علي بن مكشر - أغاديس..

دخلت تمشي الهوينا، لم تلتفت يمنة أو يسرة، ينبعث من جنبيها عطر فاخر
فستانها يعانق الارض جرا ، و عمامتها تعانق السماء طولا ، ألقت التحية على الجميع ، بلسان عربي مبين : السلام عليكم ، ثم جلست على السرير الذي تحلقنا حوله، نجلس على رمل الحوش ، والقمر يرقبنا بسخاء وشفقة، ونسيم بارد يبعث الروح الطليقة فينا و يشدينا ، وكنت أرقب تلك المرأة ، بلقيس زمانها التي يتحلق بديوانها عشرات الرجال ، و لم يكن من بينهم إمرأة.
كانت سافرة الوجه ، بيضاء أملود ، مهفهفة القد ، لا طول و لا قصر ، ولانها طوارقية بيضاء ، خلتني لوهلة أمام الكاهنة ، تحكم بأمرها . تفحصت الحضور بفتور ، ثم بعينين دعجاوين رمقتني ، ثبتت بصرها نحوي و قالت:
- أنت... من أين أتيت ؟
قالتها بلسان فرنسي عريق وفهمت أنها تسأل عن بلدي الاصلي و ليس عن ألمكان الذي جئت منه.
- من تونس .
- آه من تونس!! بلد جميل، كنت هناك للتداوي مع والدتي الأسبوع الذي مضى...
تلك كانت أول ليلة في أغاديس ....
عندما ودعنا عصمان صباحا ، و ركبنا الحافلة من دوسُّو الى أغاديس ، كانت الشمس قد أخذت وضعية الرماية ، وجمعت نبالها من شتى غابات الارض لتبدأ ككل يوم في قصف النيجر ومن عليه .
أكل ما تفعلينه يا شمس في هذه البلاد ، هو تركيز اليورانيوم ، كي يدفيء بلاد الغال ، و يكون سلاحا فاتكا بيد الكفرة؟
لم تعبأ الشمس بعتابي بل ازدادت تنمرا وغيظا و لم تمض سويعات الا و سراب اللهيب يغطي الفضاء على مد البصر .
المسافة التي سنقطعها حوالي ثمانمائة كيلو متر ، مسافة تسمح لك بمحادثة رفيقك أو أي مسافر معك على نفس الرحلة ، كما تسمح لك بالمونولوج لتسال نفسك كل الأسئلة الغبية المعتادة ، ماذا أفعل هنا ، و لماذا و كيف، و انت تعلم مسبقا أن لا جواب .
طوال المسير ، كانت الحياة تغرغر ببطء ، لتدع المجال فسيحا لمشاهد الموت ، بدأت الأشجار تنفد شيئا فشيئا ، ثم أطل علينا شجر كالزقوم لا يثمر الا شوكا ، و هكذا الى أن تعودنا على مرأى الجثث النافقة ، المتفحمة من لهيب الشمس .
بطريقة قسرية ، كان ذهني منشغلا بالمقارنة ....
تركتها جنات تجري من تحتها الأنهار ، ليس بعيدا من هنا ، في البنين و الطوقو و غانا و ساحل العاج هناك حيث الثمار التي لا تنتهي طوال العام و جئت إلى حيث ينعدم الماء .
كانت ليلتنا الاولى في أغاديس ، عند أحد معارف مرافقي الليبي ، كان العشاء غاية في البساطة، صحن صغير من الأرز ، فوقه قطعة من اللحم ، زهدني فيها صغرها و شيء من حياء . ولان مضيفنا كان طوارقيا ، دعانا لنحضر لمة لهم يومية في دار تلك السيدة ، و لأول مرة في حياتي أشاهد امرأة تتحكم في أعناق الرجال ، دون بروباغندا بورقيبية ذهبت دخان سَحور، و عصفت بها رياح الأيام.


علي بن مكشر
كاتب من قبلي تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى