احماد بوتالوحت - المعطف.. قصة قصيرة

كان مساء لما فتح المعطف درفتي الدولاب الخشبي اللتين لم تكونا مغلقتين بالمفتاح ، وكان قد أقنع بعض رفاقه في الخزانة بضرورة الخروج لنزهة مسائية في المدينة عوض الإختناق برائحة النفتالين المغثية والرطوبة العفنة التي تزكم الأنوف. فصاحب البيت كما يعلم الجميع ( يقول المعطف) مريض وقد لازم فراشه ومنامته طوال الليلة الماضية ثم خلال النهار كله ومن المؤكد أن المرض لن يمهله كذلك خلال الليلة المقبلة، فليخرجوا إذن للنزهة، فالعليل لا يحتاج ثياباً.
لبس المعطف، القميص الأزرق الفاتح وطوق ياقته بربطة عنق خلفيتها بلون السماء، تزينها أقراص صغيرة بيضاء ثم لبس السروال الرمادي واعتمر قبعة سوداء من اللبد ذات حافة مستديرة، وأخيراً إحتذى حذاء أسودً لامعاً ناتيء البوز، ولم ينس أن يلتقط المظلة البنية التي ما زالت مستلقية بجانب الباب.
مشى المعطف مزهواً في الشارع الرئيسي للمدينة مُشَكِّلاً مع المجموعة كائناً غير مرئيٍّ و كان المطر مازال يهمي من السماء، ومن حين لآخر كان المعطف يضايق المارة بفظاظة ونزق. يبسط كفه إلى الأعلى فيلتقط حبات المطر ثم يرشها على وجوه أحد الأشخاص، يستشيط هذا الأخير غضباً، يلتفت حوله فلا يُبصر أحداً ثم ً ينظر في إتجاه السماء، يلعن كائناً مجهولاً ثم يغذ السير. وقد يحمل الطيش المعطف أن يسحب أحداً من الخلف ثم يبتعد، يصفع الضحية شخصأ آخر يسير خلفه، فيدخلان في عراك ينتهي بهما إلى مخفر الشرطة، وقد يجر شخصاً آخر من شاله حتى يدور حول نفسه ويسقط ثم يلوذ بالفرار، وأحياناً يكتب كلمات بذيئة على زجاج إحدى السيارات المركونة على الرصيف في الشارع. وحيال هذه السلوكات الشاذة كانت المجموعة تنخرط في ضحك هستيري يهز صدر الشارع، ويثير بعض الإحتجاجات مما إضطر المعطف أن يسلك شارعاً جانبياً أقل اكتظاظاً، ثم سار فيه. وفي الطريق ألحت عليه رغبة في التدخين، حينها تذكر البنطال أن من عادة صاحبه أن ينسى علبة من علب سجائره في أحد جيوبه، تحسس المعطف جيوب البنطال لكنه لم يعثر على شيء عدا حلقة مفاتيح أعادها تَوّاً إلى مكانها ثم سار إلى ان اشرف على إحدى الحدائق العمومية، دلف إليها، إختار أحد الكراسي، مسح مقعده بكمه ثم جلس، كان الجو في تلك اللحظة صحواً و ندياً ومشبعاً برائحة التراب والأعشاب الخضراء وأوراق الأشجار، مد رجليه أمامه، شعر حينها بخدر لذيذ يسري في جسده وكانت رغبته في التدخين قد تلاشت شيئاً ما، وكانت أضواء كابية تلقي بنفسها على الكرسي وحواليه، وفي تلك الأثناء، ركن شخص سيارته على رصيف الشارع المحاذي للحديقة ثم ولج الحديقة يسبقه عطره الفواح، انتدب احد الكراسي المجاورة لكرسي المعطف، مسح مقعده بمناديل ورقية ثم جلس ولف ساقاً على ساق، أخرج علبة سجائر من جيبه أشعل سيجارة ثم وضع العلبة بجانبه على المقعد، شم المعطف رائحة التبغ فعاودته الرغبة في التدخين، لاحت منه إلتفاتة نحو الكرسي المجاور رأى علبة السجائر على مقعده، قام إليها ثم انتشلها، لكن خفة يد الرجل تتبَّعت العلبة التي بدت طافية في الفضاء، وصدفة أمسكت بيد المعطف واطبقت عليها بقوة، أحس الرجل الذي كان طريح فراش المرض في البيت أن أحدا يطبق ككماشة على رسغه ويكاد يقطعه، وفيما بعد شعر بنفسه يخبط على الارض ويسحل عليها فيما المعطف يترنح ويرتطم بكرسيه حتى سقطت قبعته، وأخيرا سدد الرجل لكمة قوية في الفراغ طالت صدر القميص، ترنح المعطف ثم سقط على الأرض المبللة، فسقطت العلبة منبعجة من يده، إلتقطها صاحبها، كانت سجائرها مبعوجة ومجعدة وفي الوقت الذي كان فيه الرجل يتفحص سجائره، فوجيء برأس المظلة ينغرز في أحشائه، سقط جسده على التراب يتلوى، أصلح المعطف هندامه واعتمر قبعته، ثم هرول خارج الحديقة، وقفل راجعاً إلى البيت تاركاً الآخر يتخبط في دمائه، ومن الحديقة إلى البيت كان رأس المظلة ينقط دما بينما مشط الحذاء يَسِم الرصيف بلون أحمر، صدر القميص كان غارقاً في الدماء، بينما، كان قلب المريض يخفق بشدة.
الرجلان اللذان جاءا إلى البيت، كانا يتتبعان أُثر الدم، في البداية كان المريض يسمع طرقات واهية كأنها تأتي من بعيد، وكان يظن أنه في حلم لكن الطَّرَقات التي بدأت الآن تشتد وتصخب إنتزعت المريض من فراشه، أسند جسمه على أحد مرفقيه تحامل على نفسه وكانت حركاته واهنة وثقيلة، بالكاد فتح الباب ثم سقط خلفه، تتبع الرجلان أثر الدماء التي قادتهما إلى دولاب الملابس، سحبا درفتي الخزانة، كان كل شيء مكانه، المعطف في علَّاقته مكويا بعناية، القميص ناصعا يكاد يخطف الأبصار، ولا أثر لبلل أو تراب على مشط الحذاء الذي بدا أنه يغفو في مكانه قرب باب البيت ورأس المظلة يلمع كصلعة.


احماد بوتالوحت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى