خير... فتلك البلاد -التي هي وراء الصحراء- عانت كما نعاني نحن في حارتنا الصغيرة هذه.
كان الحوذيون والاسكافيون وانا وباقي رجال الحارة نتحلق حوله ونتابع حديثه باهتمام ؛ قال وهو يغرس ابهاميه خلف حمالتي بنطاله المطاطيتين:
- لن تفهوا ولن تشعروا أبدا بكم الشر الذي كان يلوث تلك البلاد.... ولكن سوف تتفاجؤون عندما تعلموا أن الأعداء لم يجدوا مكانا للاجتماع فيه والتحاور الا كرخانة ككرخانة أم جميل... وهناك أعلنوا عهودهم الخمس التي تنطلق من احترام الحرية... مع ذلك يجب أن أنوه الى حقيقة مهمة وهي أن تلك الكراخانة ليست بائسة كهذه مع احترامي طبعا لأم جميل ؛ تلك الكراخانة يا سادة يا كرام انتجت أعظم الفنون والآداب ، .. منها تجلى شعر شعرائهم العاطفي والثوري ، وكان الرسامون لا يجدون فسحة من الخيال والتأمل والابداع الا على غرفها المعبقة بالبخور الهندي ، وقواد الحرب ؛ وضعوا جميعا اتفاقا بينهم ينص على عدم انتهاك حرمة الكراخانة ، واعتبارها منطقة حياد لأنها ملاذ الجنود في ساعات الأزمات... وهكذا لاذ الفقراء والمستضعفون بالكراخانة ، فاحتضنتهم بلا من ولا أذى ، وقبلوا هم بكل مافيها بل وسعدوا به وعملوا على تطويرها . امتلأت الكراخانة بعطايا القواد والجنود المتحاربين ، كانت معلبات السمن والقشدة والبازلاء المطبوخة والحلوى الطحينية والشعير والفول وحتى العسلية تنقل اليها على عربات تجرها عشرات الأحصنة قوية العضلات ؛ كانت كراخانة عظيمة ؛ مع ذلك ؛ يجب أن تعرفوا يا سادة يا كرام أنها هي نفسها كانت سبب توقد الحرب بين المتصارعين. وكما كانت كذلك فقد أضحت سببا للسلام.
لقد تعجبنا من كلام متولي ؛ وضرب بعض الرجال كفا بكف مندهشين من حكاويه العميقة واللطيفة في آن واحد.
صاحب القهوة ، العم صباحي لم يكن يشارك زبائنه الحديث ؛ ربما كان ذلك حصافة منه ، فالأحاديث غالبا ما تنحرف الى مغالطات ، والمغالطات تفرض على المرء أن ينحاز لطرف وهو لن يغامر بفقد الطرف الآخر ؛ خاصة أن سنين القحط قد طالت... لكنه في ذلك اليوم قال بصوت خفيض وهو يطرف بجفنين خاليين من الرموش ، وتجاعيد وجهه النحيل تنقبض متوزعة على جلده:
- يا أستاذ متولي..
التفتنا اليه جميعا ونظر اليه متولي منتظرا السؤال ؛ فجر صباحي نفسا من سجارة ملفوفة بغير اتقان على ورق البفرة:
- انت عالم فلك ..اليس كذلك؟
اسبل متولي جفنيه وقال بتواضع:
- بالتأكيد يا صباحي...
قال صباحي:
- اذن الا يمكنك أن تجد لنا حلا لمشكلة الجفاف هذه..أو على الأقل ان تحدد لنا متى سينتهي...
نظر متولي الى الأفق بحيرة وقال:
- صباحي...
- نعم يا استاذ متولي...
- هل أنت أعور يا صباحي...
أطفأ صباحي سجارته بحذائه المرقع وهز رأسه نفيا ، فقال متولي:
- مع ذلك ينادونك صباحي الأعور .. حقيقة لا أعرف السبب .. لكن خالتي حكت لي قصة غريبة عندما كنت صبيا .. فأنت لست صغيرا في السن حينها .. أنت أكبر مني تقريبا بعشر سنوات .. المهم أن خالتي وهي تخبز وتعجن وتطرح العجين داخل الفرن قالت والدقيق يعفر يديها والعرق ينحت وجهها بالأخاديد أنك ولدت أعورا .. كانت عينك مختفية خلف جلدة كبيرة تغطي محجر عينيك.... ثم أن شيئا ما .. ربما معجزة .. حدثت خلال سنوات حياتك الأولى ... هي أن هذه اللحيمة انكمشت وماتت خلاياها وظهرت عينك سليمة بالكامل...
ابتسم صباحي وحك ذقنه قائلا بسعادة:
- نعم .. حكت لي المرحومة أمي هذه القصة فأنا لا أتذكر شيئا ... لسنوات اعتبروني أعورا .. وفجأة عادت عيني الى الظهور..مع ذلك التصق اللقب بي حتى اليوم...ولكن ما علاقة هذا بسؤالي يا سيد متولي؟
قال متولي:
- علاقة قوية يا صديقي الطيب... فلكي نعرف لماذا جف ضرع السحاب علينا أن نزيل الغطاء عن أعيننا لنبصر... اذا كنت تعتقد أنك كنت الأعور الوحيد فأنت مخطئ يا عزيزي ، فالعور كثيرون بل ربما هم جميع أهل حارتنا هذه ...
قال صباحي:
- ولكنك من يستطيع ازالة هذا الغطاء فأنت من تعلم في العالم وراء الصحراء ...
طلب متولي من الصبي حجرا جديدا للارجيلة وقال:
- هذا صحيح الى حد ما ... انت لا تعرف كم الشقاء الذي عانيته لأفلت من تيه هذه الصحراء بل ولا تعلم المعجزات التي انقذتني من الموت فيها ... المسألة ليست في كوني عالما بالفلك ، فالمزارع القديم كان يعلم الفلك أكثر مني أنا الآن ... وكان يعلم متى ستهطل الأمطار فيستعد لها ومتى ستشح فيمتنع عن الزرع .. بل ويعلم متى ستزيد عن حاجة الزرع ومتى ستنقص عن ذلك ... وفوق هذا كان يعلم متى يكون المناخ باردا وحارا .. رطبا أو جافا ... لأنه كان ملتصقا بالأرض التصاقا لا انفصام له ولأنه أيضا تلقى جزءا من معرفته من آبائه... لكنه لو كان معنا اليوم لما فهم شيئا ولفقدت كل معارفه قيمتها في ظل هذا التخبط الذي نعيشه ، لا شيء صار مستقرا يا صباحي سوى جلستنا أمام قهوتك هذه منذ سنوات ، الا تتذكر قبل اربعة سنوات كيف انفجرت السماء بالمطر لمدة يوم واحد ثم توقفت حتى يومنا هذا .. بالطبع لم نستفد شيئا من مطرة يوم واحد .. ولم نتهيأ حتى لهذا اليوم لكي نستفيد منها ان كان ذلك ممكنا ... ولكن هذا ما حدث... فالسببية التي كانت تعين المزارع القديم على فهم العلاقات بين الظواهر فقدت انتظامها ...
قال صباحي بحزن:
- لكننا نموت يا سيد متولي ... ضاع الهاربون من الحارة في الصحراء ولم نعرف عنهم شيئا ... يجب أن نفكر في حل...
- من يفكر يفقد رضى الجبالي .. وهذا خطر ..
قال أحد الحوذيين ذلك... ثم اردف:
- إن حصاني نفسه بات يخاف من التفكير .. إنني لا أمزح.. فحصاني لم يعد محتاجا لضربات السوط لكي يعرف طريقه دون توجيه لقد حفظه حتى لا يفكر ... لم يخبرني بذلك بالطبع فالأحصنة لا تكلم البشر ، لكن علاقتي بحصاني هذا لها سنوات ففهمته وفهمني...
قال حوذي آخر مازحا:
- بضعة سنوات مع الحيوانات تجعلك تفهمها .. انا لم افهم زوجتي حتى الآن رغم مرور ثلاثين عاما على الزواج ...
قال صباحي:
- ولكنها تفهمك جيدا يا حزونبل .. ولذلك انت لن تستطيع أبدا فهمها ...
ضحك حزونبل وأمن على ذلك:
- نعم وحق الله يا صباحي .. تفهمني قبل أن اتفوه بكلمة .. حتى أنها لو ارادت خيانتي فستستطيع ذلك بكل سهولة ...
ثم ارتسمت جدية على وجه حزونبل وقال مخاطبا متولي:
- لكن يا سيد متولي عليك ان تفكر حقا في ايجاد حل لنا..جوادي صار هزيلا لا يقوى على جر العربة ... وهو مصدر عيشي الوحيد....نزول مطرة واحدة ستنبت العشب له والقمح لنا ... ربما نحن قد نخاف التفكير لكنك لست كذلك .. انت تفكر دائما دون خوف من الجبالي ... وما دمت قد فكرت من قبل دون خوف فما المانع من أن تفكر الآن أيضا ...
قال صباحي:
- أروكان الحسناء شاخت يا متولي .. كان شعر اغصانها يتهدل مغتسلا بماء الترعة الصافي ... الآن تقف منحنية بألم .. وكأنها لم تكن شجرة من قبل ... والجبالي أيضا شاخ لكنه لم يفقد عزم حنقه علينا ... مضت القرون دون أن يلين له جانب .. أنه قاس كنيزك من صهارة الحديد المتجمدة...
استنشق متولي نفسا طويلا وزفره بصوت مسموع ؛ كانت ملامحه تعكس تأملا عميقا ؛ وران الصمت على الجميع. الحارة استقبلت صمتهم بشحوب أكبر ، شرفات المباني خلت من حبال الغسيل ، ومن ضحكات الأطفال ، النسوة نسين كيف يصنعن الخبز ، والشمس تستطيل بنهارات حارة لا نهاية لها ، وتحوم في الأفق سحابات صغيرة ساخرة فلا أمل منها... تأمل متولي ذلك كله وقال:
- الحل هو أن اراسل اصدقائي في العالم وراء الصحراء .. ربما أجد لديهم ما ينقذنا أو حتى ما يسهل علينا الهروب من هذه الحارة البائسة وليبق جدنا فيها غاضبا بشيخوخة مضطردة يقتات فيها على ذاته.
- إذا قلت هذا فحساب جميع اراجيلك عندي اليوم يا سيد متولي....
قال صباحي ذلك ثم لف الصمت الجميع.. كان يحوم أمام أعينهم شبح من الأمل.... واثر ذلك مط متولي حمالتي بنطاله فارتدتا على كرشه بصوت مسموع وقال وهو يغادر:
- ها ... الى اللقاء إذن ...
سار متولي بين الأزقة التي فقدت رائحتها تماما ، الكراخانة نفسها لم تعد مجزية كما كانت في السابق ، لكن متولي يعتبر إدارته لها مسألة مبدأ ، فهو رجل غادر من أجل مبادئه وعاد من أجل مبادئه وعمل في الكراخانة خصيصا ليظل متمسكا بمبادئه ، وعند انعطافه بأحد الأزقة سمع صرخة امرأة تقف في شرفتها بالأعلى كانت صرخة قصيرة تحمل تحذيرا له فرفع رأسه نحوها ؛ لكنه لم يشعر إلا بضربات عنيفة ترج دماغه.
نقلت المرأة الخبر الى جميع أهل الحارة الذين تجمهروا لانقاذ متولي ، كان رأسه ينزف بشدة ، وحينما رفعه الرجال اكتشفوا قطع عرقوبي قدميه أيضا ، كان ذلك وحشيا جدا. انكرت المرأة قدرتها على تبين وجوه المعتدين الثلاثة ، قالت انهم كانوا ملثمين ، فعلوا فعلتهم بسرعة وفروا من المكان.
وفي الكراخانة اهتمت الفتيات بجروح متولي وربطت أم جميل عرقوبيه ببضعة خرق مزقتها من ردائها الوحيد ، فبان ثديان ضخمان لم يفقدا طلاوتهما رغم مضي السنين. ومضت الأيام بمتولي وقد فقد القدرة على المشي تماما ، لكنه أوفى بعهده لرجال الحارة فقد راسل أصدقاءه في العالم وراء الصحراء ، ثم ابهج الجميع بخبر قدوم أحد خبرائهم الى الحارة لتحقيق المعجزة. وهكذا ترقب الجميع الأجنبي بفارغ الصبر ، حتى رأوا صورة هودجه وقد تلاعبت بها أجواء الصحراء الساخنة فكانت تتموج من بعيد على جمل ضخم الكراديس.
كان شابا ثلاثينيا ابيضا مشرب الحمرة ، ذو شعر اسود شديد النعومة وكان قصير القامة حتى أن احدهم قال: القصير فتنة ..اللهم أجعله كذلك لخيرنا...
هبط الشاب وغرس حذائه في الرمال واتجه نحو متولي الذي قال باسما:
- لقد كبرت يا بني .. والدك قال بأنك أفضل من سيعالج مشكلتنا...
- اتمنى ذلك حقا .... ولماذا يحملك هاذان الرجلان يا سيد متولي؟
أجابه بحزن:
- قصة طويلة يا بني ...
كان الشاب يقلب وجهه في السماء باستمرار .... وكان امل اهل الحارة يتضاعف كلما رفع الشاب رأسه نحو السماء ... قال صباحي:
- فلتسترح يومين يا بني قبل ان ترهق نفسك بالتفكير ...
لكن الشاب قال:
- لا حاجة لي بذلك... مشكلتكم شديدة البساطة يا سيدي ... وسأحلها لكم خلال هذا النهار ... ولكن لا تجعلوا قائد الجمل يغادر لأنني لن ابقى هنا الى الغد ...
هلل الجميع عند سماع هذه البشريات ، الصبية الصغار لم يكونوا يفهمون شيئا لكنهم سعدوا بابتهاج الكبار فتباروا في الهرولة بين الحشد وهم يصرخون ضاحكين ...
قال الشاب :
- اجمعوا كثيرا من الأخشاب الجافة بل شديدة الجفاف والاقمشة والخرق التي لا ترغبون فيها ، وكذلك الورق وسائر ما لديكم من اخشاب حتى لو حطمتم ما تملكونه من خزائن ودواليب .. واجمعوها في هذه المساحة من الصحراء ...
ثم أخرج زجاجة متوسطة الحجم وقال:
- وهذا الزرنيخ ... سيسهل مهمتنا كثيرا ... وهو كاف جدا ... لكن حذار فهو سام وقاتل... لذلك من الأفضل أن أحتفظ به في جيبي..
صاح الرجال:
- هيا ..هيا... فلننفذ أوامر السيد الشاب .....
انطلق صباحي والرجال ليجمعوا ما استطاعوا ، وعاد الحمالان بمتولي ومعهم الشاب الى الكراخانة ، ... قالت أم جميل للفتيات:
- هذه مسألة حياة أو موت يا فتيات ... اتركوا الرجلين هنا ولنذهب جميعنا للعمل ...
انطلقت أم جميل والفتيات وتبعنها نساء الحارة الأخريات ، لم تبق قطعة أثاث خشبية الا وتم تحطيمها ونقلها الى الخلاء ، حتى تلك القطع التي مثلت ذكريات للبعض تخلى عنها هؤلاء عن طيب خاطر ... الاقمشة من ملاءات الأسرة والستائر تم تكويمها في المكان ، الأطفال لم يتوقفوا عن العمل ، الاسكافيون والحوذيون والسرماطية وغيرهم القوا بكل ما يملكونه في الكومة ... صاح صباحي:
- الشاب لم يخبرنا عن الكمية التي يجب ان نبلغها ...
قالت أم جميل:
- ما جمعناه ليس كثيرا يا صباحي .. لا أراه كذلك...
صمت الجميع بحيرة ؛ وهنا تقدم صبي صغير وبدأ في خلع ملابسه قطعة قطعة والقاها في الكومة ، قالت أم جميل:
- انها مسألة حياة او موت والعري ليس شيئا خطيرا .. لقد جربته مرارا وتكرارا ... هيا اخلعوا ملابسكم كما فعل الصبي...
ترددت الجماهير قليلا فتقدم صباحي وبدأ في خلع ملابسه وهو يقول:
تذكروا ما قاله لنا استاذ متولي .. قال اننا نتحرر حين نتعرى أمام ذواتنا .... افعلوا ذلك... تحرروا ...
استجاب الجميع وتطايرت ملابسهم نحو الكومة حتى عظم حجمها ... مضت الدقائق قبل أن يقفوا عراة أمام بعضهم ولكن بقلوب قوية واصرار وعزيمة على النجاة .... قال صباحي:
- اذهب أيها الفتى ونادي على الشاب الأجنبي .. أخبره أننا انتهينا من المهمة ....
لم ينتظر الفتى اكمال صباحي لحديثه بل هرول مسرعا وغاب داخل ازقة الحارة ... كانت الشمس التي لا تغيب تنتصف السماء وتزداد سخونة وكأنها ساخطة على الجميع ... السحابات بدأت تتفرق وكأنها تدرك نوايا اهل الحارة تجاهها ... ومن الحارة جاء صوت الفتى صائحا:
- كارثة ... كارثة يا أهل الحارة ... لقد شنقوا متولي والشاب الأجنبي.....
نزل الخبر كالصاعقة على الجميع فهرولوا الى الكراخانة ... كانت المسافة تزداد كلما قطعوا منها شبرا وكأنها تقاوم رغبتهم الجزعة في نفي الخبر ، لكنهم وصلوا أخيرا واقتحم صباحي وأم جميل باب الكراخانة وهناك شاهدا جسدي متولي والشاب الأجنبي يتدليان من السقف ..
صرخت أم جميل باسم متولي ... كان خدا متولي منتفخين ...رفع صباحي يدا ثابتة واقحم اصابعه في فم متولي وأخرج زجاجة الزرنيخ الملفوفة بورقة ...
فرد الورقة وقرأ بصوت عال:
-المادة رقم واحد: لا تتحرك كثيرا .. لا تفكر .. وستنال رضى الجبالي الكبير .....
(تمت)