قبل أن أبدأ في كتابة هذه القصة الوعظية المملة كروايات بلزاك الارثوذوكسية ، سأصنع كوب شاي باللبن ، ثواني وأعود اليكم ؛ .................. ؛ الغرض الأساسي من كتابتي لهذه التجربة الناجحة والرائعة هو منح الأجيال القادمة مشكاة يتلمسون على ضوئها طريقهم نحو المستقبل لمواصلة مسيرتنا كأسلاف يفتخر بنضالهم من أجل مبادئهم المثلى وايمانهم الذي لا يتزعزع بالانسانية والسلام الانساني. لابد للأجيال القادمة أن تمتلك ماض أخضر وكما يقول المثل من ليس لديه كبير فليشتري له كبيرا.
لقد عينت أمينا اعلاميا لمنظمة السلام الانساني ؛ هناك عشرات من المنظمات كانت تحمل ذات الاسم في ذلك الوقت ، لكن منظمتنا لم تكن كأي منظمة. في أثناء الحرب الأهلية الطاحنة التي اهلكت الحرث والنسل ، كما يقال دائما كنت انا جنديا شابا ضمن مليشيات كونها حزب قوى الهامش الوطني لمقاومة استبداد واستئثار عرقيات أخرى بالسلطة والثروة لسنوات أو حتى لعقود.... مليشياتنا كانت خفيفة الحركة وسريعة ، وأرهقت جيش الحكومة. هذه الأخيرة قررت أن تخلق بدورها قوات خفيفة الحركة اقل التزاما بضوابط القانون العسكري وتعتمد على عدد قليل من الضباط ، مع اسلحة خفيفة ومدرعات سريعة وأقل حماية مما يجب... كانت فكرة عبقرية من النظام ؛ فلقد استطاعت هذه المليشيات ارهاق قواتنا ، فالسرعة التي كانت سبب تفوقنا انتهت بالاضافة الى أن مليشيات الحكومة كانت تحصل على دعم متواصل وسخي.. وهكذا مال الميزان قليلا الى صالح النظام. دماؤنا كانت حارة جدا ، زادتها اشعة الشمس الحارقة سخونة ، الغضب الأعمى والرغبة في افناء الآخر كانت هي التي تطلق الرصاص ، الدوشكا التي كانت مخصصة لحصد الطائرات تحولت لحصد المشاة من الأعداء. ليس مدهشا أن تشاهد زميلك يسقط بعد أن تنفجر جمجمته وتتحول الى اشلاء من الدم والسائل الدماغي الشفاف والمخ. ليس مخيفا أن تصاب ساقك برصاصة فتهشمها تماما دون ان تشعر بذلك الا حين تحاول التحرك من موقعك . كنا نمارس سياسة الأرض المحروقة وكان العدو يفعل ذلك أيضا ؛ الاغتصاب الجماعي ، قتل المدنيين حرق الاكواخ ، نهب المواشي ، مهاجمة الأسواق ، .... كانت الحرب تستبيح كل المقدسات الأخلاقية. لا احتاج طبعا أن احكي بالتفصيل الآلام التي تخلقها الحرب ، فهذه معلومات متوفرة لمن لم يتذوق طعم الحرب يوما ما . لكن لابد من هذه الاشارة الصغيرة لهذه الآلام لكي تتمكن الأجيال التي ستحمل الراية من استشعار خطورة المهمة التي انجزها اسلافهم. إن التحول المفصلي حدث في ساعات قليلة لكل مجريات الحرب ، حدث غريب جدا ومدهش ، فلمدة ثلاث ساعات ظلت الامطار الغزيرة تهطل فوق رؤوسنا ورؤوس اعدائنا ، المطر الغزير اوقف الحرب تماما ؛ فالأرض الطينية التي تحولت الى مستنقعات وضعف الرؤية ، ومحاولة حماية الذخيرة ، وانقطاع الاتصالات بين الوحدات ، كل ذلك أدى الى هدنة مؤقتة بين المليشيات. نصبنا الخيام ونصب الاعداء خيامهم على بعد كيلو مترات قليلة ، لقد كانت خطتنا هي بلوغ الجبل لكي نتحصن فيه وقد ادرك العدو ذلك فحاول عرقلة سيرنا وهكذا التحمنا في منطقة سهلية واسعة وهذا من أشد ساحات العمليات خطورة لانعدام التأمين اللازم. هنا حيث تكون الشجاعة والثبات هما العنصر الحاسم للنصر. كنا في الواقع نحتاج لهذه الهدنة الاجبارية بعد ساعات من قتال مرير ودموي ، صوت رشح المطر مختلطا بالرعد والبرق ورمادية السماء المدهونة بالغمام السخي ، سرب الى نفوسنا شيء من الغبطة ورغبة جماعية لتأمل الواقع بقلب متبصر ، ويبدو أنني لم أكن الوحيد الذي تمنى ايقاف هذه الحرب فالقائدان من الطرفين شعرا بنفس تلك الرغبة ، لقد كان المطر الرائع يعزف موسيقى السلام داخل قلبيهما ، فقررا اللقاء معا للتفاوض. وقد تم ذلك دون انتظار توقف المطر. كانا عجلين جدا ، وكنت مرافق وحارس القائد العظيم ، حيث التقى بنظيره تحت خيمة في وسط المسافة بين المعسكرين. جلس الرجلان واجمين لدقائق ، كانا يحدقان في بعضهما ببرود. وكنت والمرافقين ننقل ابصارنا بين القائدين في انتظار بدء الحوار. القائد الآخر أخرج علبة سجائر وقدم لفافة منها لقائدنا العظيم الذي اخذها ثم أخرج مبسما ذهبيا حشر في فجوته عقابها واشعلها وظل الرجلان يدخنان بصمت وبتأمل عميق. أحسست حينها أنهما كانا في الواقع يتحاوران بلا صوت...وكان صوت المطر هو من يوجه الحوار الى نهايته التي تمثلت في أن مد قائدنا كفه الى القائد الآخر ، هذا الذي نظر الى كف قائدنا ثم لم يتردد في مد كفه هو الآخر لمصافحته.
ثم خرج القائدان دون ان ينبسا ببنت شفة. لقد تم الحوار دون أن يحدث. مع ذلك فعندما وصلنا إلى معسكرنا أمرني القائد بكتابة بيان عسكري بما تم... نظرت الى القائد بدهشة ؛ فنظر لي بقسوة ؛ حينها حنيت رأسي معلنا خضوعي للأمر. توقفت الأمطار بشكل متدرج ولم يبق منها سوى رزاز خفيف لكن الغمام ظل يراوح مكانه ويصبغ الكون برمادية كئيبة وعاطفية ، جلست داخل الخيمة وأخرجت كراسة وقلما لكتابة بيان عن حوار لم يحدث فيه أي حوار...وكان على أن اكون صادقا في كل حرف أكتبه فأصغر معلومة كاذبة يمكنها أن تؤدي الى نتائج كارثية...هنا حيث يكون للصدق قيمة كبيرة في صيانتك من الوقوع تحت طائلة المحاكمة العسكرية. وهكذا قررت أن أكتب هذه القصة على هذا النحو. حملت الورقة وقدمتها للقائد ؛ الذي تأملها بعدم اكتراث ثم قال:
- هذا ليس بيانا عسكريا ... هذا خطاب حب وعشق... الا تعرف كيف يكتب الخطاب العسكري؟
اسقط في يدي ولم اعقب ، مزق القائد العظيم البيان . وقال: سأخطر القيادة السياسية فقط. لا نحتاج لبيان.
ظللت صامتا وظل هو يدخن بتأمل عميق. قال:
- اجلس.
نفذت الأمر على الفور . وجلست قبالة القائد ، ثم كسر الصمت بيننا صوت زقزقة سرب عصافير منتشية برزاز المطر ، كانت تعبر السماء بسرعة وتصيح بضجيج جماعي لرفض شعورها بالعزلة ومحاولة الاندماج مع الطبيعة الخلابة. قال القائد:
- القيادة السياسية لن تقبل بما حدث...سواء قيادتنا أم قيادة الطرف الآخر...فالحرب هي مصدر رزقهم المستمر... نحن لسنا سوى وقود لها وبيادق لهم.... حاربت لعقدين من الزمان ؛ حاربت دون تساؤل ، ودون نقاش ، فالعسكرية تجري داخلي مجرى الدم...إن لم اطلق رصاصة كل يوم أشعر بفراغ عريض.. إن لم اسمع صوت الذخيرة أصاب باكتئاب...ان لم ارتدي بذتي العسكرية وعلى أكتافي الاسبليطتان الموشيتان بالنجوم والنسور ، لا أشعر بأنني رجل... لكن هذه المطرة التي استمرت لساعات قليلة دفعتني الى تأمل حقيقتنا كبشر ، كحاملي آيدولوجيات ورغبات وأطماع... نحن الذين نطالب بالحرية وفق معاييرنا المتناقضة .. كل هذا جعل الحقائق تتكشف أمام بصري. إن اردنا الحرية والمساواة والعدل فلن يتم ذلك الا عبر السلام...ولا شيء سوى السلام...الحرب وسيلة تكتيكية للوصول الى ذلك السلام ، وعلى أية حال فلكي نبلغ السلام لابد أولا من أن يعترف كل طرف بالآخر وبحقه في الوجود. أما الحرب فهي رفض لوجود الآخر ومحاولة لإفنائه ، وهذا ما يؤخر اعترافنا بالحقيقة وبشرط السلام الأولي. ما حدث بيني وبين القائد الآخر لخص كل هذه الرؤية.. لقد تصافحنا وهكذا اعترف كل منا بالآخر... كان ذلك كافيا جدا على ما أعتقد ولقد اتفق هو أيضا معي في هذا الاعتقاد. ربما تتساءل داخلك عن مشكلة التفاصيل. في الواقع التفاصيل ليست مشكلة بعد تحقيق شرط الاعتراف... التفاصيل تكون مشكلة عندما يكون الاعتراف بالآخر كاذبا وزائفا ومخاتلا.
كنت أفكر حينها في تعديل وضع قبعتي ، لكن ذلك يخالف الاحترام والانضباط العسكري ، رغم أننا نجلس جلسة ودية ، قلت:
- هل تسمح لي بتعديل القبعة سيدي؟
اغمض عينيه وفتحهما ، فعدلت القبعة التي كانت مشدودة بشدة من الخلف حتى اصابني ذلك بالصداع. ارخيت حزامها قليلا وارتحت ، وظللت جالسا في صمت.
قال القائد:
- البارحة كنت اطالع صورا قديمة لي ولعائلتي ... صورا قديمة جدا حيث كنا أطفالا أبرياء النظرات...
انكمش وجه القائد ثم انفجر باكيا والدموع تهطل من عينيه.. قال دون أن يتحرك:
- ماذا حدث لنا ... لماذا اخترنا هذا الطريق... طريق القتل والدماء.....لقد انجرفنا وراء وهم العظمة ... حتى الحقوق كان بامكاننا ان نستخدم اساليب أقل دموية للمطالبة بها...
مسح عينيه بكم قميصه.. وجر نفسا عميقا ...
- ان كان ولابد من فرض السلام فعلينا ان نقاوم القيادة السياسية التي تاجرت بنا لعقود......منذ اليوم سيتغير اسم حركتنا الى منظمة السلام الانساني... نعم .. فالسلام الانساني سيكون رسالتنا هذه...غدا ستتحرك ارتالنا العسكرية لاقتلاع السلطة من التجار السياسيين وسنبسط السلام على كافة ارجاء الدولة...
***
كان عقلا الضابطين متماثلين ومتوافقين ؛ لقد قررا التحالف تحت منظمة السلام الانساني والدخول الى العاصمة والاستيلاء على السلطة ، لقد كان تحالفهما الصامت والسريع هذا محققا للصدمة والمفاجأة اللازمين ، حيث فقدت القيادة السياسية القدرة على جمع شتاتها بسرعة ، وخلال ساعات قليلة كانت جميع القيادات السياسية داخل السجون.
بحكم متابعتي للقائد العظيم تم تعييني في أول تشكيل حكومي كقائد لحماية أمن السلام الانساني ، وهكذا تشكلت وحدة خاصة لتحقيق هذا الهدف السامي ؛ وحدة حماية السلام الانساني ؛ لقد منحوني سلطة مطلقة في رسم آليات العمل ؛ كانت ثقة عظيمة من القيادة وكنت كفأ لها ، قمت بتقسيم الوحدة الى أوتار ، كل وتر لديه مهمة واحدة لتحقيق الغاية النهائية. فهناك وتر الدعاية والاعلام ، وهناك وتر الرقابة ، وهناك وتر الوقاية ، وهناك وتر الدفاع المضاد وهناك وتر التقييم ثم أخيرا وتر الدراسات الاستراتيجية ودراسات المستقبل.
كان القائد العظيم يحصل يوميا ومنذ الصباح الباكر على تقارير مفصلة عن حالة السلام الانساني ومؤشرات استقراره داخل الدولة. وعن درجات قياس إيمان الشعب بضرورة السلام الانساني ، لقد كان الشعب مفعما بالأمل ، فلا أحد لا يحب السلام الانساني سوى تجار الحروب من الخونة والعملاء ... هؤلاء الذين حاولوا دائما زعزعة السلام الانساني عبر بث الفتن والسموم ، وتحريض الشعب على التمرد ، لكن الشعب كان أذكى منهم ، تجار الحروب من الخونة والعملاء كانوا يتلقون الدعم الخارجي الأجنبي لتهديد سلامنا الانساني ، وكنا نرصد كل تحركاتهم بدقة ، لقد حصلت على تفويض مطلق بالتعامل الحاسم مع كل من يهدد سلامنا الانساني ، وكنت استمد شجاعتي من إيماني بالسلام الانساني ومن إيماني بعزيمة واخلاص القائد العظيم.
إن الأهداف والغايات العظيمة لا تتحقق الا بالكثير من التضحيات ، فمن لا يؤمن بالسلام الانساني لا يستحق الحياة ، لا يستحق حماية القانون ، لا يستحق سوى السحق حد الفناء. وهكذا كان علي تنظيف الدولة من أعداء السلام الانساني بعمليات تطهير عميقة ومستمرة ، تطهير كل مفاصل الدولة من هؤلاء الاشرار محبي الحرب والموت والقتل أعداء السلام الانساني...كانت حربي عليهم بلا هوادة ، وتدميري لهم بلا رحمة ... وقمعي لأصواتهم المنكرة لا تردد فيه.... ان السلام الانساني كرسالة خالدة لا يتحمل الشفقة أو التهاون او التعاطف..فهو كل ما نملكه في هذه الحياة....كل ما نملكه حقا....
(تمت)
لقد عينت أمينا اعلاميا لمنظمة السلام الانساني ؛ هناك عشرات من المنظمات كانت تحمل ذات الاسم في ذلك الوقت ، لكن منظمتنا لم تكن كأي منظمة. في أثناء الحرب الأهلية الطاحنة التي اهلكت الحرث والنسل ، كما يقال دائما كنت انا جنديا شابا ضمن مليشيات كونها حزب قوى الهامش الوطني لمقاومة استبداد واستئثار عرقيات أخرى بالسلطة والثروة لسنوات أو حتى لعقود.... مليشياتنا كانت خفيفة الحركة وسريعة ، وأرهقت جيش الحكومة. هذه الأخيرة قررت أن تخلق بدورها قوات خفيفة الحركة اقل التزاما بضوابط القانون العسكري وتعتمد على عدد قليل من الضباط ، مع اسلحة خفيفة ومدرعات سريعة وأقل حماية مما يجب... كانت فكرة عبقرية من النظام ؛ فلقد استطاعت هذه المليشيات ارهاق قواتنا ، فالسرعة التي كانت سبب تفوقنا انتهت بالاضافة الى أن مليشيات الحكومة كانت تحصل على دعم متواصل وسخي.. وهكذا مال