كنتُ أمشي في أرض خبقة عفراء.. تحركتْ غيوم صوب الجنوب مثقلة بالحيا.. جدتْ بعدها ريح شمالية في الهبوب فأنشطتْ العفر وابتدأ يدور.. وأخذت الأرض تهش بسرعة مفزعة.. جعلتُ أعدو بصدري وساعديّ على الرمل الذي جنّ فجأة والحفرة التي لا يثبت عمقها ولا شكلها تسكنها قوة جبارة تجذب رجليّ إليها.. شلّ دوران العفر في جوف الحفرة عقلي.. كان يحاربني من كل المواقع في جسمي.. استطاع أن يدخل فمي مرات كثيرة.. يدخل يابساً وأتفله وأنا أدور رطباً.. الرهبة من الموت دفقتْ لعابي على شفتي وثبقت عيوني.. لم تمهلني الريح لحظة أمسح فيها العفر اللاصق بشفتيّ أو أنفض رأسي أو أجرب اللهاث واقفاً.. كنت أريد منها أن تدعني أصيغ عبارة دعاء واحدة سليمة التركيب تعبر عن قوة اللجوء.. ولم تمنّ عليّ إلا بزيادة في الدوران وجهد أكبر في المقاومة والنجاة من الغرق في الرمل.. صرتُ نصف ميت بلا تغسيل وبلا حساب.. مكفنٌ نصفي بالرمل ونصفي الآخر ميممٌ بالغبار..
أنشأتِ السماء تُنجبُ مطرًا وتوائم من البَرَد تنفصل عن الأرض.. برودة الهواء التي حمرتْ أنفي وحبات البَرَد التي تصطدم بكتفي أيقظاني من الموت.. رخاوة الأرض سمحت للمطر بالتشرب في الرمل بسرعة، وكثافة المطر مع محاولتي النهوض سمحتا للوحل بالنمو في اضطراد.. كنتُ كالموجود في إناء بارد حوافه تلسع ساقيّ.. الزكام الهابط عليّ من السماء خفف برودة الإناء الموحل، فحرارة جسمي قد ارتفعتْ.. كلما حاولتُ النهوض من الطين ضرب الالتواء الذي سببته حركة العفر رقبتي وترقوتي..
كنتُ أغوص في الطين وأسبح حتى لؤست أظافري.. لم أدرِ أن للطين كل هذه القوة وأن السماء تخبئ في بطنها كل هذه الكمية الهائلة من الخوف.. أخذتُ أصيح وعيوني تثبق: كفي يا سماء عن إمطارِ أمطار الموت، إنني أحبك منذ الصغر.. أترك ثدي أمي وألعب معك.. تطاردني أمي وتزلق وأنتِ تمطرين لي.. أبتسم لك وأفتح فمي وأجمع حبات البرد.. كم مرة عافت نفسي الغذاء من أجلك.. كم عانيتُ رفض كرسي المدرسة حين كانت حبات مطرك تطرقُ عليّ زجاج نافذة الفصل.. أنا لا أستطيع الخروج لمطرك وهو لا يستطيع الدخول إليّ.. كيف أستطيع الآن جمع حبات بردك؟! ستذوب قبل أن أقدمها للأنثى النائمة التي تحلم بشكل طفلنا.. بلون عينيه.. بجمال أنفه.. وعذب لثغته.. لا تذهبي بمطرك إلى الجنوب.. لا توقظيها.. دعيها تحلم.. اتركيها تنام.. مدّي لها حبلًا من أمامي أو من ورائي لا يهم.. المهم أن أزايل الطين وأجمع لها حبات البرد قبل أن تذوب.. وأنتِ يا حبات البرد.. لا تذوبي على العفر.. ابقي قليلا لتذوبي في ثغرها.. وأنتِ يا حبات المطر التي رضعتك بعد حليب أمي.. اغسلي شاربي من الطين فهي تحبه أسودَ لامعًا.. وأنتَ أيها الالتواء الكريه ما كنت لتجرؤ على ضرب عنقي وترقوتي لو أنها كانت موجودة.. إنني أعرفك لا تخاف المراهم.. تخاف يدها التي تمتص أوجاعي.. وأنتِ أيتها الشمس الخائفة من المطر.. ها أنتِ ذي تُذيقينني الأمرّين، إن أشرقتِ ذابت حبات البرد، وإن لم تشرقي ظل الطين لزجاً.. أرجوك ألا تشرقي.. البرد يعضني.. يرعشني.. العطاس يمدني بقوة أرفع بها صدري وأتنفس.. كلّتْ قدماي ويداي وحرمني الطين المُتكوّم حول أذني سماع صوت المطر واستمرت الغيوم تزحف بقوة صوب الجنوب..
الروائي والقاص ناصر الجاسم
أنشأتِ السماء تُنجبُ مطرًا وتوائم من البَرَد تنفصل عن الأرض.. برودة الهواء التي حمرتْ أنفي وحبات البَرَد التي تصطدم بكتفي أيقظاني من الموت.. رخاوة الأرض سمحت للمطر بالتشرب في الرمل بسرعة، وكثافة المطر مع محاولتي النهوض سمحتا للوحل بالنمو في اضطراد.. كنتُ كالموجود في إناء بارد حوافه تلسع ساقيّ.. الزكام الهابط عليّ من السماء خفف برودة الإناء الموحل، فحرارة جسمي قد ارتفعتْ.. كلما حاولتُ النهوض من الطين ضرب الالتواء الذي سببته حركة العفر رقبتي وترقوتي..
كنتُ أغوص في الطين وأسبح حتى لؤست أظافري.. لم أدرِ أن للطين كل هذه القوة وأن السماء تخبئ في بطنها كل هذه الكمية الهائلة من الخوف.. أخذتُ أصيح وعيوني تثبق: كفي يا سماء عن إمطارِ أمطار الموت، إنني أحبك منذ الصغر.. أترك ثدي أمي وألعب معك.. تطاردني أمي وتزلق وأنتِ تمطرين لي.. أبتسم لك وأفتح فمي وأجمع حبات البرد.. كم مرة عافت نفسي الغذاء من أجلك.. كم عانيتُ رفض كرسي المدرسة حين كانت حبات مطرك تطرقُ عليّ زجاج نافذة الفصل.. أنا لا أستطيع الخروج لمطرك وهو لا يستطيع الدخول إليّ.. كيف أستطيع الآن جمع حبات بردك؟! ستذوب قبل أن أقدمها للأنثى النائمة التي تحلم بشكل طفلنا.. بلون عينيه.. بجمال أنفه.. وعذب لثغته.. لا تذهبي بمطرك إلى الجنوب.. لا توقظيها.. دعيها تحلم.. اتركيها تنام.. مدّي لها حبلًا من أمامي أو من ورائي لا يهم.. المهم أن أزايل الطين وأجمع لها حبات البرد قبل أن تذوب.. وأنتِ يا حبات البرد.. لا تذوبي على العفر.. ابقي قليلا لتذوبي في ثغرها.. وأنتِ يا حبات المطر التي رضعتك بعد حليب أمي.. اغسلي شاربي من الطين فهي تحبه أسودَ لامعًا.. وأنتَ أيها الالتواء الكريه ما كنت لتجرؤ على ضرب عنقي وترقوتي لو أنها كانت موجودة.. إنني أعرفك لا تخاف المراهم.. تخاف يدها التي تمتص أوجاعي.. وأنتِ أيتها الشمس الخائفة من المطر.. ها أنتِ ذي تُذيقينني الأمرّين، إن أشرقتِ ذابت حبات البرد، وإن لم تشرقي ظل الطين لزجاً.. أرجوك ألا تشرقي.. البرد يعضني.. يرعشني.. العطاس يمدني بقوة أرفع بها صدري وأتنفس.. كلّتْ قدماي ويداي وحرمني الطين المُتكوّم حول أذني سماع صوت المطر واستمرت الغيوم تزحف بقوة صوب الجنوب..
الروائي والقاص ناصر الجاسم