الميزان قليلا الى صالح النظام. دماؤنا كانت حارة جدا ، زادتها اشعة الشمس الحارقة سخونة ، الغضب الأعمى والرغبة في افناء الآخر كانت هي التي تطلق الرصاص ، الدوشكا التي كانت مخصصة لحصد الطائرات تحولت لحصد المشاة من الأعداء. ليس مدهشا أن تشاهد زميلك يسقط بعد أن تنفجر جمجمته وتتحول الى اشلاء من الدم والسائل الدماغي الشفاف والمخ. ليس مخيفا أن تصاب ساقك برصاصة فتهشمها تماما دون ان تشعر بذلك الا حين تحاول التحرك من موقعك . كنا نمارس سياسة الأرض المحروقة وكان العدو يفعل ذلك أيضا ؛ الاغتصاب الجماعي ، قتل المدنيين حرق الاكواخ ، نهب المواشي ، مهاجمة الأسواق ، .... كانت الحرب تستبيح كل المقدسات الأخلاقية. لا احتاج طبعا أن احكي بالتفصيل الآلام التي تخلقها الحرب ، فهذه معلومات متوفرة لمن لم يتذوق طعم الحرب يوما ما . لكن لابد من هذه الاشارة الصغيرة لهذه الآلام لكي تتمكن الأجيال التي ستحمل الراية من استشعار خطورة المهمة التي انجزها اسلافهم. إن التحول المفصلي حدث في ساعات قليلة لكل مجريات الحرب ، حدث غريب جدا ومدهش ، فلمدة ثلاث ساعات ظلت الامطار الغزيرة تهطل فوق رؤوسنا ورؤوس اعدائنا ، المطر الغزير اوقف الحرب تماما ؛ فالأرض الطينية التي تحولت الى مستنقعات وضعف الرؤية ، ومحاولة حماية الذخيرة ، وانقطاع الاتصالات بين الوحدات ، كل ذلك أدى الى هدنة مؤقتة بين المليشيات. نصبنا الخيام ونصب الاعداء خيامهم على بعد كيلو مترات قليلة ، لقد كانت خطتنا هي بلوغ الجبل لكي نتحصن فيه وقد ادرك العدو ذلك فحاول عرقلة سيرنا وهكذا التحمنا في منطقة سهلية واسعة وهذا من أشد ساحات العمليات خطورة لانعدام التأمين اللازم. هنا حيث تكون الشجاعة والثبات هما العنصر الحاسم للنصر. كنا في الواقع نحتاج لهذه الهدنة الاجبارية بعد ساعات من قتال مرير ودموي ، صوت رشح المطر مختلطا بالرعد والبرق ورمادية السماء المدهونة بالغمام السخي ، سرب الى نفوسنا شيء من الغبطة ورغبة جماعية لتأمل الواقع بقلب متبصر ، ويبدو أنني لم أكن الوحيد الذي تمنى ايقاف هذه الحرب فالقائدان من الطرفين شعرا بنفس تلك الرغبة ، لقد كان المطر الرائع يعزف موسيقى السلام داخل قلبيهما ، فقررا اللقاء معا للتفاوض. وقد تم ذلك دون انتظار توقف المطر. كانا عجلين جدا ، وكنت مرافق وحارس القائد العظيم ، حيث التقى بنظيره تحت خيمة في وسط المسافة بين المعسكرين. جلس الرجلان واجمين لدقائق ، كانا يحدقان في بعضهما ببرود. وكنت والمرافقين ننقل ابصارنا بين القائدين في انتظار بدء الحوار. القائد الآخر أخرج علبة سجائر وقدم لفافة منها لقائدنا العظيم الذي اخذها ثم أخرج مبسما ذهبيا حشر في فجوته عقابها واشعلها وظل الرجلان يدخنان بصمت وبتأمل عميق. أحسست حينها أنهما كانا في الواقع يتحاوران بلا صوت...وكان صوت المطر هو من يوجه الحوار الى نهايته التي تمثلت في أن مد قائدنا كفه الى القائد الآخر ، هذا الذي نظر الى كف قائدنا ثم لم يتردد في مد كفه هو الآخر لمصافحته.
ثم خرج القائدان دون ان ينبسا ببنت شفة. لقد تم الحوار دون أن يحدث. مع ذلك فعندما وصلنا إلى معسكرنا أمرني القائد بكتابة بيان عسكري بما تم... نظرت الى القائد بدهشة ؛ فنظر لي بقسوة ؛ حينها حنيت رأسي معلنا خضوعي للأمر. توقفت الأمطار بشكل متدرج ولم يبق منها سوى رزاز خفيف لكن الغمام ظل يراوح مكانه ويصبغ الكون برمادية كئيبة وعاطفية ، جلست داخل الخيمة وأخرجت كراسة وقلما لكتابة بيان عن حوار لم يحدث فيه أي حوار...وكان على أن اكون صادقا في كل حرف أكتبه فأصغر معلومة كاذبة يمكنها أن تؤدي الى نتائج كارثية...هنا حيث يكون للصدق قيمة كبيرة في صيانتك من الوقوع تحت طائلة المحاكمة العسكرية. وهكذا قررت أن أكتب هذه القصة على هذا النحو. حملت الورقة وقدمتها للقائد ؛ الذي تأملها بعدم اكتراث ثم قال:
- هذا ليس بيانا عسكريا ... هذا خطاب حب وعشق... الا تعرف كيف يكتب الخطاب العسكري؟
اسقط في يدي ولم اعقب ، مزق القائد العظيم البيان . وقال: سأخطر القيادة السياسية فقط. لا نحتاج لبيان.
ظللت صامتا وظل هو يدخن بتأمل عميق. قال:
- اجلس.
نفذت الأمر على الفور . وجلست قبالة القائد ، ثم كسر الصمت بيننا صوت زقزقة سرب عصافير منتشية برزاز المطر ، كانت تعبر السماء بسرعة وتصيح بضجيج جماعي لرفض شعورها بالعزلة ومحاولة الاندماج مع الطبيعة الخلابة. قال القائد:
- القيادة السياسية لن تقبل بما حدث...سواء قيادتنا أم قيادة الطرف الآخر...فالحرب هي مصدر رزقهم المستمر... نحن لسنا سوى وقود لها وبيادق لهم.... حاربت لعقدين من الزمان ؛ حاربت دون تساؤل ، ودون نقاش ، فالعسكرية تجري داخلي مجرى الدم...إن لم اطلق رصاصة كل يوم أشعر بفراغ عريض.. إن لم اسمع صوت الذخيرة أصاب باكتئاب...ان لم ارتدي بذتي العسكرية وعلى أكتافي الاسبليطتان الموشيتان بالنجوم والنسور ، لا أشعر بأنني رجل... لكن هذه المطرة التي استمرت لساعات قليلة دفعتني الى تأمل حقيقتنا كبشر ، كحاملي آيدولوجيات ورغبات وأطماع... نحن الذين نطالب بالحرية وفق معاييرنا المتناقضة .. كل هذا جعل الحقائق تتكشف أمام بصري. إن اردنا الحرية والمساواة والعدل فلن يتم ذلك الا عبر السلام...ولا شيء سوى السلام...الحرب وسيلة تكتيكية للوصول الى ذلك السلام ، وعلى أية حال فلكي نبلغ السلام لابد أولا من أن يعترف كل طرف بالآخر وبحقه في الوجود. أما الحرب فهي رفض لوجود الآخر ومحاولة لإفنائه ، وهذا ما يؤخر اعترافنا بالحقيقة وبشرط السلام الأولي. ما حدث بيني وبين القائد الآخر لخص كل هذه الرؤية.. لقد تصافحنا وهكذا اعترف كل منا بالآخر... كان ذلك كافيا جدا على ما أعتقد ولقد اتفق هو أيضا معي في هذا الاعتقاد. ربما تتساءل داخلك عن مشكلة التفاصيل. في الواقع التفاصيل ليست مشكلة بعد تحقيق شرط الاعتراف... التفاصيل تكون مشكلة عندما يكون الاعتراف بالآخر كاذبا وزائفا ومخاتلا.
كنت أفكر حينها في تعديل وضع قبعتي ، لكن ذلك يخالف الاحترام والانضباط العسكري ، رغم أننا نجلس جلسة ودية ، قلت:
- هل تسمح لي بتعديل القبعة سيدي؟
اغمض عينيه وفتحهما ، فعدلت القبعة التي كانت مشدودة بشدة من الخلف حتى اصابني ذلك بالصداع. ارخيت حزامها قليلا وارتحت ، وظللت جالسا في صمت.
قال القائد:
- البارحة كنت اطالع صورا قديمة لي ولعائلتي ... صورا قديمة جدا حيث كنا أطفالا أبرياء النظرات...
انكمش وجه القائد ثم انفجر باكيا والدموع تهطل من عينيه.. قال دون أن يتحرك:
- ماذا حدث لنا ... لماذا اخترنا هذا الطريق... طريق القتل والدماء.....لقد انجرفنا وراء وهم العظمة ... حتى الحقوق كان بامكاننا ان نستخدم اساليب أقل دموية للمطالبة بها...
مسح عينيه بكم قميصه.. وجر نفسا عميقا ...
- ان كان ولابد من فرض السلام فعلينا ان نقاوم القيادة السياسية التي تاجرت بنا لعقود......منذ اليوم سيتغير اسم حركتنا الى منظمة السلام الانساني... نعم .. فالسلام الانساني سيكون رسالتنا هذه...غدا ستتحرك ارتالنا العسكرية لاقتلاع السلطة من التجار السياسيين وسنبسط السلام على كافة ارجاء الدولة...
***
كان عقلا الضابطين متماثلين ومتوافقين ؛ لقد قررا التحالف تحت منظمة السلام الانساني والدخول الى العاصمة والاستيلاء على السلطة ، لقد كان تحالفهما الصامت والسريع هذا محققا للصدمة والمفاجأة اللازمين ، حيث فقدت القيادة السياسية القدرة على جمع شتاتها بسرعة ، وخلال ساعات قليلة كانت جميع القيادات السياسية داخل السجون.
بحكم متابعتي للقائد العظيم تم تعييني في أول تشكيل حكومي كقائد لحماية أمن السلام الانساني ، وهكذا تشكلت وحدة خاصة لتحقيق هذا الهدف السامي ؛ وحدة حماية السلام الانساني ؛ لقد منحوني سلطة مطلقة في رسم آليات العمل ؛ كانت ثقة عظيمة من القيادة وكنت كفأ لها ، قمت بتقسيم الوحدة الى أوتار ، كل وتر لديه مهمة واحدة لتحقيق الغاية النهائية. فهناك وتر الدعاية والاعلام ، وهناك وتر الرقابة ، وهناك وتر الوقاية ، وهناك وتر الدفاع المضاد وهناك وتر التقييم ثم أخيرا وتر الدراسات الاستراتيجية ودراسات المستقبل.
كان القائد العظيم يحصل يوميا ومنذ الصباح الباكر على تقارير مفصلة عن حالة السلام الانساني ومؤشرات استقراره داخل الدولة. وعن درجات قياس إيمان الشعب بضرورة السلام الانساني ، لقد كان الشعب مفعما بالأمل ، فلا أحد لا يحب السلام الانساني سوى تجار الحروب من الخونة والعملاء ... هؤلاء الذين حاولوا دائما زعزعة السلام الانساني عبر بث الفتن والسموم ، وتحريض الشعب على التمرد ، لكن الشعب كان أذكى منهم ، تجار الحروب من الخونة والعملاء كانوا يتلقون الدعم الخارجي الأجنبي لتهديد سلامنا الانساني ، وكنا نرصد كل تحركاتهم بدقة ، لقد حصلت على تفويض مطلق بالتعامل الحاسم مع كل من يهدد سلامنا الانساني ، وكنت استمد شجاعتي من إيماني بالسلام الانساني ومن إيماني بعزيمة واخلاص القائد العظيم.
إن الأهداف والغايات العظيمة لا تتحقق الا بالكثير من التضحيات ، فمن لا يؤمن بالسلام الانساني لا يستحق الحياة ، لا يستحق حماية القانون ، لا يستحق سوى السحق حد الفناء. وهكذا كان علي تنظيف الدولة من أعداء السلام الانساني بعمليات تطهير عميقة ومستمرة ، تطهير كل مفاصل الدولة من هؤلاء الاشرار محبي الحرب والموت والقتل أعداء السلام الانساني...كانت حربي عليهم بلا هوادة ، وتدميري لهم بلا رحمة ... وقمعي لأصواتهم المنكرة لا تردد فيه.... ان السلام الانساني كرسالة خالدة لا يتحمل الشفقة أو التهاون او التعاطف..فهو كل ما نملكه في هذه الحياة....كل ما نملكه حقا....
(تمت)